أكيد أن الدوافع التي كانت وراء تناولنا لهذا الموضوع عديدة، منها كون تحرير التجارة وحركية السلع والخدمات ورؤوس الأموال زمن العولمة تنج عنه اتساع مستمر لمستوى الفقر والتهميش وتفاقم في وثيرة تدهور الوضع المعيشي للفئات السكانية غير المؤهلة، الشيء الذي فرض على شعوب ودول العالم تحديات جديدة وعلى رأسها حماية البيئة، ومحاربة الفقر، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وخلق نوع من التوازن في الإسهام في الرفع من مستويات التنمية. ونظرا لهذه الدوافع، ارتأينا تناول هذا الموضوع لفتح النقاش بشأن مجموعة من القضايا، المرتبطة بالسياق العام الذي تعيشه المجتمعات الكونية بعد هدم جدار برلين، وإعلان النظام العامي الجديد، والذي أعطى الانطلاقة لما يسمى ب»العولمة». إنه سياق كوني تنافسي بمنطق لا يطيق إلا الأقوى، الشيء الذي أبرز بالموازاة أهمية تعاطي الدول إيجابيا مع ما يسمى ب»الاقتصاد الاجتماعي» كمجال لتمكين كل الشرائح المجتمعية من الانخراط في مقاومة التهميش والفقر والبطالة والهشاشة، وبالتالي الإسهام في التنمية الترابية كخيار يمكن أن يتحول إلى بديل وسلطة مؤثرة إيجابا على الطابع المالي والتكنولوجي والثقافي الذي يميز العولمة الليبرالية بحلتها ومنطقها الحالي. إن تنمية الاقتصاد الاجتماعي، وما يتيحه من تفجير للطاقات البشرية في مختلف المجالات والمستويات الترابية، أصبح اليوم أولوية أولويات الدول بما في ذلك الدول الغنية والمتقدمة. فالاستثمار في هذا المجال الحيوي زمن العولمة «الجارفة» يعد من أهم الخيارات لإتاحة الفرصة للشرائح الاجتماعية الواسعة للمشاركة الفعلية في تنمية مجالات انتماءاهم الترابية. فما ترتب على العولمة «المتوحشة» من فقر وهشاشة وتهميش أصبح اليوم أمرا مقلقا قد يساهم في تفاقم الأزمات وفي تهديد استقرار الشعوب والأمم ما لم يتحقق التصالح المنتظر ما بين الاقتصاد والمجتمع. كما أن هذا التصالح يمكن أن يبقى بعيد المنال ما لم تبادر الدول، وباستعجال، بالاستثمار بالشكل الكافي في الاقتصاد الاجتماعي. وللإحاطة بهذا الموضوع من كل جوانبه، ارتأينا تقسيم ما تبقى من هذا المقال إلى محورين أساسيين، الأول سأخصصه للعولمة وتأثيراتها على مجتمعات الدول النامية، والثاني للاقتصاد الاجتماعي كأحد المجالات الحيوية لتحقيق التنمية الترابية والحد من التأثيرات السلبية للعولمة بآليات المشاركة والتشارك والتعاون. المحور الأول: العولمة وتأثيراتها السلبية على مجتمعات الدول النامية في بداية هذا المحور، نود أن نذكر القارئ بمخاطر العولمة بمنطقها الحالي خاصة الجانب المتعلق بالتمادي في تهميش العمل الذي كان فيما سبق أهم من الرأسمال في منظومة وأنماط الإنتاج، والاستمرار في إضعاف مساهمته في إنتاج القيمة المضافة. إن الاستثمار في المجال التكنولوجي، والمبالغة في «مكننة» الوحدات الإنتاجية وتعويض الإنسان بالآلات الإلكترونية الذكية، قد قلص بشكل كبير من فرص الشغل وساهم في الرفع من الإنتاج بشكل كبير، الشيء الذي أدى إلى اختلال التوازن بشكل حاد بين العرض والطلب في كل الأسواق المعروفة: سوق السلع والخدمات، وسوق الشغل، والسوق المالي، والسوق النقدية،...