البطولة: نهضة بركان يواصل نتائجه الإيجابية بالانتصار على شباب المحمدية المكسور    كتاب "التشادي 'مبعوث داعش' إلى المغرب يطلب الصفح" في ضيافة النقابة الوطنية للصحافة المغربية    انخفاض كميات مفرغات الصيد البحري بميناء آسفي    رئيس الهيئة الوطنية لضبط الكهرباء: الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    حماس وإسرائيل تتبادلان الاتهامات بتعطيل اتفاق الهدنة وإطلاق سراح الرهائن    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    نجاة 32 شخصا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان    الاتحاد الاشتراكي يعلن اعتزازه بالمسار الذي اتخذه ورش مراجعة مدونة الأسرة بما يليق بمغرب الألفية الثالثة    "سرقة البطولة" من الجيش تثير مواجهة مفتوحة بين رئيسي الوداد البيضاوي والرجاء البيضاوي    أخبار الساحة    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024        حافلة "ألزا" تدهس شابًا وتُنهي حياته بطنجة    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    الحصيلة السنوية للأمن الوطني: أرقام حول الرعاية الاجتماعية والصحية لأسرة الأمن الوطني    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان        بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    الوداد يطرح تذاكر مباراته أمام المغرب الفاسي    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية        نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    قياس استهلاك الأجهزة المنزلية يتيح خفض فاتورة الكهرباء    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث        ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل يُولد الحلّ من رَحِم رفض سيطرة الجهاديين على سوريا؟
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 22 - 12 - 2012

هكذا بدت صور جدارية لرئيس سوريا الراحل حافظ الأسد وابنيه بشار وماهر بعد أن أطلق عليها مقاتلو الجيش السوري الحر الرصاص في أعقاب قتال عنيف مع القوات الحكومية في مدرسة عسكرية حاصرها الثوار في تل الشعير واستولوا عليها يوم 16 ديسمبر 2012 .
فيما تستمر المواجهات العنيفة في سوريا ويتواصل سقوط عشرات الضحايا يوميا، يتساءل كثيرون: أي سورية جديدة ستولد من رحم الأتون الدموي الراهن؟
هذا السؤال قد لايكون مطروحاً هذه الأيام على فصائل المعارضة السورية المختلفة، علناً على الأقل، طالما أن نظام الأسد لا يزال متمترساً في دمشق (على رغم أن كبار أركانه بدأوا ينتقلون إلى طرطوس وجبال العلويين)، وطالما أنه لايزال يملك التفوق في أسلحة الجو والصواريخ وأدوات الفتك الكيميائي.
الدليل على عدم انشغال فصائل المعارضة العلني بسؤال الولادة الجديدة بسبب انهماكها في ترتيب جنازة نظام الأسد، كان رد فعلها المفاجيء على تصنيف واشنطن لجبهة النصرة المتطرفة في خانة الإرهاب. إذ على رغم أن الإئتلاف الوطني المعارض، الذي نال مؤخراً اعتراف 120 دولة به، ينظر بعين القلق الشديد إلى هذا التنظيم السلفي الجهادي الذي لم يُخف رفضه القاطع لأي برنامج وطني لاديني في سورية، إلا أنه ندد بالخطوة الأمريكية ودافع عن دور «النصرة» القتالي. وقد عنى ذلك أن الإئتلاف غلّب ضرورات إسقاط نظام الأسد على محظورات التعاون مع تنظيم مُدان دوليا، ومرفوض - حسبما يبدو - من قِبَل كل أطياف الإسلام المعتدل.
البدائل الخارجية
بيد أن هذا الموقف «التأجيلي» المؤقت إذا جاز التعبير، حيال مستقبل سورية، لا يلغي الحقيقة بأنه مع كل حديث أمريكي وأطلسي وأوروبي (ومؤخراً روسي) عن قرب سقوط النظام واقتراب المعارضة المسلحة من النصر، تتصاعد الضغوط الدولية والإقليمية من كل الأنواع للتأثير على حصيلة الحرب الأهلية الراهنة في بلاد الأمويين. وهذا بالطبع له تأثير كبير على التفاعلات الداخلية السورية.
فعلى سبيل المثال، تدعم كل من قطر والسعودية وتركيا (ويُقال أيضاً إسرائيل) أطرافاً سياسية ومسلحة ومتباينة إيديولوجياً في المعارضة السورية في الداخل كما في الخارج. في هذا السياق، كتبت مجلة «التايم» مؤخرا: «الفوضى واللا ثقة تبتليان اثنين من الأسياد الدوليين للمتمردين السوريين وهما السعودية وقطر اللتان لم تعودا تقرآن من الصفحة نفسها حين يتعلق الأمر بتحديد مَنْ مِنَ المجموعات المسلحة التي تنبت كالفطر يجب تسليحها. وهكذا، هما تدعَمان وتُموّلان الآن فصائل متعارضة للغاية».
وما يحدث خليجياً في سورية، يتكرر بحذافيره أيضاً أوروبيا وأمريكيا، حيث تدعم واشنطن وبروكسل فصائل بعينها، مثل الإئتلاف الوطني وبعض الأجنحة العلمانية أو الوطنية في الجيش السوري الحر، وتضغط على الخليجيين لوقف دعم الفصائل الجهادية أو المتطرفة.
