عندما يتم الحديث عن رهان المرور إلى الديمقراطية التي تربط الانتخابات بإنتاج النخب على أساس الكفاءة والمسؤولية والنزاهة في السياق السياسي المغربي، تتبادر إلى الذهن مباشرة "الخصوصية" المغربية والإمكانيات المتاحة لتحقيق هذا المرور. وعندما يتم الحديث عن هذه "الخصوصية"، مقارنة مع واقع الدول المشرقية، لا نقصد بذلك التلويح بكونها لعبت الأدوار المنوطة بها في الجوانب المتعلقة بالرفع من وثيرة المرور إلى "الديمقراطية الصحيحة"، ومن تم تمكين البلاد من تحقيق المستويات المنتظرة في مجالات التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل نقصد بذلك أننا البلد الوحيد جهويا وإقليميا الذي تمكن من تخطي السقوط في نمطية منطق الدولة المستبدة، ودولة "العسكر"، ودولة الحزب الواحد (دولة "الثورة" أو دولة "الضباط الأحرار")، ودخل في نظام التعددية السياسية والاعتراف بالتنوع الثقافي في السنوات الأولى بعد الاستقلال. ففي هذا الشأن، كانت قرارات تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم بعد ذلك الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وإقرار هذا الأخير إستراتيجية النضال الديمقراطي قرارات تاريخية في هذا المجال، قرارات عبرت بالملموس عن الإيمان الراسخ عند النخب العصرية القيادية بأهمية تأسيس التعددية الإيديولوجية في سياق التكامل والتنوع الثقافي والجغرافي الطبيعي للبلاد. لقد كانت هاته القرارات كذلك تعبيرا واضحا كون تاريخ المجتمع المغربي ليس كتاريخ باقي المجتمعات المشرقية. فإضافة إلى كونه عرف "تساكنا" و"تلاقحا" تاريخيا لعدة ثقافات وحضارات، تميز بهيكلة سوسيولوجية ونفسية وجغرافية رسخت "النزعة الوحدوية" عند المواطن المغربي، ومكنته من مقاومة الإمبراطورية العثمانية ومحاولات غزو متعددة، وبالتالي جعلت من جل التفاعلات السياسية التي عرفها في مراحل مختلفة من تاريخه بالغة الأهمية. ووعيا بهذه الخصوصية، كانت "النخبة الحداثية" متيقنة بكون بناء الدولة العصرية لا يمكن أن يتم إلا بتأسيس نظام تعددي تلعب فيه القوى الحية التقدمية دور السلطة المجتمعية المضادة لمناهضة المكبلات التقليدية الثلاثة للعمل السياسي الديمقراطي الحقيقي: القبيلة والعقيدة والغنيمة، وبالتالي تحرير المواطنين المغاربة من البدع التقليدية "المصطنعة" المعرقلة للفاعلية والمردودية في العمل السياسي. بالطبع، هذا المشروع السياسي الوطني الجديد الرافض للاستبداد وتكريس منطق المحافظة في ممارسة السلطة، لم يكن مرحبا به، بل تحركت ضده منذ البداية الآلة المناوئة له بوسائلها المتنوعة بشريا وماديا، ولم يدخر روادها جهدا من أجل تحويل "الديمقراطية"، التي كانت مطلبا جماعيا ووسيلة فريدة لتحقيق هذا المشروع، إلى مجرد شعار متداول بدون مفعول على مستوى الممارسة والواقع المعيش للمغاربة. لقد تحركت الآلة القمعية كرد فعل ضد هذا المشروع، واستعملت كل الوسائل الممكنة من أجل توسيع الهوة ما بين نخبه العصرية وجماهير الشعب المغربي، لكن بدون جدوى. لقد مكنت الخبرة والتجربة السياسية العاليتين التي ميزت القيادات الحداثية التقدمية آنذاك وقوة قناعاتهم السياسية بضرورة بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي من إفشال الدسائس الماكرة لأصحاب المصالح الكبرى، وبفضل الثقة المتزايدة التي وضعها فيهم الشعب المغربي، تمكنوا من حين لآخر من إيجاد الصيغ الملائمة لتبادل الرسائل الضرورية مع المؤسسة الملكية، مصححين بذلك الإدعاءات و"التخويفات" و"الهواجس الشيطانية" التي كان يبتدعها رواد المقاومة من أجل استمرار الحذر و"النفور" ما بين الملك والمناضلين الوطنيين الشرفاء. الأهم في كل هذا، كون الإصرار على تقوية العلاقات المؤسساتية بين الفاعلين كأساس لبناء دولة عصرية مؤسساتية وديمقراطية لم يتم لا إقباره ولا إضعافه، بل على عكس ما كان يصبو إليه المناوئون، توج المسار التفاعلي بالانفراج الذي تتبعه الرأي العام الوطني والدولي في بداية التسعينات، والذي تحول إلى انفتاح سياسي بتعيين السيد عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول لحكومة التناوب التوافقي. وبعد فترة انتدابية كاملة (1998-2002) ربح المغرب الشيء الكثير (الابتعاد من تهديدات السكتة القلبية، إجراء انتخابات حرة ونزيهة نسبيا، تحويل الصراع السياسي والثقافي إلى المجتمع، فتح النقاش العمومي بشأن إدماج المرأة في التنمية،...)، جاءت مداخلة المقاوم عبد الرحمان اليوسفي ببروكسيل ببلجيكا بمثابة تقييم للتجربة المغربية في مجال السياسة والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، وفي نفس الوقت اعتبرها المتتبعون بمثابة وصية ذات قيمة سياسية كبيرة وجهت لأجيال الحاضر والمستقبل.