في إحدى إشراقاته العميقة، يعتبر الباحث الراحل عبد الكبير الخطيبي أن الخط، ككتابة جليلة، تلغي، تدمر، تقلب الجوهر نفسه للغة عند نقلها إلى فضاء خاص، هو بين الرسم والكتابة والموسيقى. والأكيد أن تاريخ الفن العربي - في شقه الكاليغرافي - قد راهن على هذا الاشتغال، المنحاز - بهذه الدرجة أو تلك - إلى فضيلة الابتكار وإلى روح التجديد المبدعَيْن، في صناعة بلاغته الجمالية والفنية عبر العصور. وليس الأمر بغريب على أمة وجدت نفسها، ذات تاريخ، عند مفترق طرق يحتم الاختيار بين الابتعاد الكلي عن فعل الإبداع التصويري، في بعده الصباغي، كما كرسته الثقافات الإنسانية القديمة والثقافة الغربية على وجه الخصوص، أو صياغة نموذج جديد / قديم يراهن على الجانب الهندسي المرتبط بالكلمة الغنية بالدلالات وبالحرف كرسم بليغ قائم الذات. من هنا، إذن، كان التركيز على الاختيار الثاني كأداة، ليس فقط للبقاء على قيد الإبداع، وإنما أساسا لخلق مسار جديد يحفل باللغة العربية، بالكلمة وبالحرف العربيين في بعدهما التجريدي، على غرار التجربة الصينية الأكثر تنويعا، من أجل بناء ممارسة جمالية مؤسسة لمنظومة إبداعية قوامها التركيب والتأليف والتشكيل، بما هي تنظيمات وشروط توجد في قلب العملية الإبداعية الفنية. وعلى ذلك، برزت التجربة الحروفية العربية، ومن هنا أيضا بنت مجدها كواحدة من التجارب الفنية الرائدة، التي قامت باستثمار الحرف كوحدة جمالية نالت قسطها من الإدهاش ومن إثارة الانتباه، كما أنجبت أسماء لامعة طورت هذه الممارسة الفنية. بل قامت - أبعد من ذلك - بالتدشين لمناطق وعلائق جديدة لها، لعل أهمها استثمار تلك القرابة المبتكَرة بين الحروفي من جهة والتشكيلي في بعده الصباغي من جهة ثانية، في محاولة لتجسير المسافة الفاصلة بين الكلمة أو الحرف باعتبارهما حاملين لمعنى أو لدلالة، واللون أو الحركة أو المادة باعتبارها هي الأخرى أدوات ووسائط تشكيلية حافلة بدلالاتها الخاصة. استحضارا لكل ذلك، يمكننا قراءة تجربة الفنان التشكيلي الكاليغرافي نور الدين شاطر، كأحد ورثة هذا المسار الفني الشرعيين، ممن انتبهوا، منذ طفولته الفنية الأولى، إلى ضرورة استثمار الخط العربي في العملية التشكيلية إلى أبعد مدى. فمنذ تجاربه الأولى، التي كان يحضر فيها الحرف العربي كحمال وكسند تشكيليين، قام بفعل ذلك بخلفية تميل إلى التجديد والابتكار، وتنحاز ما أمكن إلى ضرورة التنويع؛ تنويع المقاربة والتناوب وفق خاصية التجريب. ويبدو ذلك واضحا من خلال حضور معرفة الفنان بتجارب رائدة في هذا المجال، ويهمنا أن نذكر في هذا السياق تجربة الفنانين العربيين حافظ عثمان ومحمد شفيق فيما ما يرتبط أساسا بتقنية ما يسمى ب « الكتابة المقلوبة « أو « الكتابة / المرآة «. إلا أن أهم ما يميز تجربة الفنان شاطر كونها تتسم بخاصية الاقتصاد، أي التعامل الحذر المبني على التخفيف مع سطح القماشة، والميل أكثر إلى اختيار حرف أو علامة بعينها لتكون موضوع تشكيل، دون الإسراف في ملء بياض اللوحة كيفما اتفق. ولعل هذا الإمعان الذي يستثمر في « الإشارة « أو في « اللمعة « التي تحمل خاصية « الإبراق»، هو ما يجعل أعمال الفنان نور الدين شاطر تتسم بغير قليل من عنصر التلغيز، الذي ليس - في نهاية الأمر - سوى استثمار في أراضي التجريد الفنية، باعتبارها لغة تشكيلية وجمالية محفوفة بكثير من إمكانيات القراءة والتأويل. ويظهر ذلك واضحا في الأعمال الأخيرة للفنان شاطر، التي عمد خلالها إلى المزاوجة المدروسة والمفكر فيها بين التشكيل اللوني التجريدي والتشكيل الحروفي كاستثمار جمالي، أي محاولته إعطاء بعد تجريدي يغلب على لغة اللوحة أكثر من صياغة جملة أو جمل تشكيلية يطغى عليها طابع الحروفي / الكاليغرافي. إذ يبدو هذا الاشتغال ميالا إلى التخفف بل الابتعاد ما أمكن عن الحرف من أجل الاستثمار أكثر في اللون وفي الحركة وفي المادة الصباغية، ليس كخلفية جمالية مجانية، وإنما كعنصر وكبناء للوحة كما يفهمها الآن وكما تعكسها تجربته الفنية الحالية. لذلك، يبدو من السابق لأوانه تأويل هذا المسار الجديد في تجربة الفنان نور الدين شاطر الإبداعية، للقول بوجود « نية « لديه للتخلي نهائيا عن الحرف كعنصر تشكيلي قد يغير وجهته نحو اعتماد تصوير صباغي يميل إلى التجريد أكثر من غيره. إلا أننا لا نحبذ ربط الحصان خلف العربة، ونترك الحكم عن ذلك للقادم من الأيام، فهي الكفيلة بالكشف عن نوايا هذا المبدع المجدد الفنية والجمالية.