بيد أن اليد العليا في الداخل تبدو أكثر فأكثر للفصائل التي تتبنى شعارات الإسلام السياسي، خاصة وأن التمويل والتسليح الخارجيين (من دول الخليج) بات مشروطاً بتقديم هذه الفصائل «أوراق اعتماد» دينية من هذا النوع. هذا في حين أن الفصائل الوطنية داخل الجيش الحر، والتي انشق معظمها عن الجيش الرسمي، تبدو «فقيرة» مالياً وتسليحاً بالمقارنة مع الكتائب الإسلامية.
هذا الواقع تجلى بوضوح في شهر نوفمبر 2012 حين سيطرت المنظمات الإسلامية بالكامل تقريباً على الشمال السوري، ثم سارعت بعد ذلك إلى توحيد صفوفها. فبعد أكثر من شهر من الإجتماعات السرية، توصّل قادة المقاتلين الإسلاميين (بما في ذلك لواء الفاروق الشهير والقوي الذي يعمل أساساً في محافظة حمص، ولواء صقور الشام في إدلب) إلى تشكيل جبهة أطلقوا عليها اسم «جبهة تحرير سورية» بقيادة «أبو عيسى» الذي قال: «إننا فخورون بإسلاميتنا وبأننا إسلاميون. إننا نريد دولة ذات مرجعية إسلامية».
إلى هذه الجبهة الجديدة يجب أن تضاف «جبهة النصرة»، وهي النجم الصاعد في الإنتفاضة السورية، والمسؤولة عن معظم العمليات الإنتحارية. وعلى رغم أن للجبهة روابط مع تنظيم القاعدة، إلا أنها سورية المنشأ والمنبت. ثم إنها تُزاوج بين الإديولوجيا السلفية المتصلبة وبين المرونة البراغماتية عبر العمل المشترك مع فصائل أخرى. وهذا مابدأ يعطيها وجوداً ونفوذاً في بعض أوساط المواطنين السوريين.
وثمة، أيضا، منظمات سلفية شبيهة بجبهة النصرة، لكنها أقل منها نفوذاً ونشاطا، وهي فتح الإسلام، وكتائب عبد الله عزام، والقاعدة في العراق، وهناك منظمات تنتمي إلى الإسلام السياسي مثل «صقور الشام» وكتائب الأمة. أما كتائب «أحرار الشام» فهي تتأرجح بين السلفية وبين تيار الإسلام السياسي.
سوريا من سلمية إلى مسلحة
فيما تستمر المواجهات العنيفة في سوريا ويتواصل سقوط عشرات الضحايا يوميا، يتساءل كثيرون: أي سورية جديدة ستولد من رحم الأتون الدموي الراهن؟ [...]
من سيفوز؟
كل هذه الفصائل، ومعها عدد كبير من الكتائب المسلحة التي يُقال أن عددها يناهز ال400، سيكون معظمها في حالة حرب مع بضعها البعض حال سقوط نظام الأسد، (أو على الأقل إذا ما انسحب إلى القلعة العلوية)، للسيطرة على السلطة الجديدة في دمشق. فلمن سيُكتب الفوز؟
الكثير هنا سيعتمد على أحد احتمالين إثنين:
الأول، ما إذا كان كبار الضباط العلويين، أو بعضهم، سيقاتلون أم لا حتى الرمق الأخير مع عائلة الأسد. فإذا ما كان هذا هو الخيار، فإن الحرب الأهلية ستطول حتى ولو سقطت دمشق في أيدي الثوار، لأن قوات النظام ستتراجع إلى الساحل والجبال العلوية وتعلن من هناك أنها لا تزال الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري. وحينها ستشهد الفصائل الجهادية تصاعدا فلكياً في شعبيتها السنّية الطائفية، خاصة إذا اتخذ الصراع، كما هو متوقع، شكل التطهير العرقي أو حتى الإبادة الجماعية بين السنّة والعلويين. وهذا أمر سيكون محتم الحدوث إذا ما دعمت إيران وحزب الله هذا الخيار، ولم تكن روسيا بعيدة عنه.
الإحتمال الثاني أن تتوصل روسيا وأمريكا إلى صفقة لفرض كوندومينيوم (حكم مشترك) في سورية، تكون حصيلته على الأرض منح الجيش السوري الذي لايزال معظمه متماسكاً (وإن شكلياً وبحكم الضرورة أو الخوف) دور الإشراف على المرحلة الإنتقالية. وهذا أمر بات وارداً الآن بعد أن أعلنت واشنطن عزمها على «شن الحرب» على الجهاديين السوريين، الأمر الذي يُرضي كثيراً موسكو المتوجسة من تأثير الصعود الإسلامي على آسيا الوسطى وشمال القوقاز.
في مثل هذا السيناريو، سيتم تجنّب كلٍ من سيطرة الجهاديين على «المنطقة الآمنة» في شمال البلاد الإستراتيجي، وستُعطى فرصة للوطنيين السوريين كي يُعيدوا لمّ شعث وطنهم الممزق.
أي السيناريوهين سيكون الأقرب إلى التحقق؟
من الصعب الإجابة عن هذا السؤال قبل أن يتضح الموقف الروسي الذي لايزال غامضاً ومتقلباً إلى حد كبير، حيث يبدو الرئيس بوتين مًتنازعاً بين حساباته القومية المحلية التي تدعوه إلى البقاء إلى جانب الأسد ولو فقد هذا الأخير السيطرة على ثلاثة أرباع سورية لكي يتسنى له القول أنه لم يستسلم للغرب القوي، وبين حساباته الدولية البراغماتية التي قد تمكّنه من إيرام صفقة «إعادة تنظيم» ((Reset ثانية مع إدارة أوباما.
