يكشف خطاب دعاة الإسلام السياسي عن سعيهم إلى بناء مجتمع جامد منغلق على ذاته ومنفتح على مثال ماضوي، حيث يطمحون إلى حكم العالم عبر إقامة نظام ثابت لا تاريخي لا علاقة له بحركية الواقع والعالم، لأنهم يعملون على إعادة إنتاج نموذج مجرَّدٍ ميت غير قابل للتحقيق اليوم، ويعتقدون أنه الحق المطلق، ما يجعلهم يمارسون كل ما يمكن من إرسائه بما في ذلك ممارسة العنف والإرهاب المعنويين والماديين. تقتضي ممارسة الديمقراطية الحركية والتغيرات وإبرام التعاقدات، لأن الديمقراطية تنبني على الزمن الحيوي والحركية الدائمة والتواصل الذي يؤدي إلى إقامة علاقات جدلية تفضي إلى تفاعل سليم يؤدي بدوره إلى التحول والتقدم والتطور. فهي تتسم بالحياة والتغير والتحول وتُبنى بإرادة وعزم صادرين عن قوى حية، كما أنها تنهض على العقل والحوار بين الجهات المشاركة، وعلى الفعل التواصلي الحضاري والتفاوض من أجل التوصل إلى بناء مشاريع مجتمعية تتجسد فيها أرقى المعاني والقيم الإنسانية الديمقراطية. أما منطق الدولة الدينية، فيقوم على عكس ذلك ويسير في الاتجاه المعاكس، حيث يولد ويعيش ويتسم بالجمود وبالموت وباللامعقول. وتعتبر الدولة الدينية أكبر عدو للديمقراطية، لأنها نقيضها وتحول دون بنائها... تقتضي الدولة الدينية التي تنهض على مبدأ «الحاكمية لله» إزاحة الفاصل بين العقيدة باعتبارها اختيارا شخصيا خاصا وبين الممارسة العامة، وبذلك يتم السماح لما هو ديني ومقتصر على وجدان الإنسان بأن يقتحم كافة مجالات الحياة الاجتماعية ويتطاول عليها، فيتم نفي العلاقة المباشرة مع الله التي يُفترضُ أن تكون حاجة شخصية تدخل ضمن سجل الحميمية الروحية لفائدة الرغبة في فرض وصايات وسلوكات لا تدخل في هذا السجل أصلا، بل يتم تحويل علاقة المخلوق بخالقه إلى علاقة غير مباشرة تقتضي وساطة الطائفة الدينية- السياسية... تلك نهاية الدِّين باعتباره تجربة ذاتية فردية لفائدة دين يأتمر بأوامر الغير وينحني لإملاءاته... على هذا النحو يجري السعي لجعل الدين مسألة دولة لا مسألة طائفة محدودة أو مجموعة منحصرة، بل قضية مجتمع بأكمله. وتعرف النزعة الشمولية هذا التعميم لما هو سياسي على كامل المجال الإنساني، يخدم فكرة طائفية الدولة وفاشيتها...، وتقوم عليه الأسرة والعمل والبيت والمدرسة والثكنة والمستشفى والجريدة والنشر والفن والترفيه والقراءات والحياة الجنسية والمحكمة والملعب والثقافة وما إلى ذلك... إنها إيديولوجية شاملة عند دعاة الإسلام السياسي تلغي الذات والآخر، وتصادر حرية الفكر والفعل... يتناقض مفهوم الدولة الدينية مع كل ما نظرت له فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر في أوروبا من إدانة للفكر الخرافي ورفض للتعصب، وإلغاء للرقابة على الفكر والمعتقدات، ورد للطغيان، ومعارضة للاستبداد السياسي، وأهمية كلمة الشعب وإرادته في منح الشرعية للحكم و/أو انتزاعها منه، وعدم قبول تديين السياسة وتسييس الدين، ونبذ الإيمان بالفكر السحري، وتوسيع حرية التفكير والتعبير، وإعلان المساواة في الحقوق، واعتبار أن كل قانون يجب أن يقوم على التعاقد حول السعادة الاجتماعية، والطموح إلى عالمية سيادة العقل، وهي موضوعات يرفضها الإسلام السياسي على نحو ما تُجسِّدُه تياراته المعاصرة. تدعي بعض القوى العظمى أنها تعمل على مساعدة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على الدمقرطة، ولكن كيف يمكن تصديق دعوتها هذه وهي تساند جماعات الإسلام السياسي وتفرضها في هذه المنطقة، وتوصي دول الخليج بدعمها ماليا رغم كونها تحمل مشروعا ينتمي إلى القرون الوسطى يتناقضُ جذريا مع الأسس نفسها التي بوأت هذه الدول مراكز الصدارة في عالم اليوم (الأنوار، الحداثة، الخ.)؟ ألا ينم ذلك عن رغبة في إرساء محاكم التفتيش في هذه المنطقة، ما يتعارض جذريا مع طبيعة الديمقراطية؟... تُرَوِّج هذه القوى العظمى لكونها ترغب في جعل زعامات الإسلام السياسي على رأس الحكومات العربية لكي يكتشف الجميع أنها لا تحمل مشروعا ولا تمتلك رؤية، ما يعريها ويقلص شعبيتها. قد يظهر هذا الكلام منطقيا للوهلة الأولى، لكن عندما يتأمله المرء يجد أنه عار من أي صواب. ويعود ذلك إلى أن أغلبية شعوب هذه المنطقة لم تشارك في الانتخابات لأنها لا تثق في العملية السياسية أصلا، كما أن بعض هذه القوى العظمى قد مارست الضغوط من أجل النفخ في عدد المقاعد المحصل عليها من قبل هذه الجماعات، ما يجعل المتتبع يعتبر هذه الأخيرة لا تمتلك الشعبية التي تريد القوى الخارجية إيهامنا بأنها تمتلكها. أضف إلى ذلك أننا عندما نمعن النظر في ما يجري في هذه المنطقة، نرى أن بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط قد دخلت في حرب طائفية ضربت وحدتها الوطنية الهشة وفتت أوطانها. فأين يمكن بناء الديمقراطية عندما يتبخر الوطن نتيجة الصراع الطائفي؟ وهل يمكن بناؤها بدون وطن؟ وكيف يمكن ذلك؟...