نزولا عند رغبة العديد من القراء والمهتمين نعيد نشر النص الكامل للمقال المتفرد للأستاذ عبد العزيز العتيقي على مشارف عيد الاضحى المبارك ،اختار وزير العدل والحريات أن يحتفل بطريقته ويزف لموظفي وزارته «بشرى» الاقتطاع من أجورهم عقابا لهم على إضرابهم. وحتى يكون لهذا القرار طابع خاص ونشاز ، عما ألفناه في ممارستنا السياسية والإدارية ، فقد عززه السيد الوزير بأغلظ أيمانه وربط به استمراره أو استقالته من منصبه. وهنا يطرح مشكل ربما لم يسبق طرحه في حياتنا السياسية، ألا وهو تأسيس قرار إداري على القسم بالله عوض تأسيسه على المشروعية القانونية. وهكذا أصبح السيد الرميد مطوقا بقسم ناجز وربما نسي في غمرة انفعاله قوله تعالى «ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم» . وعلى كل ، فالدين الإسلامي يتضمن في إطار قيمه ومبادئه الكبرى القائمة على التسامح و اليسر، إمكانية استعمال رخصة كفارة اليمين . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول « إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه». إنني لا أفتي هنا بأي سلوك ، ولكني أذكر فقط حتى لايكون قسم السيد الوزير يحمل أكثر من دلالة انفعال وتأكيد عزمه على ما ارتآه سيادته من وسائل الرد ومواجهة إضرابات كتاب الضبط وموظفي العدل. لأن مشروعية أي قرار إداري أو سياسي لاتتأسس على القسم و اليمين. أما عن ربط بقاء السيد وزير العدل والحريات في منصبه أو استقالته منه بمدى تطبيق قرار الاقتطاع من أجور المضربين، فتلك سابقة سياسية تثير الاستغراب وتبرز وكأن السيد الوزير يعتبر إصلاح أوضاع مرفق القضاء مرتبط بهذا الإجراء. ولذلك فقد بدا له مجديا أن يعطينا إحصائيات حول عدد الأيام الضائعة بسبب هذه الإضرابات وحول الخسارة الاقتصادية و المالية التي تكبدتها ميزانية الدولة بسبب ذلك ، وقد كانت محددة بتفصيل وتدقيق. بالطبع فالسيد الوزير يعتبر هذه الإضرابات التي تشنها النقابة الديموقراطية للعدل غير مشروعة وغير مبررة. لكن النقابة من جهتها تقدم مجموعة من المبررات بعضها مادي مرتبط بتطبيق القانون الأساسي و بعضها مرتبط بالشؤون الاجتماعية و البعض الآخر مرتبط بالتدبير و التسيير الإداري. والمنطق السليم يقضي بعقد تفاوض وحوار جدي حول هذه المشاكل ، وهذا ما تم الاتفاق عليه في إطار جلسات الحوار الاجتماعي الوطني، أما أن يكون باب التفاوض و الحوار مغلقا فليس ذلك عدلا في إطارأن التحدث عن الحياد و احترام التمثيلية النقابية ، كما هي محددة قانونا وفي تلاؤم مع معايير منظمة العمل الدولية ( لجنة الحرية النقابية). كانت هذه المقدمة ضرورية للدخول لجوهر الموضوع و المتعلق أساسا بمدى مشروعية الاقتطاع من أجور الموظفين بمناسبة إضرابهم عن العمل، ولعل مافاجأني في الندوة الصحفية الأخيرة للسيد الوزير، إشارته والعهدة على ماورد في جريدة الصباح العدد 892 إلى كون هذا الاقتطاع يستند إلى مراسيم وقرارات لمحاكم المملكة. وانا هنا سأجيب الأستاذ الرميدالقانوني، فعن أية مراسيم يتحدث مادام حسب علمنا، ليس هناك إلا مرسوم يمكن اعتباره داخلا في هذا الإطار ، وهو مرسوم 5 فبراير 1958 الذي اعتبره البعض بأنه يتعلق بإضراب الموظفين.