لكن، في انتظار جلاء الموقف الروسي، يمكن الجزم بأن كل الدول الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السوري (بما في ذلك إيران وإسرائيل) لن تسمح للجهاديين أو الإسلاميين المتطرفين بأن يسيطروا على سورية. فهذا خط أحمر ممنوع تجاوزه.
وهنا، ومن هذه النقطة الأخيرة بالذات، قد تولد المؤشرات الأولى على حل سياسي ما في سورية. ذلك أن اتفاق القوى الدولية على منع الأصوليين من السيطرة على السلطة في البلاد (بما قد يعنيه ذلك من خطر على الأمن الإسرائيلي والإستقرار الإقليمي وحتى الدولي)، قد يُفسح في المجال أمام بلورة حل سياسي، أو حل وسط بين هدفن متناقضين في الساحة الدولية - الإقليمية: إسقاط النظام أو الإبقاء عليه.
فاروق الشرع، نائب الرئيس السوري، ألمح في مقابلة نشرتها صحيفة «الأخبار» اللبنانية يوم 17 ديسمبر 2012 إلى هذا الإحتمال، حين أكد على ضرورة إيجاد حل «من خلال تسوية تاريخية سورية تشمل الدول الإقليمية الأساسية ودول أعضاء في مجلس الأمن»؛ وحين شدد على أنه لا المعارضة ولا النظام قادران على حسم الوضع عسكرياً لصالح أي منهما. هذا في حين كان زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله يدلي بموقف مفاجيء تضمّن تحذير تنظيم القاعدة من أن «الأمريكيين والأوروبيين وبعض الحكومات في العالم العربي والإسلامي، نصبت له كميناً في سورية سيدفع ثمنه».
فهل ثمة رابط ما بين دعوة الشرع إلى «تسوية تاريخية» محلية - دولية - إقليمية، وبين تحذير نصر الله للقوى الجهادية من «الكمين»؟ حتما. وهو يعزز الفرضية التي أشرنا إليها في السطور السابقة من أن بدايات الحل في سورية، قد تنطلق من الرفض الدولي والإقليمي لصعود نجم الأصوليين الجهاديين في بلاد الشام. وفي حال حدث ذلك، سيكون هذا أيضاً على حساب «الأصوليين العلويين» في الجيش وأجهزة الأمن، الذين لازالوا يتمسّكون بالخيار الأمني- العسكري على رغم تأكد فشله.
لكن، وحتى لو بدأت تلوح بعض بشائر هذا الحل، فلن تكون ولادة سورية الجديدة أمراً يسيراً، بعد أن دمّر النظام معظم البلاد، ومزّق قسماً كبيراً من نسيجها الوطني، مُعمِّماً كارثة حماه العام 1982، بكل آلامها وضغائنها، على مُجمل بلاد الشام.
لقد ارتأت الأطراف المعنية بالحكم أن تأخذ عنصر الدين بعين الاعتبار مباشرة بعد شروعها في إقامة مؤسسات الدولة غداة الحصول على الاستقلال، وذلك لأن رجال الوطنية كانوا قد أدمجوه ضمن استراتيجيتهم بهدف تعبئة الجماهير من جهة، ومن جهة أخرى، فإن تأسيس الدولة المركزية يقتضي اعتماد الوحدة الوطنية التي لم يكن لها أن تتأتى وقتئذ إلا عبر القيم الاسلامية.
اختار المغرب أن يعتنق مذهب المالكية كمذهب خاص منذ الفترة الوسيطية (راجع الفصلين الرابع والخامس). نتج هذا الاختيار عن مؤثرات أندلسية مغاربية وخصوصيات محلية، وبالتالي، فإن تأسيس المشروع الوطني على المذهب المذكور اتقاء للتوجه »السلفي الجهادي« الدولي لم يأت من عدم.
لقد ارتأت الأطراف المعنية بالحكم أن تأخذ عنصر الدين بعين الاعتبار مباشرة بعد شروعها في إقامة مؤسسات الدولة غداة الحصول على الاستقلال، وذلك لأن رجال الوطنية كانوا قد أدمجوه ضمن استراتيجيتهم بهدف تعبئة الجماهير من جهة، ومن جهة أخرى، فإن تأسيس الدولة المركزية يقتضي اعتماد الوحدة الوطنية التي لم يكن لها أن تتأتى وقتئذ إلا عبر القيم الاسلامية.
