ينتمي الفنان المغربي صلاح بنجكان إلى جيل الفنانين المغاربة الجدد، الذين راهنوا على « فعل الإبداع « لا باعتباره ممارسة طارئة أو سهلة المقاربة والاقتراب، وإنما هو تمرين يومي ومغامرة خطرة، تقتضي التسلح بترسانة من المعارف والخبرات والجرأة على الاختيار كما على المبادرة. وهو بذلك، حين يختار الإقامة في « اللعبي « في « الحلمي « وفي اللا متوقع، إنما يفعل ذلك بخلفية من يصر على البقاء قريبا من كل ما يؤسس لشرط تحقق كل هذه الحالات، بما هي اختيار لا يخلو طريق الذهاب إليها والاستثمار في جغرافياتها من خطورة ومن التباس ومن جدية كذلك. بهذا المعنى، تقريبا، يمكن اعتبار العمل الفني في تجربة هذا الفنان المراكشي لحظة اقتناص دقيقة لأفعال ووضعيات ولحظات وجود عابرة وغير ذات إمعان في احتلال المكان أو محاولة الانشغال بتثبيته في الزمن. إنه اشتغال إبداعي وفني يروم اجتزاء الأحاسيس الخاصة والدالة ووضعها في قالب صباغي هو أقرب إلى البوح منه إلى الثرثرة المجانية، إن في تعامله مع الموضوعات أو التقنيات أو المواد. ولعل هذا الانشغال بالتفاصيل هو ما يجعل هذه التجربة وصاحبها يميلان إلى تشذير المشاهد الكبرى، عبر التركيز على ما يفي بنقل شحنات إنسانية وجمالية دقيقة، وحدها تكون كفيلة بمنح اللوحة، في نهاية الأمر، دلالات متنوعة. فمنذ أعماله الأولى، راهن بنجكان على تدمير مساحة الحذر في تعامله مع كل الوسائط الشكلية -التشكيلية التي تقود إلى إنتاج العمل الفني. ذلك أن اشتغاله على اللون مثلا، باعتباره لغة تشكيلية خالصة، لا يتم انطلاقا من المراهنة على المزج بين كيمياء هذا العنصر المدهش في حد ذاته، من أجل خلق مساحات لونية جديدة ومبتكرة لا ينقصها الالتباس المبني على عنصر المفاجأة، وإنما ظل وفيا، في أغلب الأحيان، للتوظيف الأحادي لهذا العنصر، ومنحازا ل « تقشفه « الذي لا يخلو من صعوبات ومن مشقة. أضف إلى ذلك ميله الكبير إلى استعمال اللون في صفائه البدائي الأصلي، مع ما تتطلبه هذه المغامرة من تركيز على عنصر الجوار والتقابل والتكامل، وهي كلها تقنيات - كما يقال - ليست مطروحة في الطريق. من هنا تبرز صعوبة المزاوجة بين أطباق لونية صاخبة ولامعة، دون أن يتسبب ذلك في إنهاك وإتعاب العين الباحثة عن عنصر الانسجام والمواءمة داخل اللوحة. وفي مقابل ذلك، ظل اشتغال الفنان حثيثا على الموضوعات، أو بالأحرى على الحكاية التشكيلية، بما هي استثمار في العابر والهش والبسيط. وعلى هذا المستوى، يعتبر الإنسان في أقصى - أقسى حالات تشتته وتمزقه وانخطافه الوجودي إحدى العلامات التي تحفل بها ماكينة هذا الفنان الفنية. فالإنسان في أعمال بنجكان ليس عنصر تأثيث لفضاء تشكيلي قبلي، كما أنه ليس خلفية تكميلية لمشهد جاهز أو موضوعة إشكالية طاغية، وإنما هو الإشكالية الأساس في موضوع أعماله الصباغية. فالإنسان بأعطابه النفسية والوجودية، في تماهيه مع آلة اليومي القاهرة، وفي لحظات استلابه القصوى داخل سيرورة الزمن وتعاقب المواقف والصعوبات، ظل حاضرا بقوة في مختلف أعماله، تستوي في ذلك الفئات والطبقات وأنواع البشر. ولعل ذلك ما يبدو واضحا من خلال إبراز الفنان، بغير قليل من المبالغة الصريحة، وبلمسة لا تخلو من سخرية ومن تلطيف لوني تعبيري، لنظرات شخوصه الشاردة، الفارغة والواقعة تحت سحر وسلطة الفضاءات المقتنصة من داخلها، تحيل على الحضور السالب والغياب القاسي والاستسلام لعنصر المفاجأة، الذي قد يحول الإنسان - بتدخل من الفنان - إلى مجرد دمية. فالأكيد أن استمرار مراهنة الفنان صلاح بنجكان على هذا العالم المطبوع بالألم واللاطمأنينة، هو رهان على جوهر يتخذ أشكالا متقلبة ومتحولة في الزمان وفي المكان. أشكال يطبعها التنوع والتحول والاستمرارية. بهذا المعنى، نفهم إصرار الفنان على الإقامة في منطقة الخطر، في منطقة العبور واللا استقرار، إن تشكيليا أو على مستوى الوعي المنحاز إلى الإحساس بالشقاء وضياع بوصلة الجغرافيات. فرغم بعض المحاولات التجريبية التي ركبها صلاح بنجكان، من أجل تنويع مقارباته وتغيير زوايا نظره للعالم وللأشياء، والتي بلغت في بعض الأحيان درجة مسح طاولته الفنية للبداية من نقطة صفر جديدة، أي تجريب أسلوب جديد وتقنيات مختلفة تماما عما راكمه من مهارات ومن بصمة تحيل على مجمل أعماله، إلا أنه سرعان ما كان، في كل مرة، يرجع إلى شخوصه المعطوبين وإلى ألوانه الصافية، وإلى حركاته وخطوطه وضربات فرشاته العنيفة التلقائية، التي لا تخلو من مهارة ومن مجازفة ومن إبداع. هكذا أستحضر هذا الفنان القلق باستمرار، المنتج بوتيرة متسارعة وبتقنيات متنوعة. كأنما يخاف أن يبلغه التعب أو تنال منه الشهرة، وهو لا يزال يمني النفس في الحفر عميقا في تربة التشكيل المغربي لإضافة جملة ما أو مفردة تحسب في مساره الفني، أحيانا بانفعال واضح، وأحيانا أخرى بإحساس طفل شقي لا يريد أن يكبر إلا في أراضي أحلامه الفنية.