بعد عودة أحد مشايخ الإسلام السياسي من الخليج، نصَّب نفسه قاضيا باسم الله تعالى، فطلع علينا بخطاب يُكَفِّر فيه الدولة والمجتمع معا. ويدل هذا على اعتناق الشيخ أطروحة "الولاء والبرء" التي يكفر أصحابها كل من ليسوا معهم، وبذلك أخرج الأغلبية الساحقة من المغاربة من الإسلام. وتقتضي هذه الفتوى تطبيق حد الردَّة الذي هو القتل، وتكمن خطورة هذا النوع من الخطاب في أنه يشعل نار الفتنة التي قد تتحول إلى حرب طائفية، كما ينبغي ألا ننسى أن الفكر التكفيري هو الذي حوَّل الإسلام إلى مشكلة عالمية... يحمل هذا الشيخ أطروحة انقلابية مفادها أن إسلام المغاربة في الوقت الحاضر ليس من الإسلام في شيء. ويعبر تكفيره للدولة والمجتمع عن رغبته الجامحة في إقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة.. وبذلك فهو يسير في الاتجاه المعاكس لقوله تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ". (النحل:125]. يُعد التكفير تسلطا دينيا وعقديا ومذهبيا وطائفيا، حيث تمارسه فرق تعتبر نفسَها ناجية ضد من تصفهم بأصحاب الفرق الضالة والهالكة، وذلك على أساس حديث رواه القدماء مشكوك في صحته من لدن عدد من الفقهاء، أمثال ابن حزم والعز بن عبد السلام... وكلما غاب القانون وسادت ثقافة الإقصاء، انتشرت ظاهرة التكفير، وذلك رغم ادعاء الناس بأنهم ديمقراطيون، إذ تؤكد الممارسات عكس ذلك. وإذا كان الاجتهاد يشكل أحد مصادر التشريع فهو بطبيعته متعدد، ما أدى إلى ظهور فرق متعددة في تاريخ المجتمع الإسلامي. وهكذا، فقد كان هناك حوار داخلي بين اتجاهات إسلامية متعددة، ومذاهب فقهية مختلفة، وطرق صوفية متناقضة، ومناهج للتفسير متباعدة...، مما أثرى التراث الإسلامي. وقد تعايش الجميع في حضارة واحدة ضمت المسلم وغير المسلم، السني والشيعي، الأشعري والمعتزلي والخارجي، المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي، الظاهري والباطني، العقلي والقلبي... كما أن القرآن يقر بتعددية الصواب، "وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" (سورة سبأ، الآية: 24). لذلك، لا فرق بين التسلط الديني والتسلط السياسي، بل إن الأول هو ذاته مدخل للثاني. لا ينجم عن فرض الرأي الواحد سوى التقليد والجمود وتكرار المحدثين للأوائل. وهذا ما نعاني منه اليوم في كافة المجالات، دون أن ندرك أن الزمان يتغير والأحوال تتبدل، والفكر يتحول ويتطور.. وبما أنه لا يمكن السير بساق واحدة، والتنفس برئة واحدة لا يمكن رؤية العالم بعين واحدة ومن زاوية واحدة... كما لا يمكن أن يكون هناك تقدم بدون تطوير مستمر للافتراضات والانتقال من فرضية إلى فرضية أخرى. وإذا كان كل افتراض ينطبق على دائرة من دوائر الطبيعة، فإن الافتراضات تتسع باتساع هذه الدوائر، أضف إلى ذلك أن الواحد منها لا يستبعد الآخر بل يضمه. وإذا كان العلم عبارة عن دوائر متداخلة، فإن الأمر نفسه ينطبق على الدين، حيث إنهما يقومان على الضم وليس على الاستبعاد. كما أنهما لا ينهضان على التكفير، وإنما على الحوار الذي كلما غاب إلا وسقط الإنسان في التقليد والجمود. علاوة على ذلك، فقد تطور الوحي ذاته من رسالة سماوية إلى أخرى، بل إن الشرائع قد تغيرت في حياة الرسول محمد (ص)، حيث تبدلت الأحكام بتغير الظروف والأحوال بغية تحرر الفكر البشري وتحريره (حسن حنفي). إن حرية الرأي حق طبيعي للإنسان لا يمكن حرمانه منه. وإذا مُنِعَ من ممارسته علنا فعَلَ ذلك سرا، ولكن عادة ما ينتصر السري على العلني. هذا أحد أهم الدروس التي يعلمنا