مع أنه لايستعمل هذه العبارة بصفة صريحة، اذ ينص في فصله الخامس على أن «كل توقف عن العمل بصفته بينة يمكن المعاقبة عليه خارج نطاق الضمانات التأديبية بالنسبة لجميع الموظفين وأعوان الإدارات و المكاتب و المؤسسات العمومية» . وفي رأينا بهذا الفصل يتحدث عن العصيان و ليس عن إضراب منظم له أسبابه ومبرراته. ثم كيف نوفق بين هذا الفصل إن كان يتعلق بالإضراب و الفصل الثاني من نفس المرسوم الذي يضمن حرية النشاط النقابي للموظفين. إذ كيف نسمح بالانتماء النقابي ونؤكد على عدم تأثير هذا الانتماء و النشاط النقابي على الوضعية الإدارية للموظف ثم نأتي بعده ونمنع عليه حق الإضراب، مع أن هذا الأخير يعتبر من أساسيات العمل النقابي. ومن جهة أخرى فإذا افترضنا أن هذا المرسوم يحرم حق الإضراب على الموظفين، فمعنى ذلك أن الإضراب يعتبر تغيبا غير قانوني ، و بالتالي يدخل ضمن لائحة التغيبات غير القانونية. لكننا عندما نراجع القانون الأساسي للوظيفة العمومية (ظهير 15 فبراير 1958) ، و هو النص المعتمد في لائحة التغبيات غير القانونية، لا نجد ضمنه الإضراب، وبذلك فالمفهوم المعاكس للائحة التغيبات الحصرية يفضي إلى القول بكون الإضراب ليس تغيبا غير قانوني عن العمل وإلا لتم ذكره صراحة ضمن اللائحة المذكورة. ومن الناحية الشكلية فإن التراتبية القانونية تقضي بتفوق القانون العادي (التشريع) على المرسوم.وتبعا لذلك فباعتبار التنافي القائم بين مرسوم 5 فبراير 1958 و ظهير 15 فبراير 1958 المذكورين، فإن الأولوية والأفضلية في التطبيق لهذا الاخير احتراما للتراتبية المذكورة. وغني عن البيان أن هذا المرسوم لم يبق له أي معنى وأصبح لغوا بعد صدور دستور 1962 الذي حصر نطاق تنظيم حق الإضراب في مجال القانون التنظيمي وبالتالي أصبح أي تدبير إداري وأي نص قانوني خارج هذا المجال يتناول حق الإضراب يتسم بعدم المشروعية الدستورية. فتنظيم حق الإضراب حقل خالص حصريا للقانون التنظيمي وقد وقع تأكيد ذلك في كل الدساتير اللاحقة وآخرها دستور 2011 . هكذا إذن يتضح انعدام الأساس القانوني لأي تدبير تقدم عليه الإدارة بخصوص حق الإضراب. فعلى ماذا يعتمد السيد وزير العدل والحريات لتبرير قراره بالاقتطاع من أجور موظفيه؟ لقد أشار في الكثير في المناسبات الى اعتبار ذلك مبررا بمبدأ الأجر مقابل العمل ، والحقيقة أن الاستدلال بهذا المبدأ ينطوي على مجازفة قانونية غير مقبولة في حقل الوظيفة العمومية للاعتبارات التالية: فمبدأ الأجر مقابل العمل، هو مبدأ نشأ في اطار قانون الشغل بناء على المنطق المدني التعاقدي القائم على الآثار القانونية لعقد الشغل باعتباره عقدا تبادليا و ملزما لجانبين (طرفي العقد) .فالأجير ملزم بالعمل ومقابله المشغل ملزم بأداء الأجر، وإذا توقف الأجير عن عمله حق للمشغل التوقف عن أداء الالتزام المقابل (الأجر ) ما لم يقض القانون بخلاف ذلك لأسباب محصورة (العطلة السنوية بعض التغيبات...). هذا المنطق لا يمكن إعماله في إطار الوظيفة العمومية ، لأننا لسنا بصدد عقد ، فعلاقة الموظف بالإدارة هي علاقة نظامية و ليست علاقة تعاقدية. فالنظام الأساسي للوظيفة العمومية هو الذي يحدد حقوق وواجبات كل من الموظف