كنتُ دائما مقتنعا، ولا زلت، بكوْن الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام مدّعين وحدهم احتكار الحديث باسمه، والإفتاء بلسانه، همْ أكبر المسيئين له. ليْس فقط بسبب ما يقترفونه باسمه من مساوئ وأخطاء قاتلة تزيد سمعته قتامة من بين الديانات التوحيدية الأخرى، ولكنْ بصورة أعمق وأخطر بسبب جهل غالبيتهم المهول بما ينطوي عليه الدين الإسلامي. ولقد علافتُ شخصيا بعضا من هؤلاء ممن لمْ يتصفّح، لكيْ لا أقول «يقرأ» كتابا واحدا في تاريخ الإسلام، ولا في التفسير، ولا في أسباب النزول، ولا في السير. وتراه طيلة يومه يردّد أحاديث لمْ يطلّع عليها في نصوصها وسياقاتها التاريخية والسياسية. هذه حال الكثيرين من المتأسلمين اليوم الذين يزيدوننا ويزيدون الإسلام تشويها وتزمّتا وتخلّفا بسبب جهلهم أوّلا، وثانيا بسبب الخواء الداخلي الذي يملؤونه بالخطاب والتكفيري السهل. لكن الخطير في الأمر هو أنْ يصدر مثل هذا الخطاب عن مسؤولين في مواقع حساسة تفترض لوْك اللسان في الفم أكثر من سبع مرّات قبل التفوّه بما لا يليق بالموقع. والأخطر، فوق هذا وذاك، أنْ يكون المستهدف هو الكاتب أو الصحافي أو المجلل أو المفكّر. مناسبة هذه المقدمة هو ما السابقة التي صدرتْ عن وزيرة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية في حقّ الكاتب المغربي سعيد لكحل، الذي اتهمته علانية بكونه ملحدا قائلة بالحرْف: «هذا الرجل غير متدين». إنها دعوة تكفيرية صريحة، وحديث مغلوط باسم الدين. لا ينبغي، في تقديري، النظر إلى هذه النازلة كأنها فعل معزول. إنها خطوة من بين خطوات أخرى تصدر عن سلفيين متشددين في أعماقهم، يتصرفون بتقيّة محسوبة وظرفية. ومن حسن حظّنا أنّ زلاّت الكثير من مسْؤولي العدالة والتنمية، منذ جاء إلى الحكومة ممتطين صهوة الدّين، تكشف من حين لآخر أنّه ليْس في القنافذ أملس. مثل هذه الاتهامات لا يمكن أن يسكت عليها المثقفون لأنها تمسّ في العمق مبدأ حرية التعبير عن الرأي، مهما تكن درجة اتفاقنا أو اختلافنا مع صاحبه. عندما كنّا نخطو خطواتنا الأولى في درب الثقافة، كنا نقرأ باستمرار ونلاحظ حملات تضامنية، بالتوقيع وبغيره، مع كتّاب وإعلاميين تعرضوا للتضييق أو للاعتقال. لكنْ مع تحوّل الزمن، توارتْ هذه الحملات التي كانتْ دعما نفسيا وإنسانيا ومساندة فعلية لاستمرار جذوة الحرية سارية في نسغ الكتابة والإبداع. وإذا كان الدور اليوم على سعيد لكحل، فلا يمكن أنْ نتوقّع على من يكون الدور غدا ولا كيف. إنّ عدد المثقفين والمفكرين والكتّاب في بلادنا قليل، وهذه القلة لا ينبغي إسكاتها بالتهديد والتخويف والتكفير. وبالتالي فإنّ المنظمات والجمعيات والمنتديات الثقافية والحقوقية في بلادنا لا ينبغي أنْ تعتبر مثل هذا الخطاب التكفيري، المدروس والمقصود، مسألة غير ذات قيمة. لا بدّ من عودة دفاع المثقف المغربي على حرية التفكير والإبداع والكتابة. فبدون حرية، لا يمكننا أنْ نتقدّم، وبالاستناد إلى لغة تكفيرية متهالكة لا يمكن أنْ نستعيد صورة الإسلام الحقيقة التي لطّخها هذا الخطاب. إنّ الرسول، الذي بشّر بالديانة الإسلامية وبلّغها بكل أمانة، لمْ يحدث أنْ كفّر مشركا أو نصرانيا أو يهوديا. الرسول نفسه هو الذي استقبل وفد من نصارى نجران بالمسجد وليْس ببيته، وهو الذي رفض قتل أبيّ بن سلول الذي أساء له ولبيته، وهو الذي لمْ يرفض أنْ تبقى زوجته ريحانة على دينها اليهودي، كما لمْ يرفض أنْ يظلّ مارية القبطية، أمّ ولده إبراهيم، على دينها المسيحي. وبالعودة إلى أبسط كتاب في «أسباب النزول»، ككتاب الواحدي أو السيوطي، يتبيّن أنّ الرسول كان منصتا للاختلاف والانتقاد إلى درجة أنّ العديد من الآيات تمّ نسخها أو تعديلها بوحي حتى تتماشى مع الواقع المتعدد والمخلف. وما تعدّد كتب التفسير والفرق الإسلامية والكلامية، في التاريخ العربي الإسلامي، إلا دليل ملموس على قبول الاختلاف الذي كان الفقهاء يروْن فيه رحمة على الدين والعباد. إنّ أغلب الناطقين باسم الإسلام يعيشون على ثقافة القنوات الخليجية التي فيها كلّ شيء إلا ما يتصل بالحقيقة الدينية، يعيشون على ثقافة الأذن التي لا يمكن أنْ تفرز إلا فكرا قطيعيا يأتمر بكلمة واحدة قدْ تدفع إلى القتل. وما تلفّظ به الوزيرة المغربية لا يمكن إلا أنْ يندرج في هذا الأفق. هلْ يمكن القول بأننا نحتاج إلى محاربة لأمية أخرى أفظع وأخطر، أمية باتت تهدد الكاتب اليوم، في الوقت الذي كانتْ معركته في الماضي معركة فكرية وسياسية. لا بدّ لصوت المثقف أنْ يستعيد قوته لكيْ يكون مع حرية التفكير ضدّ الخطاب التكفيري.