والواقع أن تصُّدر كل من نظرية الخلافة ومفهوم إمارة المؤمنين بغية اقتراح مقاربة خاصة لتوزيع السلط لم يقع تحت طائلة الاحتكار من قبل الملك، وإنما كانت تشاطره بعض فئات الطبقة السياسية رغم منافستها للعاهل في الوقت ذاته. كان حزب الاستقلال يمثل فئة من هذه الفئات، بل كان هو أهمها باعتبار أنه كان يود، بتوجيه من زعيمه علال الفاسي، أن يؤسس تصوره للحكم على النظرية السياسية التقليدية للإسلام من غير إقصاء لجملة من المبادىء الحديثة المتصلة بمؤسسة الدولة. غير أن سيطرة هذا الحزب كانت آخذة في التراجع إذاك بحكم ما أصبح يواجهه من تجاوز عن يمينه وعن يساره. وبالفعل، فإن اليسار المنجذب للتوجه الاشتراكي كبعض عناصر اليمين المشاركة في الحكومة قد تبنى تصوراً لائيكياً لممارسة الحكم انطلاقاً من موقعه كمعارض. وفي سنة 1962، سوف تمثل محاكمة البهائيين بمدينة الناظور فرصة سانحة للمواجهة بين هذين التيارين، دفاعاً عن تصور كل منهما للعلاقة بين الدين والدولة. كان كل من علال الفاسي وأحمد رضا گديرة من بين أعضاء الحكومة التي كان يرأسها الملك الحسن الثاني. وقد تمت المواجهة بينهما حول هذه القضية عن طريق الصحافة: فبينما كانت جريدة »العلم« تقوم بصفتها لسان حال حزب الاستقلال بحملة ضد »المارقين« باسم وحدة الدين والوطن، تبنَّت جريدة ليفار (Les Phares) موقفاً مخالفاً تماماً، وكانت تصدر باللغة الفرنسية على يد أحمد رضا اگديرة المذكور. ولقد انتقدت هذه الصحيفة بأسلوب ساخر قرار العدالة القاضي بإنزال العقاب بالبهائيين. ولتنسيب وقع هذا الموقف المتحرر الصريح، ينبغي التذكير بأن الوزارتين المعنيتين بإصدار الحكم المنتقد كانتا بين أيدي اثنين من قياديي حزب الاستقلال، ويتعلق الأمر هنا بوزارة العدل ووزارة الشؤون الاسلامية، إذ كانت الأولى تحت إشراف محمد بوستة، والثانية تحت إشراف علال الفاسي، وكلاهما من ألذِّ الخصوم السياسيين لأحمد رضا اگديرة ضمن الفريق الحكومي.
كانت للشخصيات المقربة في هذه الفترة من القصر الملكي كأحمد رضا اگديرة أطروحة ترمي إلى التمييز بين الدين والسياسة دون أن يُفرق بينهما بشكل قاطع، وخاصة على مستوى القمة، لأن الملك يعتبر أميراً للمؤمنين ورئيساً للدولة في نفس الوقت. أما فيما يتعلق بمجموع الطبقة السياسية، فالظاهر أنها قد اعتمدت سلوكاً وسطاً فلم تبد أي عداء للدين وإن لم تخول له الأولوية على الصعيد السياسي. على أن العَلمانية التي طبعت مجموع الحقل السياسي بالمغرب باستثناء المؤسسة الملكية قد أخذت تتلاشى ابتداء من منتصف الستينيات، وذلك بسبب ما أدى إليه الاحتقان السياسي من إعادة تحيين المرجعية الدينية، سواء من قبل الحكم أو من قبل القوى المناوئة الجديدة فيما بعد. فبالنسبة للحكم وغيره من الأطراف السياسية الفاعلة، سوف يمثل الإسلام مرتكزاً هاماً للناظم السياسي منذ ذلك الحين، أما بالنسبة لبعض هؤلاء الأطراف، فإن الدين سيصبح مصدرا لتكثيف تعبئة الرفض والمعارضة. ومع أننا أمام تحول ذي بال بالنسبة لتاريخ المغرب المعاصر، إلا أن الدور السياسي للإسلام لن يمثل قطيعة شاملة مع الماضي، إذ أن التجاذب بين الحاكم والمحكوم حول الاستئثار بأصح القراءات التأويلية للمعتقد شيء ثابت لم ينقطع أبداً. والسبب في هذا أن الإسلام مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمجال السياسة.
الملكية والدين وإخضاع السياسة للتراث
لقد تم التعامل مع السُّلَّم الديني من قبل الملكية أواخر الستينيات كاستراتيجية وقائية في وجه الحركات المعارضة المسلحة بسلاح ايديولوجيات الرفض الداعية إلى اللائيكية لقربها من الشيوعية أو من تيار القومية العربية. وبحكم انتمائهما للسلم الخاص بنظرية الحكم في الإسلام، فإن مفهوم البيعة ومفهوم إمارة المؤمنين قد حُيِّنا من قبل الملك ضمن هذا الإطار ثم فُعِّل هذا التحيين، سواء على مستوى الممارسة أو على مستوى الخطاب. أما التيارات الاسلامية، فقد ساهم بروزها في دعم هذا النمط ضمن الفضاء السياسي، نظراً لالتقائها مع المحاولة الرامية إلى طبع النظام بطابع التراثية التقليدية.
ونظراً لارتباط هذا المفهوم بالحكم الملكي، فإنه قد قام على التوفيق بين ملكية مستمدة من التشريع الإلهي وبين نمط دستوري معدَّل يُعَدُّ نِتاجاً لهيكلة متناقضة مع نفسها, إذ تود إعادة إنتاج الموروث الملكي التقليدي. غير أن الظرفية السياسية للبلاد، أواخر القرن العشرين، قد جعلت من البعد الديني للسلطة الملكية رافعاً يسمح بالتحكم في الإصلاح الديني، وذلك في وقت كانت تود فيه القوى الاسلامية أن تحطم الحدود بين مجال السلطة ومجال الدين.
العلماء في خدمة السياسة
في غمرة الانتشاء بالاستقلال، يبدو أن الدولة الوطنية قد استغنت عن العلماء بعدما تصدعت هيمنتهم تحت تأثير نخبة تخرجت من مدارس الغرب، فلم يكن لها أن تشاطرهم تقديسهم للماضي ولا تصورهم لمشاريع المستقبل.