إلخ. كما أدى تطور البحث العلمي والتكنولوجي إلى ابتكار مواد أولية مصنعة حلت محل المواد الطبيعية (البوليستير، السيراميك، الأوراق البلاستيكية والحديدية،.القهوة الكيماوية،..) والتي ساهمت في إضعاف الطلب الدولي للمواد الأولية التي تزخر بها دول الجنوب النامية بشكل كبير (القطن، المعادن،...)، الشيء الذي تمخض عنه اختلال التوازن في ميزان الأداء وفي ميزان المبادلات التجارية، وتراجع في الاحتياطي من العملة الصعبة عند الدول الفقيرة والسائرة في طريق النمو. كما ساهمت حرية حركية السلع والخدمات ورؤوس الأموال وتقنين الهجرة من الجنوب إلى الشمال في تعميق الهوة في مجال تراكم الرأسمال ما بين دول المركز ودول الهامش (حسب تعبير المفكر المصري سمير أمين). كما ترتب عن التدبير المالي والاقتصادي للعولمة، وتأثيرات التكنولوجيا الحديثة للإعلام والاتصال، والمبالغة في خدمة المشاريع الرأسمالية ومصالح القائمين برعايتها (الشركات العابرة للقارات ومتعددة الجنسيات)، اختلالات مست في العمق التلاحم ما بين الطبقات الاجتماعية على صعيد البلد الواحد. كما ساهمت محاولات الغزو الثقافي وطموح الغرب في ترسيخ المقومات الثقافية للإنسان العالمي الكوني، واعتبار «الأقطاب» الاقتصادية أساس التنمية، في الزيادة في الطموحات الرأسمالية في ترسيخ فكرة كون الساكنة المحلية ما هي إلا أداة منفذة عادية للبرامج والخطط والاستراتيجيات المبلورة مركزيا وفي مكاتب التيكنوقراط والخبراء الدوليين. وكنتيجة لهذه المطامح، المدعمة ماليا وتكنولوجيا، يعيش عالم اليوم تغييرا واضحا لمفهوم وتنظيم الدولة والمقاولة والمجتمع بطبقاته العمالية ومؤسساته المجتمعية. وفي نفس الوقت، ازدادت حدة الوعي بضرورة تقوية السلط المضادة لخلق التوازن، والتي لا يمكن أن تنبثق إلا من خلال سياسة محكمة لدعم الاقتصاد الاجتماعي كمجال مناسب لإنتاج فاعلين ونخب وهياكل محلية، وتنمية سلوكيات جديدة لمواجهة كل أشكال التعقيد في الواقع، وحماية التعدد والتنوع الثقافي والقيم الإنسانية المشتركة والحق في الاختلاف. وقد ازدادت الحاجة أكثر لتنمية هذا القطاع نتيجة توالي الأزمات المالية واعتماد سياسات التقشف من طرف الحكومات كسبيل للحفاظ على التوازنات العامة. الاقتصاد الاجتماعي أساس التنمية الترابية زمن العولمة لقد اعتبر المتتبعون الاقتصاد الاجتماعي مجالا جديدا واعدا يمكن من استغلال الإمكانيات والقدرات الفردية من خلال العمل الجماعي. كما اعتبروا طبيعته قادرة على تصحيح التأثيرات السلبية للرأسمالية المالية والسياسات المكرسة للفردانية. إن الوعي بضرورة تنميته أكد من جديد حاجة الإنسان إلى إعادة إحياء واستعادة أفكار التعاون والتعاضد والتشارك، وإعادة الاعتبار للمشاريع الاجتماعية التعاضدية المحركة للمواهب والحماس. لم يقتصر هذا الوعي بأهميته على الدول النامية فقط، بل حتى الدول الغربية، نتيجة لاستفحال الأزمات بها وتكرارها، أقرت ذلك. ففي الولاياتالأمريكية مثلا، قرر الرئيس أوباما مؤخرا دعم هذا القطاع باستثمارات كبيرة. كما