تبينا في غمرة انشغالنا بإشكالات التحول السياسي في المجتمعات العربية، أن قطع أشواط في دروب التمرس بما يُمكِّننا من تحقيق الإصلاح السياسي المطلوب، يقتضي مواصلة الجهد وتنويع المقاربات أثناء مواجهة الإشكالات النظرية والتاريخية في مشهدنا السياسي. كما أدركنا أن معضلات التاريخ الكبرى من قبيل ما نعانيه في الحاضر العربي، تستدعي الالتفات إلى جذور المشكلات، وتجنب المعالجات الاختزالية والسريعة، للتمكن من بلورة التصورات والمقترحات، القادرة على بناء الفكر الأكثر مطابقة لتطلعاتنا الرامية، إلى تجاوز أشكال التعثر والتردد والتراجع، التي تشكل سمات غالبة على مختلف مظاهر مشهدنا السياسي. وإذا كان من المؤكد أن مفردتي حداثة وتحديث، تمتلكان سحرا خاصا، بل وجاذبية ملحوظة، سواء في أصولهما في الفلسفة السياسية الحديثة، والمعاصرة أو في أغلب ما يصدر اليوم في خطاباتنا السياسية، فإن طريقة تعاملنا مع الحمولة النظرية لكل منهما، اتخذت في أبحاثنا في هذا الكتاب، وفي كتبنا الأخرى طابعا يتسم بكثير من المرونة. فنحن نعي جيدا أن المفاهيم المذكورة مفتوحة، وهي ليست جواهر خالدة. ولعلها في أصولها تفتح أمامنا أفقا في الفكر مشرعا على إمكانيات في التجريب التاريخي، الذي نتصور أنه يتيح لنا بناء على مقدمات تاريخية ونظرية، إبداع أشكال من التحديث السياسي، نحن في أمس الحاجة إليها، لمواجهة حالة الإنسداد العامة في أغلب البلدان العربية. انطلاقا مما سبق، نقف في مبحثين اثنين من عملنا هذا، أمام قضايا نظرية مركَّبة، ونقاربها بآليات في التشخيص والفهم، متوخين من وراء ذلك كما أشرنا آنفا تنويع مقارباتنا، وتركيب تصورات واضحة في بابهما. يتعلق الأمر بتوسيع المشاركة السياسية وبناء دولة المؤسسات، الذي نتجه فيه لتوضيح مبدأ سلطة التشارك وبناء دولة الحق والقانون، باعتبار أن التفكير في بدائل الدولة المستبدة في مجتمعاتنا، يقتضي المرور بفترة انتقالية، تتيح لنا بناء على توافقات سياسية تَعْبِيدَ الطريق للقطع مع أنظمة في السياسة والتاريخ، لاعلاقة لها بمكاسب الفكر والسياسة في الأزمنة الحديثة. أما الموضوع الثاني، فنبحث فيه مفهوم المواطنة، لنقترب من عوائقها وصعوباتها في الفكر والمجتمع العربيين. وفي المبحثين معا شكل هاجس تأصيل المفاهيم في أبحاثنا، أفقا موجها للبحث والنظر. بل إنه شكَّل مناسبة لفحص ومراجعة الأوضاع العربية، في كثير من أوجهها وتناقضاتها، الأمر الذي أتاح لنا التفكير في كيفيات توطين بعض المفاهيم، داخل فضائنا السياسي، وفي إطار الأسئلة والتحديات التي تتفاعل داخله. إن الهاجس المنهجي الموصول بمبدأي التأصيل والملاءمة، ودون إغفال مطلب النجاعة، شَكَّل توجها مركزيا في الأبحاث المذكورة. ولهذا عملنا أثناء إعادة بناء المفاهيم على تركيب المعطيات المحلية، التي تجعلنا نمسك بالوقائع، ونبني التصورات التي تساعد في عمليات تطويرها. يستوعب الكتاب أيضا بحثا مطولا عن الإصلاح السياسي في مغرب مطلع الألفية الثالثة، وهو يقارب موضوع الإصلاح ومجالاته في التجربة السياسية المغربية. وقد توقفنا أمام هذه الحالة، لنرصد بعض جوانب الإصلاح، ونعاين في الوقت نفسه صعوباته، وذلك ببلورتنا للأسئلة الجديدة التي ولَّدتها هذه التجربة، في مجال التفكير في منعطفات الإصلاح العربي ومآلاته. وقد حرصنا في أبحاث أخرى، على معاينة جهود بعض المفكرين والفاعلين السياسيين، من أجل تشخيص أوسع لمسارات إرادة التحديث. فلم نكتف برصد الوضع العربي في بعض تجلياته السياسية، بل وجهنا عنايتنا أيضا لأدوار الفاعلين الآخرين، من قبيل المفكرين والمثقفين، وذلك لمعرفة حدود أدوارهم داخل محيطهم التاريخي. وضمن هذا الإطار توقفنا أمام المشروع الفكري للأستاذ أومليل، وهو مشروع نعتقد أنه يروم تأصيل الحداثة السياسية في فكرنا. كما توقفنا أمام عمليات المراجعة التي يمارسها الكاتب والفاعل السياسي كريم مروة، وهو يراجع في ضوء تفاعلاته المتواصلة مع المشهد السياسي العربي والعالمي، ويختار الدفاع عن ترسيخ القيم الليبرالية باعتبارها مدخلا مناسبا، للتمكن من بلوغ عتبة العدالة الاجتماعية. ولم نكتف بما سبق، بل أضفنا ملحقا قدَّمنا فيه قراءتنا لنص الأمير لماكيافيل، وهي قراءة تتجه لتأكيد حاجة الفكر السياسي العربي للماكيافيلية، باعتبارها أحد المداخل الكبرى والهامة، لتعيين المجال السياسي في تقاطعه مع كل من الطوباوي واللاهوتي. وفي الفصل الأخير من هذا العمل، وضعنا أمام القارئ حوارا أُجري معنا حول مجمل أعمالنا، لعله يُقدم للقارئ صورة عن كيفيات نظرنا إلى بعض إشكالات الفكر العربي المعاصر.