تحركت قريحة مجموعة من الفاعلين الأمازيغيين المغاربة مؤخرا بسرعة مضاعفة لانتقاد الدولة في مماطلتها في دسترة اللغة الأمازيغية و عدم استصدارها لقوانين تنظيمية لذلك، وتجندوا، أيضا، لطرح اشكالية الأسماء الأمازيغية و ضرورة العمل على إنهاء «محنة» هذه الأسماء، كما انزوى البعض مبرئا الحركة الأمازيغية مما نسب إليها من إقامة ل«محاكم شعبية» بالحرم الجامعي بمراكش، وقد كان خبر بتر بعضٍ من أعضاء الطلبة وأيديهم وأرجلهم غير مستساغ بالنسبة للحركة الأمازيغية، وخصوصا في هذه الظرفية بالذات . من جهة أخرى، ولكثرة الكتابات المنشورة أضحينا نرى أن هناك صراعا خفيا ما بين «مثقفين »» لكنهم عرقيين بامتياز ، و«مثقفين أصوليين» يروجون ل«يوتوبياتهم» بطريقة دعوية، لكن الخلاف الظاهر أن كلا المثقفين نراه يتناسى قيم العقلانية و يلعب على وثر العواطف مدغدغاً لمشاعرٍ أكثر منه مُسْتَفِزّ اً لفكرنا النقدي. إن تأمل الصراع الخفي هذا جعلنا نُكَوِّنُ فكرة أوليّة مفادها أن هناك تناقضا ما بين المشروع الديني/ الثيوقراطي، الذي تسعى إليه مجموعة «فلول الوهابية» المشرقية بالمغرب مُمَثَّلَةً في «الحركة الوهابية» التي ترفع شعار «الإسلام هو الحلُّ»، مثلما تَمْتَحُ نكهته «الحكومة الإسلامية» الحالية التي تقود تجربة «التَّنَاوُب» الثانية بالمغرب...، و المشروع الاثني / العرقي الذي يَعْتَبِر أن اختفاء «الفلكلور» الشعبي الأمازيغي من القنوات المغربية وتعويضه ببرامج الذكر و ترتيل القرآن و ترديد الأمداح النبوية عملا يستهدف «القضية الأمازيغية» في مقتل. إن جدلية التعارض هذه، تترك الإنطباع بأن المغاربة أصبحوا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يختاروا «مشروع الدولة الدينية الثيوقراطية»، أو أن ينجذبوا جميعهم ل«مشروع الدولة الإثنية العرقية»، وكأن ذهنية النخب المغربية أصابها الصَّدَأ، إن لم نقل العُقْم فلم تعد قادرة على إنتاج خيار ثالث يستوعب الوطن بدون مزايدات. إن السؤال الذي يلزمنا طرحه في ظل هذا الصراع المحموم الآن هو: هل بالفعل نحن ماضون - كما يدعي البعض - نحو تحقيق «الدولة المدنية» القائمة على أساس المواطنة من دون تمييز ديني أو عرقي، مُسْتَوْعِبين لجميع الأديان والأعراق أم أننا ساعون، بطرق ملتوية فيها الكثير من التحايل، لتَأْسيسِ دَوْلَةٍ الدِّينُ سَوْطُها أو العِرْقُ وَسيلَتُها؟ لابد من استحضار معطى أساسي بالنسبة للتجربة المغربية و الذي ساهم في «سلاسة الربيع المغربي» الذي وُصِف بأنه كان استثنائيا بالمقارنة مع ربيع بعض الأقطار العربية، وهو أن المغرب لم ينخرط كلية في مشروع «القومية العربية» الذي تحمست له مجموعة من البلدان (مصر، سوريا...)المؤمنة بأن دولة عربية واحدة ستقوم لتجمع العرب ضمن حدودها من المحيط إلى الخليج والتي جسدت هذه الفكرة بأيديولوجيات مثل الحركة الناصرية والتيار البعثي اللذين كانا الأكثر شيوعاً في الوطن العربي، خصوصا في فترة أواسط القرن العشرين حتى نهاية السبعينات، إلا أن هذه البلدان عايشت حراكا اجتماعيا مصيريا، أدى الى تغيير أنظمة سياسية وأخرى أعلنت إفلاسها، فانتهجت سياسة الأرض المحروقة عملا بمقولة «أنا أو لا أحد» و «أنا ومن بعدي الطوفان»، ولعل انفتاح المغرب على الإتحاد الأوربي و على الغرب عموما جعله في مأمن من مثل الأحداث التي تقع في مجموعة من البلدان العربية، نظرا لأن العلاقة مع الغرب دفعت المغرب إلى القيام بإصلاحات، حتى ولو كانت شكلية، فهي موجودة، طبعا ليس بالشكل الذي يطمح إليه كل متشبع بثقافة الإصلاح، لكن رغم ذلك يعتبر من الجحود نفي قيام إصلاحات ابتدأت أوراشها مع «العهد الجديد».