ونحن نعيش منعطفات التحول في العالمين العربي والمغاربي، لا يمكن للمتتبع إلا أن يضع مسار بلادنا تحت مجهر التأمل الموضوعي. انطلق هذا المسار من دولة تقليدية كانت وسائل رجالها ووسائل الأهالي في مختلف المجالات الترابية جد بسيطة. كانت الأسرة تعتمد أكثر على الفلاحة والعمل الفلاحي والحرفي والتجارة لكسب لقمة عيشها، وكانت العلاقة بين المركز والتراب المحلي ذات طبيعة خاصة، ولم ترق إلى مستوى تجسيد الدولة المؤسساتية القوية حيث ورد في عدد من الكتابات أن المغرب كان مقسما إلى ما يسمى ب "بلاد السيبة" و"بلاد المخزن". ومع ذلك، الوضع القائم آنذاك لم يجسد تاريخيا وجود نزعات انفصالية ولا طموحات لتحقيق استقلالية الوحدات الترابية، بل على عكس ذلك برهن عن وجود تنظيمات اجتماعية ترابية قادرة على تدبير شؤونها ذاتيا في إطار الوحدة الوطنية. لقد كان التفاعل بين السلطة المركزية والمكونات القبلية والزوايا جد مرتبط برهانات استقلالية الوطن وحمايته من الأطماع الخارجية والحفاظ على الوحدة الترابية. واستمر هذا التفاعل لعقود، واشتدت حدته كلما أحس المغاربة بوجود أطماع خارجية. لكن، وبعد استفحال حدة الاستنجاد بالأجنبي وظهور ما يسمى ببطاقة "المحمي" (carte de protégé)، اختل هذا التعاقد الاجتماعي والسياسي المعهود، وكانت النتيجة الحتمية لهذا الاختلال بصراعاته هي دخول البلاد إلى مرحلة الحماية، والتي تحولت فيما بعد إلى استعمار رسمي. ووعيا بخلفيات سلطة الحماية، وبالعوامل التي مكنتها من السيطرة على البلاد، برز وعي خاص عند المغفور له الملك محمد الخامس وعند رواد الحركة الوطنية، وعي ربط الوطن والمطالبة بالاستقلال بالوحدة والتضامن بين كافة شرائح المجتمع المغربي. وبذلت في هذا الشأن مجهودات كبيرة من أجل تحقيق القوة المجتمعية اللازمة لدعم الطموح الوطني لتحرير البلاد وإعادة بناء الدولة الوطنية بالسرعة المطلوبة. كما أن الحرص على ضرورة تقوية الروابط بين المؤسسات والتنظيمات المجتمعية والشعب بصفة عامة، دفع رواد الحركة الوطنية إلى ربط الاستمرار في المفاوضات مع سلطة الحماية بعودة المغفور له الملك محمد الخامس إلى عرشه. بالطبع، كان هذا الوعي، والقرارات المرتبطة به، أساس تحقيق الإجماع الوطني من أجل الاستقلال، وبناء الدولة الوطنية الموحدة على أساس الديمقراطية والمؤسسات العصرية. أهم الدروس التي سجلها التاريخ في هذه المرحلة تتجلى في كون القوة التي ميزت وحدة الشعب المغربي في مطالبته باستقلال بلاده، لم يكتب لها الاستمرار، بل، وعلى عكس الأهداف الوطنية النبيلة، عرفت البلاد صراعا جرها إلى المصاعب والمحن التي يعلمها الجميع. وبدون الدخول في التفاصيل، المهم ما ميز الأحداث التاريخية المغربية كون لحظات الالتقائية بين القوى السياسية والمجتمعية كانت لها رمزية وحمولة سياسية كبيرة. إنها اللحظات البارزة في تاريخ الشعب المغربي التي قاومت كل النزعات الطامحة في حدوث القطيعة في التفاعل السياسي ما بين الملكية، كأعلى سلطة وطنية، والقوى السياسية والمجتمعية. وهذه الميزة هي التي كانت وراء انبثاق تفاعلات التسعينات التي خلقت من جديد نوع من الأمل في العودة إلى تقوية الوحدة الوطنية من جديد بين