كيف حدث أني أحب كل ما يكتبه محمد بنطلحة؟ أحبه من مطلع «نساغ» حتى مفرق «الخسارات التي لا يفرّط فيها». أحب كل ما يكتبه وما سيكتبه حتى قال عني شاعر آخر من أصحاب »اليتيمات«: »ذهبت القصيدة بجزء من فتاها، لدرجة لم يعد للفتى من نفسه قطعة«. كيف حدث كل هذا ؟ إليكم الحكاية كما بدأت: أن تعتريك خفقة كالقوس الراجف في سماء الشغف، وأنت تقر? السطور قبل أن تلتقي الكائن من لحم ودم. عندها، كان محمد بنطلحة شخصا يخرج من كأس الخاطر. يأخذني إلى حصته المضمونة من السحر والافتتان المتلفعين بشال الغموض. أراه بالحدس مبدعا استثنائيا لا يعرف كيف يمشي مع الآخرين، لأنه يتقن جيدا المشي لوحده. العزلة والإتقان واللغة هي أسرار عافية قصيدته . أراه طائر بجع نادر، قلما يكتظ بأشباهه. غفيرا بتوحده. جناحاه هائلان، هادران، وكسدته خفيفة، وكلّما تحرك يكاد يلامس الأرض ولا يلامسها. أراه خزّافا يصب طين الحرف في قوالب العدم، ويحرك الدولاب الدوّار. معه يأس الصورة العظمى التي لا شكل لها. معه الحركة الحرة، العميقة، الجامحة، الجارحة، التي تلوب بداخله مثل شيء يجب أن ينبثق بإلحاح. معه صلصال الكلمات التي لا ضمان لها من غوائل الأصابع. معه أصابع أخرى ليست له تنسى الذهاب وتتذكر الإياب. يحرك الدولاب الدوّار دائما صوب رحابة المستحيل، نحو الأطراف الصعبة، وفي اتجاه الزوايا الوهاجة. وفي لحظة، ينأى بمسافة بعيدة عن الدولاب، ثم يقول للقصيدة: كوني، فتكون. كوني، فتكون. ولا عجب، فهو «الملك، والحروف عبيد». أراه بالحدس ذاته يقول لي: حين نتشابه تموت اللغة. فأراه يهرب مني ومن اللغة. يهرب إليّ و?لى اللغة لئلا يتشابه ، لئلا يقف في الصف ، لئلا يغدو أمام ناظريّ الصحراء وقد تشابه رملها. ومذّاك، ما تأخرت عن الجرس بتنهيدة واحدة. ومذّاك، ولمحمد بنطلحة في أراضي الإعجاب الطالعة من السويداء حقوق مثل الملاكين وميثاق غليظ كأنه صداقة العين للرمش. لا تيبس قصائده في صيف أيامي كما تيبس الفاكهة وورقات الشجر. أتنفس من خلاله انشراح النص المكتوب بقبضة نزيهة. يعلّمني فن التغلب على كسور الروح التي لا تسعفها جبيرة ويقودني لزيارة أحزاني العزيزة علي. لا تخفت حيلته أمامي وهو يبسط سيطرته على المجاز وسطوته على الإيقاع ، وكلما قرأت شعره لم يرجع قلبي إلى موضعه في صدري. مبدع مثل هذا، »تغص كلماته بالفراشات« و«ينام تحت جلده اللؤلؤ»، كنت أتصوره على هذه الشاكلة. على هذه الشاكلة بحذافيرها. وحينما التقيته، وواظبت على الشغف، ولم ?نكص الإعجاب على عقبيه، وما بيننا «ما صار نملا»، اكتشفت فضلا عن المبدع الذي يحمل وزر القصيدة على كتفيه كمن يحمل «خنشة» لامرئية عامرة بالزمن، اكتشفت الإنسان. ياه! ما أعذبه! صموتا يطل كأنما الكلمات توجعه. يعيش في جزيرة صغيرة داخل رأسه، ويفسح المجال لاتساع الذكرى، الأماكن، الشخوص مثلما لو كانت جروحا بعيدة لا تطالها الضمادات. اكتشفت عالما شخصيا غريقا محفوظا في خزانة الجسد. اكتشفت، وهو يحدثني عن الشعر في «الجسر والهاوية» أن الشعر الحق محض شك. أن الإيقاع قبض صرخة. أن المسافة إلى الشعر بعيدة ولا داعي لأن تحمل معك حقيبة. أنك إذا ما اقتربت، تبين لك أن الطريق كانت خاطئة. أن محمد بنطلحة ليس هو محمد بنطلحة. أن محمد بنطلحة ليس معاصرا لمحمد بنطلحة. أنك إذا ما هتفت باسمه عاد إليك الصدى. أن اليد لا مناص من أن تشك بأنها لك. تصافح بها القصيدة أم ترافق الكأس. الكأس التي »تنشق ليفتر جرح الفؤاد«. أن الظل نسخة زائفة منك. ربما هو أنت في حياة قادمة أو «قفزة خفيفة من الجسد من أجل سعادة الموتى». محمد بنطلحة يلقنك كل هذا بملاعق صغيرة. يلقنك الشك حتى صار موت الشعر بالنسبة إليه ضروريا لحياة القصيدة. هل انتهت الحكاية؟ مازالت »تشرب دموع الصحاري«. وصاحبي ?رض بحجم القلب وقلب بحجم اه. صاحبي إذا لم يكن معنا فهذا معناه أن ثمة إصبعا ناقصا من يد الحياة أو وترا ناقصا من الكمان. هل انتهت الحكاية؟ ما زالت »تبتسم بشفاه غيرنا«. وصاحبي في كل قصيدة يكتبها أو تكتبه، يتفتق بداخلي زمنا جديدا، في كل زمن أجد ماء، وفي كل ماء أجد كفا ممدودة، وفي كل كف ممدودة أجد عطشا جديدا، ولا أجد فمي. يبتسم صاحبي ويقول لي: »في مقبرة ولدت، وفي حانة أموت«. وكانت هذه اللحظة الشعرية مناسبة للبوح والتأمل والشهادة والتبصر في تجربة هذا الشاعر الذي يتدثر برداء الرماد، ويمشي في دروب القصيدة ب «عكس الماء». هذه اللحظة الشعرية نسجها أصدقاؤه بوافر المحبة للشعر وللشاعر: أحمد بوزفور، محمد عنيبة الحمري، محمد بوجبيري، صلاح بوسريف، بوجمعة أشفري، أحمد جاريد، أنيس الرافعي، أحمد لطف الله، عمر العسري...