وبينما كانت السلطات العامة تنظر الى هذا التطور بعين الارتياح، فإن مما ترتب عنه أن ضاعت مصداقية العلماء كحماة للشريعة عبر القرون. وفوق هذا، فإن نفس التطور قد أحدث فراغاً إيديولوجيا من شأنه أن يكوِّن خطراً على الحكم. لذا، فإن المؤشرات الأولى لإعادة النظر في دور العالم داخل المجتمع قد ظهرت منذ سنة 1979، عندما تم وضع النصوص المحددة لصلاحية العلماء ووضعهم بالنسبة للحكم، وذلك على إثر الضغوط التي خلفها تداخل الثورة الإيرانية وقرارات المؤتمر الاسلامي الصادرة سنة 1969 بالإضافة إلى تطرف مواقف الشبيبة الاسلامية وتورطها في قضية اغتيال عمر بن جلون كما سوف نرى.
والواقع أن تدبير هيئة العلماء يمثل شقاً أساسياً من السياسة الدينية للدولة. صحيح أن مسلسل هذا التدبير قد دُشِّن على عهد الحماية عبر إدماج رجال الدين في سلك الوظيف، إلا أن هيكلة المجالس العلمية على المستوى الإقليمي وإحداث المجلس العلمي الأعلى برئاسة الملك بصفته أميراً للمؤمنين تبعاً لمقتضيات الظهير المؤرخ ب 03 جمادى الآخرة 08/1401 أبريل 1981، يكوِّنان محطة هامة ضمن مسلسل التحكم في الحقل الديني. وقد اقتصر عدد المجالس العلمية الاقليمية في بادىء الأمر على أربعة عشر مجلساً ثم ارتفع ليصل سنة 2000 إلى تسعة عشر.
وفي نفس الصدد، صدرت قوانين تسمح بمراقبة إقامة المساجد وتدبير شؤونها (ظهير سادس محرم 1405/ ثاني أكتوبر 1984) كما اتخذت بعض التدابير المتعلقة بمراقبة خطب الجمعة على الخصوص. وبذلك تكون المنظومة قد تطورت نحو استحداث نوع من »الكهنوت« الوظيفي المؤشر على مأسسة الشأن الديني.
الإسلام بين الشرعنة والاحتجاج
لنُذَكِّر بأن عملية الهيكلة الايديولوجية قد انطلقت في منتصف الستينيات عبر ظروف تتميز بدقة الرهانات السلطوية المطروحة بين القصر وقوى المعارضة. وقد ازدادت حدة المسلسل بظهور قضية الصحراء، حينما أقدم المغرب على طرحها أمام محكمة العدل الدولية قصد إبداء الرأي في غضون سنة 1975 مع تأسيس مرافعته على مرجعية تحيل على القانون العام من خلال الإلحاح على الوشائج التي ربطت القبائل الصحراوية بالسلطان عن طريق البيعة.
من بين رهانات هذه المواجهة رهان الشبيبة. فلقد حاول الحكم منذ مطلع الستينيات أن يقاوم تنطع هذه الشريحة الاجتماعية عبر تدشين ايديولوجية بديلة. فبمناسبة أحد الدروس الرمضانية، قام الملك يوم 12 رمضان 25/1386 دجنبر 1966 ببسط الخطوط العريضة لاستراتيجيته الدينية. وباعتبار وضعه كعالم يتوجه الى زمرة من الأنداد، فإنه عمد الى تخصيص تدخله لتفسير الحديث المأثور حول الإصلاح كمشروع ونصه كالآتي: »من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان«.
وفي 04 نونبر 1972 عند إحياء أمسية دينية بمناسبة ليلة القدر لسنة 1392 ه، دشن الملك الحسن الثاني عملية التوعية التي تمركزت حول التربية. أما هدفها المعلن، فهو مقاومة الايديولوجيات الهدامة و »دعاة التخريب، تخريب الأخلاق« في الأوساط المدرسية والجامعية.
ولم تمر سنتان على انطلاق نفس هذه العملية، وإذا بالملك يعلن عن سنة التجديد الإسلامي، فيقرر مراجعة برامج التعليم العالي بمناسبة عيد المولد لسنة 1394/ السادس عشر أبريل سنة 1974.
في نفس الفترة، لم يكن لظهور التنظيمات المناوئة أن يدفع بالحكم إلى مراجعة هذه السياسة، وإنما العكس هو الصحيح: فعوض التخفيف من وطأة الدين في الحياة السياسية، اندفع النظام وراء المزايدة داخلياً، وعلى المستوى الدولي، تحت تأثير التنامي الذي عرفه التوجه الاسلامي. ومما ترتب عن تأسيس شُعب الدراسات الاسلامية بالجامعات المغربية مع ما يعنيه ذلك من تراجع بالنسبة لتدريس الفلسفة والعلوم الاجتماعية أن سمح للحركات الاسلامية بالتموقع داخل الحركة الطلابية التي ظلت تحت هيمنة اليسار حتى الثمانينيات.
ولمواجهة الايديولوجيات الاسلامية المعارضة، لجأ الملك الحسن الثاني الى المناداة بتأصيل الدولة، بمعنى أن الايديولوجيات المذكورة قد اعتبرت حركات متشددة تؤول تبعاً لهذا الى تجسيد الصيغة الخُمينية للتوجه الاسلامي المجاهد. وطوال سنوات الثمانين وسنوات التسعين، ظل التمييز بين التشدد والتأصيل حاضراً مستمراً في الخطاب الملكي حول الدين وحول ظاهرة الاسلامي السياسي.
