«تفعيل اختياراتنا على أرض الواقع يقتضي تحديد الأسبقيات وترتيبها? وفق مقاربة مضبوطة المراحل والآماد"، بتلك العبارات أكد جلالة الملك في خطاب العرش الأخير على ضرورة توفر الحكومة على خارطة طريق واضحة المعالم لمباشرة الإصلاحات التي تقبل عليها البلاد في جميع المجالات، تماشيا مع منطوق و روح دستور الفاتح من يوليوز. إشارة تأتي بعدما أثبت واقع الممارسة، بعد أكثر من ثمانية أشهر على تنصيب حكومة عبد الإله بن كيران، تخبط فريق العدالة و التنمية الحكومي و معه حلفاءه في تحديد أولويات واضحة المعالم تقترن بالتطبيق على أرض الواقع. المتتبع للشأن الحكومي يستنتج لا محالة غياب تصور شمولي لنوايا الحكومة الكثيرة، التي تفتقر في جانب منها للواقعية، و في جوانب كثيرة للحس السياسي المقترن بمنطق الحكم المختلف تماما عن أساليب المعارضة التي نشأت فيها معظم قيادات العدالة و التنمية. مظاهر ذلك التخبط كثيرة سنذكر منها الأكثر بروزا و الأكثر تأثيرا على العمل الحكومي و فعاليته و هي ثلاثة. أولا، لم تفصح حكومة بنكيران عن مخططها التشريعي الذي سيحدد أجندة واضحة لتطبيق الدستور الجديد، خصوصا في شقه المتعلق بتنصيب المؤسسات الجديدة، و اعتماد القوانين التنظيمية المكملة للدستور و التي بدونها تصبح الوثيقة الدستورية عرجاء، بلا روح و لا نفس. و ثيقة يستلزم تطبيقها التأسيس لمقاربة تشاركية حقيقة مع كل الشركاء السياسيين و الاقتصاديين و الاجتماعيين؛ شراكة كفيلة بتجاوز النزوع السلطوي و التحكمي للحزب الأغلبي. من جهة أخرى، تتواصل مؤشرات الاقتصاد الوطني و مظاهر الأزمة الاقتصادية في التفاقم لتصل مستويات لم تصلها منذ الثمانينيات. المندوبية السامية للتخطيط و في نشرة فصلية لتحليل الظرفية، توقعت أن يتقلص معدل النمو ليستقر في حدود 2,6% في الفصل الثاني 2012. ويعزى ذلك إلى توقع انخفاض في القيمة المضافة للأنشطة الفلاحية بنسبة 9,8% بعد 8,3-% خلال الفصل الأول. المندوبية توقعت كذلك أن ينعكس تباطؤ الاقتصاد العالمي وتدهور مناخ الأعمال في أوربا، خلال الفصل الثاني 2012، على نمو الطلب الخارجي الموجه نحو المغرب، كما توقعت استمرار ارتفاع العجز النقدي للبنوك، خلال الفصل الثاني، بسبب انخفاض الموجودات الخارجية وتفاقم العجز التجاري. كل تلك المؤشرات لم تسترع من لدن الحكومة مخططا استعجاليا للإنقاذ الاقتصادي، في ظل قانون مالية أصبح متجاوزا بفعل المتغيرات الداخلية و الدولية. سلوك من هذا القبيل لا يمكن إلا أن يؤدي إلى التفريط في استقلالية القرار السيادي الاقتصادي الوطني و الانصياع لمقررات المؤسسات المالية الدولية. و هو ما استرعى من عاهل البلاد التأكيد في خطابه على ضرورة اجتهاد الحكومة لإيجاد بدائل للتمويل بهدف تحصين قدرات البلاد التنموية والحفاظ على مصداقيتها على الصعيد الدولي. تخبط من نوع أخر يهم تطبيق إجراءات الإصلاح الاقتصادي و الاجتماعي، الذي شكل شعارا مركزيا لحزب العدالة و التنمية خلال حملته الانتخابية. فمن جهة، أوقفت الحكومة الكشف عن لائحة المستفيدين من رخص استغلال مقالع الرمال والصيد في أعالي البحار، تحت ذريعة إعداد تصور شمولي للإصلاح، و من جهة أخرى قررت الرفع من أسعار المحروقات و بالتالي ضرب القدرة الشرائية للمواطنين دون التوفر على أجندة واضحة المعالم لإصلاح صندوق المقاصة. نفس الخلاصات تنسحب على قطاعات حيوية و أساسية كالتعليم و التشغيل و الصحة، و التي لازالت تراوح مكانها في ظل غياب تصور واضح لما تريد الحكومة القيام به. يبقى السبيل الوحيد لتجاوز وضع الارتباك هذا، هو تحديد أهداف واضحة، واقعية و قابلة للتحقيق بعيدا عن كل مزايدة قد تكون غير منتجة، بل و قد تجر الحكومة لمعارك مجانية. أوراش التخليق و محاربة الفساد و اقتصاد الريع،لا يجب بالمقابل أن تحجب عن الحكومة الإكرهات الآنية المتعلقة بتوازنات الاقتصاد الوطني و حاجة البلاد لإنعاش الدورة الاقتصادية لأنها صمام أمان السلم الاجتماعي.