إياها تاريخ الحركات السرِّية الدينية والسياسية. يسعى التكفيريون إلى الشهرة والفتنة والكسب المادي، حيث يعيشون على الإثارة وينحرفون بهموم الناس إلى ما هو غير مفيد لهم، إذ يجرونهم إلى الانغماس في مناقشة شكل اللحية واللباس وغير ذلك من السفاسف، ويبعدونهم عن الاهتمام بقضايا الوطن والحرية والديمقراطية... ويرمي الخطاب التكفيري إلى السيطرة على الناس عبر الأوامر والنواهي والواجبات والمحرمات، إذ يهدد ويقمع ويكبل باسم الحدود، وبذلك فهو لا يحرر ولا يدفع إلى التحرر، بل يدفع إلى الطاعة والاستسلام، حيث يفرض أداء الواجبات ويهمل الحقوق. كما يتوعد بالجلد والرجم وقطع الأيدي والقتل والصلب دون توضيح العلل والأسباب... وكما يتوعد بجهنم التي تلظي، يعدُ أيضا بالجنة والحور العين والماء الدهاق، وبعالم كله سعادة. فيتربى الناس على الطاعة وينشأون على الخوف، وينتظرون الخلاص من مآسي الدنيا بعد الموت. إنَّ هذا الخطاب لا يتضمن إلا الواجبات والمحرمات، ويغيب عنه المندوب والمكروه، أي ما يفعله المرء اختيارا وما لا يفعله اختيارا، وذلك حتى لا يفكر الناس ويتعودون على حرية الاختيار. كما يغيب عنه المباح أي ما تركته الشريعة بلا حكم شرعي. لا تجوز مماهاة الإسلام مع الشريعة، فذلك يؤدي حتما إلى تحجر الفكر، حيث يعتقد المرء أنه استطاع إنجاز المثل والمبادئ بشكل مطلق. إن المطابقة بين فهم شخص أو جماعة معينة، أيا كانت، وبين مبادئ الإسلام ومثله العليا بشكل مطلق، أمر غير مقبول، إذ لا يمكن للإنسان أن يستنفد معانيها فهما وإنجازا، بل يتطلب الأمر الاجتهاد في قراءتها حسب تطور العصور. ويسقط بعض الليبراليين في الخطأ نفسه عندما يعتقدون أنهم تمكنوا من إنجاز الحرية والعدل والمساواة بشكل مطلق. عندما يظن الفقيه أنه قد فهم الإسلام فهما مطلقا، فهو يحاول إقامة سلطة دينية في الإسلام، كما هو الشأن في المسيحية، حيث توجد سلطة كنسية تدرك أسرار الدين المسيحي وتحدد شروط الإيمان والكفر. إلا أنَّ الإسلام نهى عن هذا وحاربه مؤكدا أن «لا رهبانية في الإسلام». فلا يمكن تقليد الشيخ في كل شيء كما هو الأمر لدى الشيعة، كما لا يمكننا ألا نطرح أسئلة على من هم أكثر منا علما ومعرفة. لكن لا يجب أن ننظر إليهم بكونهم هم الإسلام ذاته، أو أن فهمهم هو الفهم المطلق له، فمن شأن ذلك أن يؤدي إلى احتكار الإسلام من قبل جهة معينة، ما لا تقبله طبيعة النص ويرفضه هذا الدين ذاته.. عندما طلب الخليفة المنصور من الإمام مالك أن يجعل كتابه «الموطأ» مرجعا للمسلمين، رفض الإمام ذلك لأنه لم يقبل أن يفرض رأيه على المسلمين! فلماذا يريد بعضهم اليوم أن يفرض رأيه على الناس بالقوة والعنف رغم أنه يعرف أنه أقل فقها من الإمام؟! يكمن خطر الفقيه التكفيري في اعتقاده أن آراءه هي التجسيد الفعلي لإرادة الله أو للإسلام. ولكن، لكي نتعايش في سلام ونصل إلى كلمة سواء، من الضروري ألا نعتقد بأن رأينا أو مذهبنا أو منهجنا أو طائفتنا أو فتاوانا هي الحق المطلق، أو بأننا مكلفون إلهيا بحماية الإسلام، فذلك يعد شططا، بل ومن شأنه أن يدخل المسلمين في فتن وحروب أخطر من تلك التي عرفتها أوروبا بين الكنيسة والخارجين عليها خلال العصور الوسطى. تبعا لذلك، ينبغي أن يظل الإسلام مثالا أعلى نسعى باستمرار، وعلى مر العصور، إلى الوصول إليه أكثر فأكثر، وذلك دون أن نبلغ الكمال. لقد ضربنا الانحطاط المضاعف على كافة المستويات عندما سلمنا بالقولة القائلة: «ليس في الإمكان أبدع مما كان»، حيث تجسد هذه الفكرة دعوة إلى التخلي