أقر البرلمان الأوروبي كذلك (580 صوت «مع»، مقابل 27 «ضد»، و44 «امتناع») الدور الحيوي الذي يمكن أن يلعبه هذا القطاع في مواجهة الأزمة حيث تم لأول مرة الاعتراف بأوروبية الأوضاع القانونية للجمعيات وصناديق ومؤسسات التعاون من أجل ضمان المساواة في معاملة مشاريع الاقتصاد الاجتماعي ضمن قوانين السوق الداخلية. لقد اعتبرت المفوضية الأوربية هذا الاقتصاد بمثابة قطاع ثالث ينبني على المبادرة الجماعية والمشاركة، وتحركه مبادئ ديمقراطية، ولا يتوخى الربح، ولا يراكم الرأسمال. لقد تم الاعتراف بأهميته دوليا لكونه ينبني على الأسس والمبادئ التالية: وعي الشخص وتفتحه، حرية الانضمام إلى مؤسساته وتنظيماته، التوزيع العادل للثورة المحققة، الاستقلالية عن الدولة، التشبث بقيم التضامن المشتركة والإدارة المنصفة، لكل شخص صوت واحد عكس الشركات حيث يساوي كل سهم صوتا، المشاركة في إدارة المخاطر واتخاذ القرارات الكبرى، لا مركزية السلطة وابتكار أشكال عمل جديدة، إعطاء الأفضلية للرأسمال الاجتماعي بدلا من الرأسمال المالي، منتوج الخدمات يسخر للأعضاء والجماعة، الاستقلالية في التدبير،...إلخ. وفي نفس السياق، تمت الدعوة سنة 2007 إلى «العقد الكوني الجديد» لإعادة التوازن بين الاجتماعي والاقتصادي. أما بخصوص تنظيماته فتظم، إضافة إلى الجمعيات، كل أشكال التعاونيات والتعاضديات ومؤسسات التأمين، حيث يهدف، إضافة إلى تنمية مهارات ومداخيل الأفراد والأسر والجماعات، إلى تعميم التغطية الصحية والحماية الاجتماعية. لقد أصبح الاهتمام بهذا القطاع أساسي من أجل الانخراط الترابي الجيد في منظومة الاقتصاد العالمي (الانخراط من الأسفل)، والمطالبة بشمولية جديدة ذات أوجه إنسانية تفرض نوع من المساواة في توزيع منتوج النمو العالمي. فالتعبئة الشعبية ل»أنسنة» العولمة تبقى إلى حد كبير مرتبطة بالمصطلحات التالية كالترابية، والمجالات المحلية، ومقاربة القرب، ومبدأي المشاركة والتشارك، والحكامة الجيدة،...إلخ. فنجاح الدول في العودة إلى مفهوم «الترابية» وتطبيقه ميدانيا سيمكنها من مكاسب كبيرة في مجال ترسيخ ثقافة التنمية من الأسفل. خاتمة وفي الختام، نريد أن نأكد أنه نتيجة لتفاقم حدة الأزمات العالمية، تحول الحديث العام عن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان إلى حديث عن الديمقراطية المحلية والديمقراطية التشاركية واستقلالية الوحدات الترابية. كما أنه إضافة إلى تقوية دور الجماعات المحلية وتشجيع تأسيس الجمعيات، والمنظمات غير الحكومية، والجمعيات المهنية والحرفية والخدماتية وذات النفع المشترك، والتعاونيات، ومراكز البحث، والتعاضديات،...إلخ، أصبح مطلب «التشبيك» من الأولويات لتجميع القوى وتوفير الموارد المالية لضمان مردودية المبادرات التنموية. إنه السبيل الأكثر نجاعة من أجل إنتاج الخيرات، وتأهيل المواطنين معرفيا وتقنيا ومهنيا وحرفيا، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الخدمات، وتعميم الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، وإنجاز التجهيزات الضرورية، وتحقيق التنمية الثقافية،...إلخ.