لايتردد بعض دعاة الإسلام السياسي في اتهام المدافعين عن الحريات بالإلحاد، بل ويتجاوزون ذلك إلى حد تكفير الدولة والمجتمع، ما يفيد صراحة بأنهم يدعون إلى الجهاد وقتل المرتدين أفرادا ومؤسسات، وينطوي ذلك على رغبة أكيدة في زرع الفتن والحروب الطائفية في بلادنا لتفكيك الوحدة الوطنية، خدمة للأهداف السياسية للقوى العظمى. يقوم الإسلام السياسي على مبدأ إقصاء الآخر وتكفيره وشيطنته بهدف شرعنة الاعتداء على حقوقه وحياته. والتاريخ شاهدٌ على الجرائم الشنيعة التي تمَّ ارتكابها في حق الفكر والبشر نتيجة الإيديولوجيا القائمة على اعتقاد مشايخ الإسلام السياسي في وكالة إلهية تفوّض لهم محاكمة عقائد الناس وأفكارهم وحتّى إبداعاتهم، ما يجعلهم لا يتورعون عن توزيع تهم الكفر والردة والزندقة على الناس المختلفين عنهم والمطالبة بقتلهم. إنهم يدعون القدرة على الانفراد ب »فهم« العقل الإلهي وتحكيمه في معيَرة إيمان الآخرين ودرجة ثباته، رغم اختلاف العقل الرباني عن العقل البشري منهجا ونظاما، إذ لا يمكن للبشر أن يحيطوا علما بالعقل الإلهي، ولا أن يستطيعوا العمل بطرائقه لأنهم ليسوا أربابا. من المستحيل حدوث ذلك... إذا كان العقل البشري يقوم على البحث والتجريب والتحليل والتركيب والاستنتاج...، فإن العقل الإلهي يمتلك قدرات مطلقة، ويستغني عن التجربة ويترفع عن المحاولة والخطأ والصواب، ما يجعل الخلط بين العقلين يلحق ضررا كبيرا بالدين وبالمجتمع. تبعا لذلك، فما يترتب عن الفرض الرباني هو الطاعة والتنفيذ وليس البحث والفحص، وعلى المؤمن أن ينفذ طائعاً أوامر العقل الإلهي الذي لا يخضع لتعليلات البشر واستنتاجاتهم، ولا للحتمية العلمية أو التاريخية، لأن هذه قواعد عقل بشري وليست قواعد عقل إلهي. يرى الباحث سيد القمني أن الإصرار على تفسير العقل الإلهي بالعقل البشري هو إصرار على احتواء العقل الإلهي اللامتناهي والكامل من قبل العقل البشري القاصر والمحدود، واستيعابه وإخضاعه لقواعده، ما هو غير ممكن مطلقا، بل إن قياس منتج العقل الإلهي على قوانين العقل البشري قد يؤدي إلى الإلحاد لذلك، قد يقول شيخ بكفر شخص معين مع أنه قد يكون مؤمنا بقياس العقل الإلهي، وبالتالي فالشيخُُ يرتكب معصية وإثما، لأنه يكون أوَّلا وقبل كل شيء قد تطاول على حق الخالق القادر وحده على الحكم على ضمائر البشر بالكفر أو بالإيمان، إذ لا يمكن أن يلزم الشيخ الله بقرار عقله البشري الذي يختلف كلية عن العقل الإلهي، وإلا أصبح شبيها به وشريكا له... ذلك أنّ قبول إيمان إنسان من عدمه راجع إلى مشيئة واحدة فقط هي المشيئة الإلهية التي لا يعلمها أيّ من البشر، لا شيخ ولا فقيه ولا كاهن ولا داعية، وبالتالي فتكفير من يختلف عنا في طريقة عبادته أو معرفته بالله هو خطأ في تفسير مُراد الله ومقاصده، لأننا عندما نختلف حول أمر ديني فإنَّ أحد طرفي الخلاف الكافر برأي الطرف الآخر يكون ليس كافراً بالله، إذ يكون الخلاف في الواقع خلافا بين بشرين، ما يشكل كفر رأي برأي آخر، أو كفرَ بشر ببشر لا كفرا بالله، إذ يتعلق الأمر بخلاف بين البشر حول تفسير كلام الله. ويعود ذلك إلى