ونظراً لتولده عن التعارض الناجم عن كل من التوجه الأصولي لإسلام الدولة ومسلسل التحديث المتفشي في المجتمع المغربي، فإن الاسلام السياسي قد تقمص أشكالا مختلفة على المستويين العقدي والتنظيمي: هنالك منظمتان تحتلان الساحة السياسية الاسلامية المحلية هم التوحيد والإصلاح وجماعة العدل والإحسان، وهنالك حركة سَديمية هي الحركة السلفية.
أما حركة التوحيد والإصلاح، فأسست سنة 1982 تحت اسم الجماعة الاسلامية على يد بعض قدامى المنتسبين إلى الشبيبة الاسلامية التي تعتبر أول حركة اسلامية أمكنها أن تنشط بالمغرب إلى أن تم حلها على إثر تورط بعض المسؤولين عنها وخاصة مؤسسها عبد الكريم مطيع اغتيال عمر بن جلون، سنة 1975، كما سبقت الإشارة. وابتداء من سنة 1984، ونظراً لموجة الاعتقالات التي طالت الوسط الإسلامي، قرر هذا التنظيم أن يراجع خط العمل السري وعوضه باستراتيجية النضال السياسي. أما المرحلة الثالثة، فانطلقت في التسعينيات بتفاعل مع الأحداث التي هزت الجزائر، وتميزت في النهاية بتغيير الاسم، فأصبحت هذه الحركة تسمى حركة التوحيد والإصلاح منذ سنة 1996، وذلك تبعاً للانصهار الذي تم بين حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي. وفي نفس هذه السنة، أعلن عن مرحلة جديدة قادت بعض أعضاء هذه الحركة الى الالتحاق بحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، وهو حزب سياسي قديم يتزعمه عبد الكريم الخطيب، أحد الساسة المقربين من السلطة. وبفضل الوافد الإسلامي، أمكن لهذا الحزب أن يحرز على بعض النجاح لأول مرة في انتخابات سنة 1997. عندئذ تم تغيير اسم الحزب السياسي المذكور فأصبح يسمى حزب العدالة والتنمية. وعلى الرغم من هذا التطور، فإن حركة التوحيد والإصلاح ظلت بمنأى عن كل انصهار مع الحزب الجديد واحتفظت رسمياً بنوع من الاستقلال مبررة ذلك بما لها من دور ديني تربوي خاص.
وأما جماعة العدل والإحسان، فهي جمعية اسلامية غير معترف بها رسمياً, إلا أنها تعتبر أهم الحركات الاسلامية، سواء من حيث عدد الأتباع أو نوعية الأدبيات العقدية، باعتبار أنها تمزج بين مستوى الكرامات ومستوى التوجه الديني المناضل. ولفهم هذا المشهد المتفرد، ينبغي الإحالة على شخصية مؤسس الجمعية ورمزها عبد السلام ياسين. ذلك أن الأمر يتعلق برجل يعتبر المنظر الوحيد لحركته التي تتصدر في نهاية القرن العشرين مجموع الفضاء الإسلامي المعارض وتنحو نحو توسيع مجالين تنظيميين اثنين، أولهما ذو طابع روحي يرتكز على التربية وتأطير الأتباع، بينما ينطبع الثاني بطابع السياسة بمروره عبر ما يسمى بالدائرة السياسية.
وأما تيار السلفية الجهادية، فمرجعيته تدنو من المذهب الحنبلي، إذ هو يركز على التعامل الحرفي مع النص القرآني. وانتشار هذه الحساسية السلفية راجع لشبكة من المعاهد القرآنية التي ستكتسب بعداً آخر بميلها الغالب إلى التدين »الاقتدائي« واهتمامها الخاص بالتربية، بحيث أصبحت تمثل مرجعية لنزوع راديكالي ينتسب الى المذهب الوهابي. على أن الأمر يتعلق بحركة سديمية أكثر مما هي حركة مهيكَلَة اتخذت لها محلياً عدة أسماء من بينها التكفير والهجرة وجماعة الصراط المستقيم.
ومع أن الحكم لم يكترث لهذا التوجه الراديكالي الواقع على الهامش ظناً منه أنه توجه لا سياسي، إلا أنه سيغير موقفه بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001، وخاصة بعد الاعتداءات الإرهابية التي جرت يوم سادس عشر ماي سنة 2003 بمدينة الدار البيضاء.
وهكذا يكون العنصر الديني قد تموقع في الرهانات السوسيو سياسية. أما بروزه في الحقل السياسي على الأخص، فهو يزيد من تعميق التعارض القائم بين التدين التقليدي والحداثة بالنسبة لمجتمع سبق له أن عرف تقلبات ناتجة عن اقتحام شيء من العلمانية لحياته اليومية.
الحقوق
تندرج تجربة التناوب، كما تندرج عملية الانتقال من عهد الى عهد ضمن جو برزت فيه ثقافة الحقوق وتجذرت دعائمها.
حقوق الإنسان
طوال الفترة المعروفة عموما ب «سنوات الرصاص»، كثيراً ما لجأ النظام الى أسلوب التحكم المطلق بكل ما يتقضيه من الاختفاء القسري للأشخاص والسماح للمعاقل السرية بالوجود في الوقت ذاته. وغالباً ما أفصحت المحاكمات عن تأويل مجحف للمعايير القانونية مع كشفها عن تبعية العدالة بشكل سافر. لذا، فإن بصمات هذه الفترة تظل ماثلة في الأرشيف غير المنظم حتى الآن لبعض الإدارات، ومن خلال مرافعات المحامين وإفادات الأطراف المعنية وكذا عبر المراسلات المتبادلة بين المعتقلين السياسيين وبين المنظمات الدولية لحقوق الإنسان. هذه الخصوصية في حد ذاتها ليست غريبة عن الدوافع التي أدت إلى تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004 ولا عن الإمكانيات المتاحة التي سمحت بالعودة إلى هذه الفترة وإلقاء الضوء على الظروف التي أدت إلى الخروقات الخطيرة لحقوق الإنسان. والواقع أن العمل الذي أنجزته هذه الهيئة قد جاء نتيجة لمسلسل طويل من المطالب المقدمة من قبل كل من الهيئات السياسية ومنظمات المجتمع المدني.