و الإدارة و لا وجود نهائيا لمبدأ سلطان الإرادة كأساس للعملية التعاقدية في إطار قانون الشغل. لايمكن قياس ما يجري في إطار قانون الشغل مع مجال قانون الوظيفة العمومية، إذ لا قياس مع وجود الفارق. لأننا إذا قبلنا بتطبيق هذا المبدأ واعتبرنا بأن علاقة الموظف بإدارته هي علاقة إجارة، وبالتالي فلا أجر بدون عمل ، فهذا يعني أن كل التغيبات التي يأتيها الموظف يجب أن يطالها الاقتطاع من الأجر، مع أن قانون الوظيفة العمومية لا ينص على هذا الاقتطاع في حال تغيب الموظف لأسباب صحية. لكن الأجير إذا تغيب لأسباب صحية أو لإصابته بحادث شغل، فإن المشغل يوقف أجرته ليحل محله الضمان الاجتماعي أو مؤسسات التأمين الصحية ، وبذلك فإن القول بتطبيق الأجر مقابل العمل في إطار الوظيفة العمومية كمبرر للاقتطاع من أجور المضربين فيه تجاهل للفوارق الجوهرية القائمة بين وضعية الأجير ووضعية الموظف بين قانون الشغل وقانون الوظيفة العمومية، وبين علاقة الإجارة والعلاقة النظامية وهي مبادئ أساسية وأولية تلقن لطلبة كلية الحقوق ويعرفونها كمسلمات. والواقع أن محاولة تطبيق مبدأ الاجر مقابل العمل في إطار الوظيفة العمومية وبهذه الصورة الانتقائية ينطوي على « نوع من الانتهازية القانونية « لا يمكن الدفاع عنها أو تبريرها، ولذلك فهي لا تعدو أن تكون نوعا من البوليميك السياسي البعيد عن لغة القانون ومنطقه. وهنا مربط الفرس، إذ قد نتفهم هذا الموقف المتمثل في التلويح بمبدأ الأجر مقابل العمل لو كان قد صدر ممن هو بعيد عن الحقل القانوني، أما في نازلة الحال فيصعب ذلك جدا. ولا حيلة لنا مخرجا من ذلك إلا القول بأن التبرير سياسي ولا علاقة له بمنطق رجل القانون. وإني لأتساءل كيف يمكن القول بهذا التبرير إزاء فئة من الموظفين أغلبهم مجازون من كلية الحقوق وبعضهم حامل لشهادة الماجستير والدكتوراه في القانون؟ بلا شك أنه سيحصل لهم إحباط وقد يشككون في ما تلقوه من معارف قانونية أصبحت عندهم يقينية مثلما هي يقينية _ كما افترض _ عند من ارتأى أن يدافع عن قرار الاقتطاع من أجور المضربين في قطاع العدل بمبدأ لا أجر بدون عمل ! والفرق أن هؤلاء الموظفين عندما يعترضون على هذا الاقتطاع يتشبثون بالمشروعية بينما الطرف الآخر يدافع عن الغلط متمثلا قولة الراحل محمود درويش في إحدى قصائده الرائعة « مديح الظل العالي»-» يجب الدفاع عن الغلط» لكن لا ننسى أيضا أن الرجوع عن الغلط أو الخطأ فضيلة . يمكننا إذن، أن نستخلص بلغة القانون، أن قرار الإقتطاع من أجور الموظفين هو قرار تعسفي بامتياز متسم بعدم المشروعية في غياب قانون تنظيمي يستند إليه طبقا للدستور. والغريب حقا أن يتنطع البعض في تطبيق مثل هذا القرار في ظرفية سياسية جديدة تتسم بوجود دستور جديد خصص بابا مستقلا للحقوق والحريات وضمنه أكد على أن تنظيم ممارسة حق الإضراب يتولاه قانون تنظيمي. كما تتسم هذه الظرفية أيضا بانحسار ونكوص الحوار الاجتماعي، فهل مثل هذه القرارات تشجع على صياغة شروط استرجاع الثقة والالتئام في إطار مفاوضات اجتماعية وطنية لمعالجة النزاعات والملفات العالقة ؟ نأمل أن تتحكم لغة العقل وتحضر المسؤولية لدى من هم مؤتمرون ومؤتمنون على الشأن العام.