اختلاف عقلياتهم ومرجعياتهم الفكرية والثقافية، ما يجعله اختلافا وحوارا بين البشر لا يفسد علاقة أحد المختلفين بربه، لأنه اختلاف بين رأيين من نتاج العقل البشري القادر على تدبير شؤون الحياة الدنيا وليس على صنع أديان. لا يعي المكفرون ما ورد في مجموعة من الآيات من أنَّ الله ما خلق الإنس والجن إلا ليعبدوه. و «كل في فلك يسبحون»، والتي تصرح بكون البشر جميعاً والجن وكل الخلائق تعرف الله وتسبح بمشيئته، لأنهم جميعاً لو لم يعبدوا ويسبحوا لحدث خلل في نظام الكون، وما نرى فيه أحيانا كفرا إنما هو شكل من أشكال العصيان، إد تعرف البشرية أن للكون خالقا، ما يجعل التكفير إنكارا للآيات القرآنية التي تؤكد أن الله خلق الخلق ليعبدوه. فمن كفر غيره فهو منكر لمعلوم من الدين بالضرورة، ذلك أنَّ الله يقول إنه أوجَدَ الخلق لكي يعبدوه وأمرهم برحمة بعضهم بعضا لأنه هو الرحمان الرحيم. يقول دعاة الإسلام السياسي بكفر الآخرين، بينما وجود كافر واحد بمعنى المنكر للألوهية ولوجود الذات الإلهية يُسقط مشيئة الله القاضية بمعرفة كل خلقه بما فيه الجماد، والقاضية أيضا بإيمان الكل به وبعبادته وإن فعل كلٌّ ذلك بطريقته . والنبي محمد (ص) بكل نبوته، لم يكفر مسلماً، وكان ينتظر دوماً قول الله ولا يقول من عنده لأنه بشر وعقله عقل بشر لا يبتدع ديناً. تأسيسا على ما سبق، فالله لم يخلق العقل البشري ليبتدع الأديان والملل والنحل والمذاهب ويفتي فيها، ويدعو إلى خالقه بالعنف والتّرهيب وتغييب الحكمة والموعظة الحسنة. وقد علمتنا دروس التاريخ كيف أدى تدخل العقل البشري في ما هو منتج إلهي إلى تشتت الأديان وظهور الفرق والمذاهب المتصارعة داخل الدين الواحد، رغم تسليمها كلها بوحدانية الله، ما يعني أن كل هذه الصراعات صنيعة بشرية تخدم مصالح البشر وأهواءهم. ومنذ تم إقحام الدين في السياسة عانت البشرية من ويلات الحروب الدينية والطائفية، وفي سبيل مكاسب رجل الدين مات الملايين في حروب ضارية، ظانين أنهم يستشهدون في سبيل الله والحال أنهم كانوا يموتون في سبيل إثراء من يعتقد خطأ وظلما أنه وكيل لله مفوّض من قبله (سيد القمني). والمؤمن الحقّ هو من يعي أن العقل البشري لم يحدث لإنتاج أديان وصناعتها، لأنه حين يفعل ذلك يثبت قصوره ومحدوديته ويقدم بدعاً لا ديناً، وهو من يعي أيضا أن الدين شأن إلهي لا دخل للبشر فيه ولا إرادة لهم في صنعه، ويعلم أن عقلنا البشري هو لإعمار الأرض وليس لإقامة الأديان والارتزاق منها أو المتاجرة بها. ولأن العقل البشري غير مؤهل لذلك، فقد لزم إبعاده عن الدين وإبعاد الدين عنه، وذلك بالتخلي التام عن وسائط الكهنة والمشتغلين بالدين من البشر الأدعياء. وهكذا فوحدة الإله ووحدة الإنسانية تفترض وحدة الدين الذي هو علاقة خالصة بين الخالق والمخلوق اللذين هما عنصرا الإيمان، ومن هنا جاءت كل الأديان متفقة حول جوهر الإيمان، وما الاختلاف بينها إلا بسبب اختلاف الزمان والمكان واللغة والمعرفة المرتبطة بالأمم المخاطبة بالعقيدة. فقد أوجدنا الإله شعوباً وقبائل وأمماً لنتعارف لا لنتحارب ويقتل بعضنا بعضاً بالتراشق بتهمة «الكفر».