النهائي عن العقل، والحال أنه يجب على الإنسان أن يأخذ بعين الاعتبار اختلاف الزمان والمكان والأشخاص والظروف السياسية والاجتماعية وغيرها. كما ينبغي عليه أن يطلب البحث عن الحقيقة والحق لا الانتصار لأفكاره الخاصة أو المعاندة، إسوة ببعض المنارات المضيئة في الفقه والفكر الإسلاميين. ففي رد ابن رشد على هجوم الغزالي على الفلاسفة، يقول فقيه قرطبة وفيلسوفها، مدافعا عن الفلاسفة، ما مفاده أنَّ الفلاسفة لو لم تكن لهم من الغايات سوى طلب معرفة الحق لكان هذا وحده كافيا لمدحهم، وأنَّ من أراد الوصول إلى الحقيقة والانتماء إلى أهلها، وصادف انتقادات شنيعة من خصومه/ فيحق له أن يحاججهم بمنطقهم ويستعير منهم طريقة تفكيرهم لإقناعهم، كما يتعين عليه أن يُنصت مليا إلى سائر آراء مخالفيه ويُخضعها للتحليل... ثم يضيف: «ومن العدل كما يقول الحكيم [يقصد أرسطو] .... أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه».. لقد انتشرت ظاهرة التكفير في معظم طوائف المسلمين حديثا، ويعود ذلك إلى ضعف معرفة ممارسيها أو رغبتهم في تنفيذ مشروع لهم مصلحة من ورائه. فبعد وفاة الرسول (ص) ظهرت خلافات متعددة بين صحابته، لكنها لم تكن عقدية، إذ لم يكن موضوعها الإيمان، بل كانت ناجمة عن اختلاف وجهات النظر في مجالات محددة، ولكنها لم تبلغ درجة تكفير الواحد منهم الآخر. كانت حروبا بين مسلمين ومسلمين. نتيجة انتشار الجهل والتضليل والسعي وراء المصالح الخاصة، بدأنا نشاهد في العصر الحديث تبادل التكفير بين الأفراد والجماعات. ومن المؤسف أن الدماء لا تزال تراق في الشرق الأوسط نتيجة ما يروجه بعض الفقهاء من فتاوى تكفيرية، بغية جمع الأموال من الخليج وتكديسها مقابل تنفيذ مشروع القوى العظمى في هذه المنطقة... لقد احتضنت دولة خليجية شيخنا صاحب فتوى تكفير المغاربة واعتبارهم غير مسلمين، وأغدقت عليه الأموال كما استضافته قنواتها الفضائية. لكن هل هي في حاجة إلى اجتهاداته أم أنها استقدمته بقرار غربي بغاية تكوينه وتأطيره ليكلَّف بعد عودته إلى المغرب بمهمة سياسية تحت غطاء دعوي؟ ألا يؤدي ما يؤديه بمقابل؟ ألا يعمل على زرع الفتنة بخطابه التكفيري هذا الذي يستهدف الوحدة الوطنية لبلادنا؟ ألن تؤدي ممارسة الطائفية إلى إيقاظ طائفيات ونعرات أخرى؟ ولمصلحة من يشتغل هذا الرجل وأمثاله؟ لا يفصل هذا الشيخ بين »الأممي« و»الوطني«، ما يعني أن مصلحة الوطن غير واردة في جدول أعمال تفكيره التكفيري، لأنه يتبنى مبدأ »الأممية« الذي تتبناه جماعات الإسلام السياسي، حيث ليست المصلحة الوطنية هي وازعها، لأن متطلبات الالتزام التنظيمي للجماعة تتناقض من حيث طبيعتها مع الالتزام الحزبي الوطني. كما أنها لن تساهم في إنشاء مجتمع سياسي طبيعي. ينتمي هذا الشيخ إلى «جماعة التوحيد والإصلاح» وإلى «حزب العدالة والتنمية» في آن. ويسري الأمر نفسه على «رئيس الحكومة»، ما جعل بعض الملاحظين يستخلصون أن هذا الحزب يريد الجمع بين «رئاسة الحكومة» والمعارضة في آن. وهذا ما يكشف عن رغبته في الاستيلاء على السلطة بدعم من بعض القوى العظمى والسلفيين... لكن عليه أن يعلم أن إرضاء هذه القوى والاستجابة لرغبات المؤسسات المالية الدولية، وخدمة أهداف العولمة الليبرالية المتوحشة، لن تجعل منه سوى أداة لإضعاف بلادنا وتفتيت وحدتها... خلاصة القول إن التكفيريين قد تحولوا اليوم إلى ورقة إقليمية في يد القوى العظمى التي صارت حليفة لهذه الجماعات مع أنَّ هذه الأخيرة نفسها كانت قد سعت حتى عهد قريب إلى الظهور بمظهر معاداتها.