ينشد مؤلف هذا الكتاب غابرييل كامب (1927-2002) أن يحيط بعالم البربر في كليته، بدءاً من مصر وحتى جزر الكناري، مروراً بالنيجر والسنغال، بالتوسل بالكثير من العلوم ، من حفريات وجغرافيا وعراقة ولسانيات وفنون... والبربر قد عُرفوا من زمن الفراعنة في مصر، باسم الليبو، واحتلوا المنطقة الشاسعة بين الأبيض المتوسط وجنوب النيجر ومن البحر المحيط إلى مشارف النيل. وأما اليوم فلم يتبق من بلاد البربر هذه مترامية الأطراف غير مزق لغوية ومجموعات بعضها كثيرة العدد، متفرقة منعزلة عن بعضها. والمؤلف ينطلق في بحثه من العصور الموغلة في القدم، ساعياً إلى فهم كيف تعرض البربر للتأثيرات الخارجية، من بونيقية ورومانية وإفريقية وعربية... وكيف أمكن لهم أن يظلوا على وفائهم لعاداتهم وتشبثهم بلغتهم واستمرارهم على أساليبهم في العيش. مثال من «السياسة المحلية»: طاولة بناصة كانت المواطنة الرومانية تُمنَح كذلك لرؤساء القبائل، سواء منها تلك التي تم ضمها أو تمت تهدئتها، وقد كان يطلق على هؤلاء الرؤساء لقب الأمراء، وقد يلقبون أحياناً بالملوك، فلذلك كان ينبغي أن يتميزوا عن الولاة، وهم موظفون تعيّنهم السلطة الإمبراطورية. وكان منح المواطنة الرومانية يبدو كنوع من المكافأة، وكان يسمح لحكام المقاطعة الذين يطلبونها من الإمبراطور، بالتخفيف من الضغط الذي يمكن أن تمارسه القبائل القوية على الحدود أو حتى داخل المقاطعة. وهذه «طاولة بناصة» الشهيرة، وهي عبارة عن لوحة من البرونز كانت مثبتة بإزاء الحامّات في هذه المدينة من مدن موريتانيا الطنجية، تسمح بالتحليل الدقيق لهذه السياسة خلال بضع سنين من القرن الثاني. وقد قام كل من و. سيستون و م. أوزينات منذ وقت قريب على نشر هذا النص الفريد الذي وصلنا من الإمبراطورية وتناولاه بالدراسة. وقد احتفظ لنا هذا النص بثلاث وثائق رسمية. فأما الوثيقة الأولى فهي عبارة عن رسالة من الإمبراطورين ماركوس أوريل ولوكيوس فيروس إلى كويديوس ماكسيموس الحاكم على موريتانيا الطنجية، تمنح المواطنة الرومانية لزكرنيسي يدعى يوليانوس ولزوجته زيدوتينا وأبنائهما. ويرجع تاريخ هذا القرار إلى سنة 168-169. ويؤكد الإمبراطوران في هذه الرسالة على الطابع الاستثنائي لهذا القرار، الذي جعلا مبررهما إليه إخلاصهما التام ليوليانوس، وأعربا عن متمنياتهما أن يكون قدوة لبني قومه. وأما الوثيقة الثانية التي دُونت على طاولة بناصة فهي عبارة عن رسالة جديدة من الإمبراطورين مارك أوريل وكومودوس إلى الحاكم فاليوس ماكسيمانوس تمنح المواطنة الرومانية لفاجورا زوجة أوريليوس يوليانوس أمير الزكرنسيين وأبنائهما. وأما الوثيقة الثالثة فهي نص رسمي صادر عن مجلس الإمبراطور وقام على توقيعه اثنا عشر عضواً من المجلس. والوثيقة مؤرخة في 6 يوليوز 177. ويعتبر النص الذي على طاولة بناصة مهماً من جوانب عديدة، وسوف لا نتوقف منه إلا عند الجانب المتعلق بالسياسة المحلية. فقد ميَّز الحاكم بين العشائر المكونة لقبيلة الزكرنسيين القوية، التي كانت تقيم في ما يبدو على سفوح الريف، وعشيرة يوليانوس، الذي نقل ملتمسه إلى الإمبراطور. وقد تزوج ابن يوليانوس، الذي أصبح بعد بضع سنين أميراً للزكرنسيين، من امرأة أجنبية تسمى فاجورا. ومن أجل أن يصير أبناؤه كذلك مواطنين روماناً كان يلزمه الحصول على قرار إمبراطوري جديد. وحيث إن حالة الزكرنسيين كانت حالة نموذجية فقد جرى تعليق تلك الوثائق ليعلم بها الجميع. ولقد مكننا هذا النص من معرفة جانب من سياسة الاحتواء التي أعملها حكام الولاية بفاعلية فريدة، لكن هؤلاء لم يكونوا سوى موظفين في بيروقراطية إمبراطورية كانت أرشيفاتها من الدقة والإتقان كمثل ما هي الأرشيفات في الإدارة الحديثة. مدى الرَّوْمَنه إن من شأن هذه السياسة الاحتوائية، أو سياسة الرومنة على وجه التدقيق، أن تصدم مفاهيمنا الديمقراطية الحالية، ولكن لو وضعنا أنفسنا في سياق القرنين الثاني والثالث الميلاديين لبدت لنا سياسة في غاية الحكمة، ولرأيناها سياسة فعالة، وتقدمية بحق. ومهما قيل عن المجتمع الروماني (لكن ألا يُقال الشيء نفسه كذلك عن مجتمعنا أيضاً؟)