الدولة والمجتمع من أجل بناء الدولة الديمقراطية الحداثية. وبالفعل، تم تبادل الإشارات الإيجابية بين الأطراف المعنية، وتوجت التفاعلات بالمصادقة على دستور 1996، ودخول المعارضة إلى الحكم من أجل إنقاذ البلاد من السكتة القلبية والتخفيف من حدة التأثيرات السلبية لمخططات التقويم الهيكلي (التدخل المالي للمنظمات الدولية)، وبرزت الحاجة من جديد إلى الدعم المجتمعي للتجربة، دعم تشارك فيه كل مكونات المجتمع المغربي، وكل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية داخل الدولة والمجتمع. ومرة أخرى، لم ينصف التاريخ هذه التجربة بالشكل المنتظر، حيث راج في الأوساط السياسية والإعلامية وجود أياد خفية نجحت نسبيا في فرملة مسار الإصلاح. وبالرغم من المفاجئات السياسية التي ميزت الفترة ما بين 1998 و 2011، والتي كان أبرزها حصول الحزب الذي قاد تجربة التناوب التوافقي على المرتبة الأولى في انتخابات 2002 ودخول البلاد في كبوة سياسية بعد ذلك (العزوف السياسي سنة 2007)، كان حجم المكتسبات منذ الاستقلال ثقيلا في رمزيته السياسية إلى درجة جعل الشعب المغربي زمن الحراك العربي يتشبث بمؤسساته وتعدديته السياسية والثقافية مطالبا الرفع من وثائر التقدم في بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي بشعارين أساسيين يتجلى الأول في تحقيق "العدالة الاجتماعية" والثاني في التفعيل الميداني لمبدأ "تساوي الفرص". ونحن نعيش أحداثا سياسية جديدة في سياق دستور جديد، وبحكومة سياسية منبثقة من انتخابات ديمقراطية نسبيا، وبوضع اقتصادي وإداري هش ومقلق، لا يمكن للمتتبع إلا أن يجدد تساؤلاته بالشكل الذي يستحضر انتظارات الحاضر والمستقبل، تساؤلات تجسد الترابط الضروري الذي يجب أن يميز العلاقة بين الإصلاحات السياسية من جهة، وهاجس تقليص الهوة بين نمو الثروات الاقتصادية والنمو الديمغرافي من جهة أخرى. إنها تساؤلات بشأن مدى توفر الإرادة السياسية المطلوبة والقوة الفكرية والعلمية في هذه اللحظة التاريخية لحماية المكتسبات وتحقيق تراكمات جديدة تمكن القاعدة الديمغرافية الشابة الواسعة من إمكانيات تحقيق العيش بكرامة وطمأنينة، إرادة يجب أن تترجم إلى مضاعفة الجهود في مجالي الإصلاحات السياسية (تنزيل الدستور الجديد) والتنمية الاقتصادية (الرفع من وثائر النمو)، إرادة بمقومات تقوي الثقة في المستقبل، وتدفع بالتالي الشباب إلى التحلي باليقظة والفطنة والروية وحسن التصرف للوصول إلى أفق سياسي يجعل من الخصوصية المغربية نموذجا يحتدى به إقليميا وجهويا وكونيا (نموذج دولة مدنية من الدول السائرة في طريق النمو). وفي الأخير نقول للشباب الحالم بغد أفضل أن مسار النضال من أجل الديمقراطية والحداثة كأساس لبناء الدولة الوطنية المدنية، بتضحياته الجسام، ابتدأ منذ الاستقلال، وكان دائما سلميا خاضعا للقيم والمنطلقات السياسية النبيلة المتعارف عليها كونيا، قيم أعطت دائما الأسبقية لمصلحة الوطن واستقراره على أساس الوحدة والتضامن والتعاون بين مختلف المؤسسات والتنظيمات المجتمعية. إن ما تحتاجه بلادنا هو تقوية العمل السياسي من خلال تقوية العمل الحزبي بركائزه الأربع : الشبابي والنسائي والنقابي والجمعوي.