ولقد تجسد الانفتاح السياسي بالمغرب ليعطي معنى لما اصطلح على تسميته بالمسلسل الديمقراطي من خلال تحرير الدفعات الأولى من المعتقلين السياسيين ابتداء من سنة 1989، وكذا عبر العفو الملكي الصادر سنة 1994. وجاء التناوب التوافقي مع حكومة مكونة من عدة أحزاب سنة 1998 وتلاه اعتلاء العرش من قبل الملك محمد السادس، فأعطى كل هذا دفعة جديدة للمسلسل المذكور.
وفي هذه الحقبة المحددة بسنوات التسعين، صادق المغرب على عدة اتفاقيات دولية في مجال حقوق الإنسان، وخاصة منها اتفاقية مناهضة التعذيب والمعاهدات المتعلقة بالقضاء على كل أشكال الميز ضد المرأة، إلى جانب الاتفاقيات المتصلة بحقوق الطفل.
ويندرج تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في شهر ماي سنة 1990 ضمن نفس هذا الإطار. وعلاوة على هذا، تم تعيين وزير منتدب لدى الوزير الأول مكلف بحقوق الإنسان، وذلك بتاريخ 11 نونبر 1993. وباقتراح من المجلس الاستشاري، تم إلغاء ظهير سنة 1935 القاضي بقمع كل من المظاهرات المناهضة للنظام العام والمحاولات الرامية إلى المس باحترام السلطة، وذلك يوم رابع يوليوز 1994، بعدما تم شجبه لمدة طويلة. وفي منتصف نفس الشهر، واعتماداً على قائمة تقدم بها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، تقرر إطلاق سراح ثلاثمائة واثنين وخمسين معتقلا سياسياً. وبموازاة مع ذلك، تم الإعلان عن حق المغتربين السياسيين في العودة الى أرض الوطن. ومن أكثر مبادرات العودة تعبيراً ومغزى، هنالك عودة الفقيه البصري سنة 1995 وعودة ابراهام السرفاتي التي أذن بها الملك محمد السادس مباشرة بعد تنصيبه سنة 1999.
وبتفاعل مع الظرفية الدولية، سمح هذا الوضع الجديد بسرعة ازدهار حركة حقوق الإنسان بالمغرب، أواخر عهد الملك الحسن الثاني. وإن تفعيل مبدأ هذه الحقوق والالتزام بالدفاع عنها على المستوى العالمي ليُعدان من العوامل التي ساعدت على تقدمها بالمغرب.
وانطلاقاً من الثمانينيات، أصبح احترام هذا المبدأ عنصراً هاما في ربط العلاقات بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب. وابتداء من التسعينيات، أخذت حقوق الإنسان تضطلع بدور مرموق في العلاقات الدولية، خاصة منها تلك العلاقات المتصلة بالتعاون من أجل التنمية. فجميع المؤتمرات العالمية التي نظمت بإشراف من هيئة الأمم المتحدة ابتداء من مؤتمر ريُّ،(Rio) سنة 1992 إلى مؤتمر روما سنة 1996 قد أكد على الربط المباشر بين الأهداف الثلاثة التي تعمل من أجلها هيئة الأمم المتحدة، ألا وهي السلم والتنمية وحقوق الإنسان.
بالنسبة للمجال الأخير، لم تفتأ منظمات حقوق الإنسان أن أصبحت هي المُحاور المعتمد بالنسبة للسلطات العمومية. وهكذا، فإن تدخلات كل من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان المؤسسة سنة 1979 والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان المحدثة سنة 1988، بالإضافة إلى المنتدى المغربي من أجل الحققيقة والإنصاف المؤسَّس سنة 1999، وقد أمست حاسمة بالنسبة لحقوق الإنسان بالمغرب.
حقوق المرأة وإصلاح المدونة
خلال سنوات التسعين، تجلى التزام الدولة المغربية بتحسين أوضاع المرأة عبر عدة مبادرات من بينها المصادقة على الاتفاقيات الدولية في الموضوع. وبانخراط المغرب في مختلف هذه الاتفاقيات، يكون قد التزم رسميا بتطوير استراتيجية وطنية ترمي إلى التقليص تدريجيا من الفوارق بين الجنسين مع دعم الطاقات الاقتصادية والسياسية والقانونية للمرأة، ولقد تُرجمع هذا الالتزام بوضوح من خلال دمج الإحالة على حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا، ضمن نص دستور سنة  1992، وكذا من خلال التعديلات التي أدخلت سنة 1993 على بعض المقتضيات المتعلقة بالمدونة (قانون الأحوال الشخصية)، بالإضافة إلى المصادقة في الوقت ذاته على الاتفاقية الملزمة بالقضاء على كل أشكال الميز ضد المرأة.