، فإنه لم يكن في ذلك العهد بالمجتمع المكبوح أو المحصور. فلم يكن بالمكبوح في روما؛ حيث كان بعض الكتاب السوداويين المغترين بنبالتهم، وهي المحدَثة عند بعضهم، يشتكون من الارتقاء الاجتماعي الذي تحقق للمحررين ومحدثي النعمة. ولا كان كذلك بالمجتمع المحصور في المقاطعات. ولكن كيف السبيل إلى قياس درجة الرومنة الحقيقية للبربر؟ تقتضينا الإجابة عن هذا السؤال الأساسي أن تتوفر لدينا وثائق أكثر دقة بكثير مما بين أيدينا. حقاً إننا لا تعوزنا الوثائق المادية؛ كما أن ما بين أيدينا من المصادر المكتوبة، تاريخية وقانونية، شيء لا يستهان به. ونضيف إليها حصيلة وافرة من النصوص الكتابية والنقوش؛ فهي كثيرة وعديدة، إذ تقدر بخمسين ألفاً في ما يتعلق بالمقاطعات الإفريقية. وتقدر خرائب المدن، أكانت عواصم أو مجرد بلدات، بالمئات، وهي تعطينا صورة مثيرة عما كان لروما من سطوة ومن سلطان. ثم إن المواقع الحصينة، وهي مناطق للسكن العسكري، قد مكنت للرومنة النفاذ حتى الصحراء في طرابلس الغرب وفي نوميديا، وحتى هضاب السهوب العليا في موريتانيا القيصرية. وقد كانت هذه المنطقة لا تزال، حتى عهد الإمبراطورية المتأخرة، يسكنها جنود الليميتاناي، وهم جنود مزارعون كانوا يشتغلون بإحياء تلك الأراضي الجرداء، وتعرضوا كما رأينا سابقاً للاصطدام مع قبائل الجمالين. ومن وراء تلك المواقع الحصينة كانت تقوم أراض زراعية قد جرى تقسيمها، ولا تزال آثار هذا التقسيم راسخة في المشهد التونسي وفي بعض الأنحاء من نوميديا. إن ذلك الكم العظيم من الأحجار المقصوبة والمدن الفخيمة والإهداءات والأسوار الصغيرة لا يشدها شيء والقائمة على سفوح التلال، وتلك الخنادق والحصون في المواقع الحصينة وعلامات الحدود العسكرية والأعمال الفنية لشبكة هائلة من الطرق تبعثنا مجتمعة على كثير من الانبهار. فقد خلفت القرون الخمسة التي عمّرها الحكم الروماني على الأرض الإفريقية آثاراً راسخة أكثر بكثير مما خلفت القرون الأربعة عشر التي تلتها. وندرك السبب وراء الإعجاب، المطبوع بشيء من السذاجة، الذي أثارته الأطلال القديمة لدى أوائل المؤرخين من الحقبة الاستعمارية. وقد كان بحّاثتنا من القرن التاسع عشر، وهم المتشبعون بالثقافة الكلاسية، يجدون خلال غيضات السدر أو النخيل القصير كتابات تتحدث عن عمليات الاستصلاح التي وقعت على هذه الأراضي نفسها التي كان المعمّرون الجدد يجتهدون بفؤوسهم لبعث الحياة فيها، متكلفين فيها من الجهود المضنية والمكابدة ما بات اليوم نسياً منسياً. ويعثر أولئك البحاثة بغير قليل من التأثر على الأماكن التي ورد ذكرها لدى القيصر وتحدث عنها سالوست وتيت ليف والقديس أغسطين. وهل كان يمكن لروما ألا تصير هي المرجع البديهي للتننة الجديدة التي كانت قد بدأت تقوم في إفريقيا؟ وكيف لا يُكال المديح والثناء لروما التي مكنت بعض الأفارقة من الوصول إلى البذخ الذي يتجلى في ما خلفوا من مآثر ومكنتهم من بلوغ أعلى مراتب الثقافة؟ ألست ترى ابتداء من القرن الثاني كيف أن ذلك الإفريقي فرونتون المولود في سيرتا قد صار الأستاذ لأحكم الأباطرة، مارك أوريل، كما وأن أكثر الكتاب اللاتين «حداثة»، أبوليوس، ذلك الروائي والفليسوف والخطيب معاً، قد كان مولده في مادور، وكان يقول عن نفسه إنه نصف نوميدي ونصف جيتولي. فما كان هذا اللاتيني لينكر أصوله الإفريقية، بل كان يعتز بها ويتفاخر أيما اعتزاز وتفاخر. والحقيقة أن إفريقيا كانت من أجمل مقاطعات الإمبراطورية. وقد جاءت لروما في أواخر القرن الثاني بأسرة حاكمة، وذلك بصعود اللبدي سيبتيم سيفير، وأربعين سنة بعدُ بويع على أرضها كذلك، في تيسدروس (الجم) الشيخ غورديان، وسرعان ما ضم إليه ابنه. وقد كانت تيسدروس أغنى مدن بيزاسين. ويعود الفضل في هذا الثراء الطارىء على المدينة إلى ما تحقق لها من تطور زراعي، خاصة ما تعلق منه بشجر الزيتون، وهو شجر ملائم كثيراً لتربة تلك البلاد ومناخها. فلا يمكن أن ننسى الاستصلاح الذي قيّض للأراضي الإفريقية. فلم يكن الدافع إليه يقتصر على التطور الطبيعي الذي شهدته الزراعة بما تحقق لها من الحماية، بل كانت من ورائه كذلك إرادة سياسة تجسدت في الإدارة الإمبراطورية على مختلف أصعدتها. وكان تأثير ذلك على الحياة الفلاحية بالغ القوة؛ كما نراه في بعض الألفاظ اللاتينية التي لا تزال متداولة بشيء من التحريف إلى اليوم في معظم اللهجات البربرية ما تعلق بأسماء المحراث أو النير أو النباتات المزروعة أو الأشجار. وكذلك لا يزال جميع المزارعين في شمال إفريقيا يحافظون للشهور في التقويم اليوليوسى على أسمائها اللاتينية، وتجد الأمر نفسه منهم حتى في الصحراء؛ فالتأثير اللاتيني قد امتد إلى ما وراء الحدود الرسمية للإمبراطورية. ويعود هذا الامتداد إلى عوامل أخرى غير عوامل الرومنة بالمعنى القانوني للاحتواء؛ فقد جرى خلال القرون التي عمّرها الحكم الروماني كذلك تمسيح للإفريقيين. وساعدت على انتشار المسيحية في إفريقيا، كما في غيرها من المقاطعات، تلك الميولُ الروحانية التي حملها ما كان يروج داخل الإمبراطورية من أفكار آتية من المشرق. كما وأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتولدة عن المجتمع الروماني كانت تيسّر النجاح لدين خلاصي يدعو إلى المساواة بين بني البشر ويعلي من شأن الفقراء. وإلى هذه الظروف، التي كانت عامة على سائر أنحاء الإمبراطورية، انضافت بالنسبة إلى إفريقيا الأهميةُ الخاصة للتأثير المشرقي، وهو تأثير ظلت تغذيه لقرون مديدة الهيمنةُ الفينيقية والعلاقات الدائمة مع المشرق السامي. والواقع أن المقاطعات الإفريقية كانت من بين سائر مقاطعات الغرب هي الأكثر انطباعاً بالطابع المشرقي؛ من حيث عقليتها وأصول ثقافتها. لقد كانت تلك المقاطعات، خاصة منها إفريقيا، على استعداد كبير لاستقبال الدين الجديد. وجادت المسيحية الإفريقية بالعديد من الشهداء وجاءت بالكثير من الكتَّاب؛ أمثال تيرتوليان وأرنوب وسيبريان. وكان أعظمهم جميعاً أغسطين، الذي أصبح أحد قادة الفكر الغربي لقرون عديدة. والقديس أغسطين ينتسب إلى أسرة من تاقاست (سوق أهراس) وقد أصبح أسقفاً لهيبون وأباَ الكنيسة، وتبوأ مقاماً عالمياً تجاوز به حدود مقاطعته وحدود الإمبراطورية وتخطى به زمانه. وليس بالأمر الهيّن أن يكون أعظم مفكري الغرب اللاتيني، ومؤلف كتاب «مدينة الله»1 وكتاب «اعترافات»2 بربرياً مسيحياً. فكأننا بأغسطين يمثل النموذج المكتمل لتلك الرومنة التي ظلت جارية بصبر ومثابرة طوال أربعة قرون. ومن سخرية الأقدار أن أغسطين الذي توفي أثناء حصار الوندال لهيبون قد شهد كيف كان ينهار ذلك العالم الروماني الإفريقي الذي كان الرحم الذي أنجبه. 1 - Cité de Dieu. 2 - Confessions