و إذا كان تحوط المغرب من حماسة الإنخراط في مشروع «القومية العربية» قد شكل له مأمنا من أي تحوير لرؤيته السياسية، فهذا لا يعني أن منحى التاريخ المؤسس على حتمية: «استحالة السباحة في النهر مرتين ما دامت مياهه تتجدد باستمرار»، فكذلك هو التاريخ السياسي للدول لا يمكنه أن يدوم على حال، فهل يمكن القول أن المغرب سيضمن لنفسه الإستقرار السياسي إذا ما احتمى بالدولة الثيوقراطية / الدينية أو بالدولة الإثنية / العرقية ...أكيد أن نَزَعات كهذه لن تزيد الوضع إلا تَأَزُّمًا لذا فمن المفيد التفكير في خيار ثالث غير الخيارين السالفي الذكر. كنا قد طرحنا في مقال سابق عنوناه ب:«سؤال الهوية : بين دور العائق ومسوغ الإقلاع» مسألة أساسية و هي أنه لا ينبغي اختزال الهوية في المكون اللغوي و إلا لكان تعلم لغات أجنبية تهديد لهذه الهوية، كما أن الإنشغال بدسترة اللغة الأمازيغية يشكل أكبر دليل على أنه تم احتواء سؤال الهوية في المكون اللغوي، كما أشرنا في نفس المقال إلى إشكالية «الصفاء العرقي» بالمغرب وصعوبة الحسم في هذا الأمر ف«العِرْقُ» ، كمصطلح بيولوجي يشير إلى الاختلافات الفيزيقية التي يرى أعضاء مجتمع ما أن لها أهمية اجتماعية، يستخدم في النقاش العمومي لوصف جماعة بشرية لكن ينبغي الإنتباه إلى أن عملية الإختلاط البيولوجي تمت و لا أحد بإمكانه نكرانها إما بفعل الهجرة أو بفعل تلاقح الأعراق أو بفعل تأثيرات العوامل المناخية و التغذية و الأمراض... و الأمر واضح فالأنثروبولوجيين قلما تبنوا فرضية «الصفاء العرقي» بل إنهم ينبذون هذه الفرضية. و اذا كان «الصفاء العرقي البيولوجي» محسوما في غيابه فالأمر كذلك بالنسبة «للصفاء العرقي الثقافي» و الذي غالبا ما يوصف ب«الإثنية» التي تعبر عن الهوية و المظاهر و الممارسات الثقافية لمجتمع معين و التي نشأت تاريخيا، كما أنها تنزع نحو فصل الناس عن بعضهم البعض. وهذا «الصفاء الإثني» هو أيضا لا داعي للبرهنة عليه فهو قد تعرض لعملية اختلاط شبيهة إلى حد ما بالإختلاط العرقي البيولوجي. إن الدولة المغربية الحديثة مازالت في طور النشوء و التَّكَوُّنِ كمثيلاتها من الدول النامية سياسيا (العربية على وجه الخصوص)، و بالتالي فهي لم تَجْتَزْ مرحلتها الجَنينيَّة للمرور إلى الدولة الحديثة، فإذا كانت بعض الدول الشبيهة تجربتها بتجربة الدولة المغربية لازالت تتسم بطابع عشائري و قبلي، بل هناك بلدان لازال الفقيه يؤدي دور «رجل الدين» المتحكم برقاب المواطنين فيصدر الفتاوى كما يَحْلُو لَهُ وَ لِسُلْطانِه...كما أن شيخ القبيلة أو العشيرة لازال نجمه ساطعا في بعض الدول ،أما بالنسبة للمغرب (و بعض جيرانه بشمال إفريقيا) فلنا مزيج عرقي أمازيغي، عربي، أندلسي، زرهوني، صحراوي...و مزيج ديني: إسلامي، مسيحي، يهودي...و لئن كانت التشكيلة الدينية محسوم أغلبيتها للمسلمين، فإنه من الصعب حسم الأغلبية العرقية، لهذا غالبا ما تسعى الجماعات الإثنية إلى إظهار سمو عرق وتميزه عن غيره من الأعراق إنما تحيل فقط إلى مفهوم «التعصب العنصري» فما وجه الفرق بينه وبين «التطرف الديني»؟ يعاب على الحركات الدينية الأصولية أنها حركات «جمودية» تقف في وجه التطور وتتشبث بالتقاليد وترفض التجديد والتقدم والإصلاح في السياسة والمجتمع، بل إنها تحجر على مسالك الحداثة، وهي تحيل على تجربة شبيهة مرت منها أوربا والتي عُرِفَتْ بعصور الظلام التي سيطرت على أوروبا و التي أفرزت «حركة التنوير» كحركة مضادة قامت بالدفاع عن العقلانية ومبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة ... كما قادت معركة استغرقت أربعة قرون متتالية: من «مارتن لوتر» و «ايراسم» إلى «هيجل» و«نيتشه» مرورا ب«اسبينوزا» و«جون لوك» و «فولتير» و «ديدرو» و«روسو» و «كانط» و غيرهم... علما أننا لا نختزل الأصولية الدينية في «الأصولية الإسلامية» فقط، بل نقصد أيضا «الاصولية اليهودية» و«الأصولية المسيحية»... و هي أصوليات اتخذت من الشعار الديني مبررا لممارساتها السياسية. إن انتقاد «الدولة الدينية» القائمة على نظام حكم يستمد مشروعيته وسلطانه مباشرة من الإله أو الكتاب الديني و يسعى إلى السيطرة بفكر (كهنوتي) ديني، هو مدخل، أيضا، إلى انتقاد «الدولة الإثنية» التي تسعى إلى بناء سلطتها على المشروعية العرقية، مع التحريض على «التعصب العرقي» الشبيه إلى حد ما ب«التطرف الديني». فما الفرق بين من يطالب بالحكم و السلطة منطلقا من أن الله هو السلطة السياسية العليا و أن القوانين الإلهية هي قوانين المدنية الواجبة التطبيق، و بين من يطالب بهما منطلقا من أن عرقه هو الأحق بممارسة السلطة و أن بقية الأعراق هي دونه قيمة؟ أليس في الأمر تناقض مع الديمقراطية و الدولة المدنية؟ اليس ادّعاء السلوك الديمقراطي في مثل هذه الحالات هو «تَقِيَّةٌ» لضرب الديمقراطية في الصميم؛ فالديمقراطية تؤمن بالإنسان من دون أن تموقعه لا عرقيا و لا دينيا... ومن هنا فمن يسعى إلى تأسيس دولة مدنية على مرجعية دينية او اثنية إنما يمارس التشويه في أسخف حُلَّةٍ ،و يُرَوِّجُ الوَهْمَ كي يَلُوكَهُ «الرِّعاع» و هو في قرارة نفسه مؤمن بصعوبة الأمر. إن المغرب كدولة غير مكتملة النمو لازال لحد الآن لم يحقق حلم «الدولة المواطنة» التي يزول فيها التمييز الديني والإثني/العرقي...و لا نرى أن تحقيق هذه الدولة رهين بركوب التطرف الديني أو التعصب العرقي و الإثني. إن الطريق إلى هذه الدولة هو طريق تطوير و سائل الإنتاج و إعادة إنتاج الإنسان المتعلم المنفتح و القابل للتطور لا المنغلق على ذاته. و هذا الأمر يتطلب التفكير في بناء الدولة الحديثة التي تبتغي التخلص من التمييز بكافة أشكاله فالطوائف الدينية والإثنيات العرقية و القوميات ليست هي البديل بل إنها مشروع «اللادولة» أو «دولة القبيلة» و طبعا هي بعيدة كل البعد عن دولة المؤسسات . لقد آن الآوان أن نستفيد من تجارب دول متقدمة، ولم لا العمل على نقل بعض من تجاربها مستعينين بها طامحين من خلال ذلك الى تطوير إمكانات البلد اقتصاديا و تحديث الأجهزة الرقابية للدولة من أجل محاربة الفساد و من تم المرور إلى مرحلة تطوير العملية السياسية الديمقراطية لا التفرغ لتحريك النعرات الدينية و الإثنية. * عضو المكتب المسير ل «جمعية تيفاوين للتنمية و التكوين» بآسفي