لم تكن فكرة الإله الواحد الوحيد فكرة جديدة، ذلك أنّ العشائر اليهودية والمسيحية في الأراضي العربية كانت تعبده، كلّ واحدة بطريقتها، ووفقا للتعليمات التي تركها أنبياؤهم. وإذا كان موسى قدْ أوْصى بالاحترام التّامّ للوصايا العشر (القوانين العشرة)1، فإن عيسى، الذي كانَ يزعُم أنه ابن الله، كان قد دعا إلى المحبّة الإنسانية: «أحبّوا بعضَكُمْ بعضا كما أحببتُكم». وبسبب هذه المحبّة مات مصلوبا، ضحية تحمّله أخطاء البشرية. أما محمد، الذي يؤكّد أنه تلقى تعاليم من الإله، بواسطة المَلَك جبريل، فإنه لا يتوقّف عن الحطّ من شأن الآلهة، مقابل دعوته إلى الخضوع إلى الله وتوحيده مخافة جهنّم، لأنه يسمع ويرى كل شيء. وقد كان لأسلوب الوعد والوعيد أثره البالغ في استمالة عدد من الحجيج في مكة الذين سرعان ما تبعوا محمدا في دعوته، رغم المحاولات المتكررة من طرف القرشيّين بغية إبعادهم عنه. خلال موسم الحجّ هذا، كبرتْ الأفواج المتوافدة على محمد وتزايدت من كلّ جانب إلى أنْ صارت بحرا متلاطما يتجاوز حدود المدينة، ويطفو على الصحراء ممتدّا إلى العوالم الأخرى في الأفق. سار الإسلام وفق المشيئة الإلهية التي أمرت الرسول منذ البدء. ألمْ يقلْ له جبريل: «قُمْ فَأَنذِرْ»؟ فضْلا عن عبارة أخرى ظلّتْ تتردّد من خلفه، وهي «يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ.»2 في هذا المناخ، اقترب من محمد حواليْ خمسة نفر من أهل يثرب قائلين: -السلام عليك يا رسول الله? هل تذكرنا، نحن حجاج يثرب؟ في السنة الماضية وعدناك بأن نحدّث عنك أهلنا وعشيرتنا، ونعود إليْك بأعداد من معتنقي الإسلام. ابتسم الرسول، ثم وزّع العناق الحارّ على الجميع، وقال لهم: - كيف أنساكمْ يا إخوتي؟ لقد كنتُ أعرف بأنّ الله سيبعثكمْ إليَّ من جديد. بعد فشل المحاولة الأولى للهجرة إلى مدينة الطائف، التي طُرد منها شرّ طردة، ها هي هذه العودة غير المنتظرة لأهل يثرب، من الأوْس والخزرج، أثلجتْ صدره، وخصوصا أنها تزامنتْ مع اللحظة التي رأى فيها في المنام تلك الرؤيا الخارقة عن إسلام منتصر فاتح3. فهلْ ستكون يثرب هي الملاذ والملجأ القادم؟ ثم إنه ليس هو الوحيد المهدّد من طرف القرشيّين وحلفائهم من بني مخزوم وبني أميّة. ومع كل ما سبّبه له هؤلاء من أذى وضرر، فإنّ أعداد معتنقي الإسلام قد تزايدتْ داخل المدينة. وهؤلاء أيضا عُرضة للخطر. فهلْ سيفتح لهم الله طريقا أخرى؟ وبالفعْل، فإنّ رجال يثرب كانوا عند وعدهم، وجاءوا بأعداد من المسلمين الجدد الذين ردّدوا «لا إله إلا الله، محمد رسول الله». بعد ذلك، وفي الصحراء المشرقة بأشعّة الغروب، أدّى اثنا عشر منهم قَسَم «العقبة»، وتمت البيعة، وكانت هذه المرة على الحرب والسلم، ومدّوا إليه أيديهم مصافحين، ومُقْسمين باللّه الواحد الذي آمنوا به أنَّهم سيحمون محمّدا وينصرونه، وأنَّهم سيرفعون السّلاح مدافعين عنه بوجه أيّ قوّة في الأرض، وضدّ الكفّار إلى درجة إمكان فقدان ممتلكاتهم وأموالهم وحياتهم. بعد ذلك سألوه: - إذا وفّيْنا بالتزامنا تُجاهك يا رسول الله، فماذا سيكون نصيبنا؟ - الجنّة? عاد محمّد إلى بيته وكلّه أمل، وذلك رغم ما اعترض سبيله من مضايقات وشتائم. في الصباح، وكعادته، توجّه إلى بيت أبي بكر صديقه لكيْ يخبره بما جدّ من أمور. وحين اجتاز باحة بيْت صديقه، المليئة بحركة الخدم، لمْ ينتبه إلى النداءات الهامسة لعائشة. ولما انتبه أبو بكر إلى توثّره واضطرابه، بادره إلى التعبير عمّا يجيش في صدره. أمسك محمد بيده، ثم أخذه إلى المسجد الصغير ليختلي به. اختبأتْ عائشة كعادتها خلف الأشجار، وقلبها يدقّ بسرعة، فنظرة محمد غير العادية أخافتها كثيرا، وبالتالي خشيتْ أنْ يكون ثمّة أمر جَلَل. غير أنها أنصتتْ إلى حكاية أهْل يثرب، وإلى الرؤيا التي رأى فيها بأنّ الوجْهة القادمة للهجرة هي يثرب، مدينة رسول الله. لمحتْ عائشة احمرارا في عينيْه المتقدتيْن كالجمْر. ثمّ وضع أبو بكر يديْه على كتفيْ محمّد وهو يقول: - لتُسرعْ إذن يا أخي، إنّ القرشيين يخططون لقتلكَ. فقد كلفوا اثنيْ عشر رجلا، كل واحد يمثّل قبيلة من أجل الترصّد لك وطعنك بالسكين. ابتسم محمد وهو يداعبُ لحيته السوْداء كشعره، وأجاب: - لنْ أتحرّك من هنا يا أخي، إلا إذا تلقّيْتُ الأمر الإلهيّ. لكن من الأجدى أنْ يشْرع المسلمون في الهجرة جماعات جماعات، تفاديا لإثارة انتباه المشركين وشكوكهم. هناك في الواحة، سيُسْتَقبلون بحفاوة ويهيّئون لمجيئي. بدأت عائشة ترتعد في مخبئها وكأنها استشعرت الخطر الذي يتهدّد المدينة والمسلمين والرسول. هل ينبغي أنْ يهربوا كأنهم مجرمون؟ تمرّ الأسابيع، ولا شيء تحرّك. كل واحد واصل مهامه، وفيعة كانت أو وضيعة. في مكتب أبي بكر، تجلس كلّ من أسماء وعائشة ممسكتيْن بالقلم، وهما تكتبان ما يمليه عليهما والدهما، الذي يراقب مدى تطوّر تحصيلهما ومعرفتهما. لاحظ بكلّ ارتياح أنّ الصغرى تحرز تقدّما كبيرا بالقياس إلى الكبرى على مستوى الكتابة. هنّأها والدها وهو يربّتُ على شعرها، وقال معلّقا: - قراءة خطّك متعة للعيْن يا عائشة. غدا: الرسول يقترضُ مَهْر عائشة من أبي بكْر 1 الوصايا العشر هي القوانين العشرة، حسب الكتاب العبري، التي أنزلها الله على النبي موسى. تعتبر الوصايا العشر الأساسية إحدى أهم الوصايا التي نزلت على بني إسرائيل ويصل عددها إلى 600 وصية موجودة في العهد القديم. تعتبر الوصايا أسسا أخلاقية في اليهودية والمسيحية، ومضمونهن أيضا موجود في الدين الإسلامي. (المترجم). محتويات 2 سورة المدثّر، الآية 36. 3 عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي [أي ظني] إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ . . . الحديث . رواه البخاري ومسلم. (المترجم).