وفي سنة  1999، أثار مخطط إدماج المرأة في مسلسل التنمية، كما تقدمت به حكومة عبد الرحمان اليوسفي جملة من الردود المعارضة لا من قبل الإسلاميين فحسب، ولكن من قبل الأوساط المحافظة هي الأخرى ومعها الوزير المكلف بالشؤون الإسلامية يومئذ. ولقد كشفت هذه الوضعية عن مدى ثقل التقاليد المتعلقة بمسألة لها من الدقة ما لقضية المرأة سواء على المستوى الديني أو على الصعيد السياسي.
أما مشروع المخطط المذكور، فيشمل عدة أبواب تتعلق بالتمدرس والصحة وإدماج المرأة في التنمية الاقتصادية ووضعها على مستوى التشريع. والواقع أن هذا الجانب الأخير قد شكل مثار جدل حاد، فحول نفس هذا الجانب، دارت مواجهة أشبه ما تكون بتصدع اجتماعي فعلي أدى إلى الكشف عن تعارض واضح بين مشروعين اجتماعيين اثنين، أحدهما إصلاحي يطالب بتغيير وضع المرأة داخل المنظومة التشريعية المغربية، والآخر محافظ يتشبث بالأنموذج الأبوي للأسرة.
وتكونت اللجنة الاستشارية لإصلاح المدونة على يد الملك فيما بعد، وذلك بتاريخ 27 أبريل 2001، فاستطاعت أن تضع حدا للتوتر السياسي الذي واكب تفعيل هذا الإصلاح، وذلك بعد أن كان هذا التوتر قد بلغ مداه في مظاهرتي 12 مارس سنة  2000 حيث تعبأ أنصار المشروع بالرباط كما تعبأ خصومه بالدار البيضاء. وبإحداث هذه اللجنة صارت صلاحية الحسم في الموضوع من اختصاصها دون غيرها.
وبتاريخ 16 و22 يناير 2004، تم تبني القانون الجديد المنظم للأسرة بالإجماع من قبل أعضاء الغرفتين بالبرلمان، حيث أصبح الوضع غير الوضع، شتان بينه وبين موقف المعارضة الشرسة لخصوم المشروع. والسبب في هذا أن الاغتيالات الإرهابية التي جرت يوم 16 ماي 2003 قد دفعت إلى التلويح بهؤلاء الخصوم كمصدر للانزلاق وعقبة في وجه التحديث. وهكذا عم الترحيب بالإصلاح سواء بالمغرب أو خارج المغرب واحتفي به كثورة فعلية من إنجاز الملك الشاب.
على أن أهم التغييرات التي جاءت بها المدونة تؤول كلها إلى مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة داخل الأسرة. لقد غدت هذه الأسرة منذئذ من مسؤولية الزوجين معا. ومن بين المنجزات الأخرى، ينبغي التشديد على كبح الزواج المبكر، أي قبل بلوغ سن الثامنة عشرة. وإلغاء الولاية بالنسبة لمن بلغ سن الرشد من النساء. أما تعدد الزوجات، فإنه قد قُنّن بشكل صارم كما خوِّل البت في أحقيته لنظر القاضي، كما هو الشأن بالنسبة للطلاق عندما تم تقنينه فأصبح حقا مشاعا بين الزوجين. وفي الأخير، تم الإقرار بحق الاعتراف بالأبوة لفائدة من أنجب خارج مؤسسة الزواج مع إمكانية اللجوء إلى الخبرة البيولوجية في حالة الاعتراض.
الحقوق الثقافية
يتعلق الأمر بمجال آخر من المجالات التي تقوم فيها الحركة الجمعوية المغربية بنشاط كبير. فالاعتراف باللغة الأمازيغية لغة ثانية للوطن على مستوى المدارس, يعد أبرز نتائج هذا النشاط في مطلع القرن الحادي والعشرين. لقد سبق للملك الحسن الثاني أن وعد في عضون سنة 1994 بتفعيل قضية تعليم اللغة الأمازيغية، إلا أنه كان لابد من الانتظار تسع سنوات ليتحقق الوعد. أثناء هذه الفترة، قامت الجمعيات الأمازيغية بنشاط كبير أسهم بحظ وافر في تحسيس الطبقة السياسية بالموضوع. لقد أخذت هذه الجمعيات تُسمع صوتها منذ بداية التسعينات. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، لعب هذا النشاط دوره في الدفع إلى الأمام بمختلف جوانب الثقافة الأمازيغية كجانب اللغة وجوانب الأغنية والمسرح والسينما والفنون وغيرها، كما أسهمت في تحديد موقع المجتمع تجاه أحد المكونات الجهوية للثقافة المغربية وهوية المغاربة كمعطيين يشملان عدة عناصر.
لقد أعربت الإرادة السياسية للدولة فيما يخص هذا المجال عن حضورها عندما تم إصدار ظهير بتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة  2001. يتعلق الأمر هنا ببنية للبحث والارتقاء بالثقافة الأمازيغية. ومن بين المبادرات التي اتخذتها هذه البنية تلك التي تتعلق بقضية الأبجدية. ولقد أفضت الأبحاث المنجزة في الموضوع إلي خيارات ثلاثة تتمثل في الحرف العربي والحرف اللاتيني وحرف تِِِفِناغ حرفا رسميا بالنسبة للغة الأمازيغية. وبالتالي فسوف يكون على مجموع الأطفال المغاربة أن يتعلموا استقبالا هذه اللغة التي شُرع في تلقينها جزئيا، بصفة مؤقتة، ابتداء من الموسم الدراسي 2003-2004.
عن «تاريخ المغرب» بإشراف محمد القبلي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.