1 وزعت وزارة التربية الوطنية بالمغرب في نهاية الموسم الدراسي لسنة 1970 مذكرة على بعض ثانويات المملكة، تخطر فيها الأساتذة الراغبين بالالتحاق للتعليم في الجزائر أن يتقدموا بترشيحهم في أقرب الآجال. كنت وقتها أستاذاً للغة العربية بإحدى ثانويات الدارالبيضاء، وقد اجتزت امتحان الكفاءة التربوية المخصص للترسيم في الوظيفة العمومية، فيما أخفق كثير مع لجنة خطيرة كان يترأسها الأستاذ المفتش الشاعر مولاي علي الصقلي، عليه أزكى السلام. لم يكن ينقصني أي خير رغم تواضع الراتب، أصول وأجول بين شباب كازا، ثم والأرض لا تسعني بدأت أحس بالضجر، أرغب في ما لا أعرف، وهذا على كل حال يلازمني، بعض علاجه تغيير المكان. زاد على ذلك، أن لم يكن يظهر لي أفق في زمن سياسي مدلهم، وبغليان نفسي محتقن، فقلت أسوة بالمثل المغربي »تبدال المنازل راحة«. نجحت في إعداد ملفي والإقناع به وقد صار همي ووسواسي المغادرة في مطلع العام الدراسي الموالي الى العاصمة الجزائرية، لا يغريني بتاتاً حافز أن وزارتنا ستحتفظ لنا براتبنا الأصلي في المغرب، ونتقاضى هناك على ما وُعدِنا به راتباً مجُزياً، مخصصاً للمتعاونين الأجانب. لم يكن المال، إذن، وازعي، وفي الآن لا أتذكر لِمَ تحمست حقا، غير ما ذكرت، لهذا البلد، وإن كانت في نفسي جذور كامنة ترجع الى زمن تلمذتي، ومتصلة بتاريخ والدي. في أكتوبر من سنة 1970 حللت بمدينة الجزائر حيث وجدت تعييني ينتظرني، وفي اليوم التالي بعد أن تدبرت سكني الأول عند الإخوة اليسوعيين، بعد أن استحال عليّ العثور على مضجع في البداية عند الإخوة الجزائريين. طبعاً، كنت مفعماً بالحماس، لحلولي ببلاد المليون شهيد، وبالصخب والشعارات، والفتوة الثورية لما كان يسمى الثورة الجزائرية عهد الرئيس هواري بومدين. في هذا الوقت، كانت العاصمة تغلي بحركات التحرير الوطني من افريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا. كما كانت ملاذاً لثوار ومناضلين منفيين من عديد بلدان عربية/ من بينها المغرب. كان مناضلو حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (حزب المهدي بن بركة) قد حطوا رحالهم هنا، هم وقادة من المقاومة وجيش التحرير المغربي، وهذا يعني أنني وصلت الى بلد رمز للثورية والتقدمية، مقابل جاره العربي، يحيل الى الرجعية والاستبداد، في أول قراءة سطحية. كنت وقتها معنياً بالدرجة الأولى بالحياة في عنفوانها وما يتأجّج في النفس من أشواق ورغائب، بمعنى أن السياسة بما هي قرارات ومشاريع تحمل كلها صفة الثورية، وتغلي بها الحياة اليومية، والإعلام بوجه خاص، ترتبت عندي في مقام متأخر، رغم أنه أمر صعب تماماً. كان يكفي أن تنخرط في شارع ديدوش مراد الجميل، ومنه الى ساحة البريد، وتخوض بعدها شارع العربي بن المهيدي، يقودك بعد منعرجات، وحسب مسارك الى ساحة باب الواد، ثم الى القصبة صعوداً، وأحياء أخرى، لتجد نفسك محمولا فوق موج جيل جديد، يصطخب قوله بتعابير وحركات النصر والفخار، والاعتزاز بالانتماء الى أرض زكية بدماء الشهداء، أرض تتجاوب فيها هتافات الوحدة والقومية العربية، ومبادىء تحرر العالم الثالث، وعموماً ملتقى جميع حركات التحرر، وموعد ما لا عدّ له من مؤتمرات وندوات، ومشاريع وبر امج عمل للتغيير من كل نوع، ومنتدى باحثين وجامعيين قادمين للتدريس في جامعاتها من جنسيات عربية مختلفة، مصرية وسورية، أولا ومغربية أيضاً، فإلى هنا لجأ الأستاذ العميد محمد عزيز لحبابي ليُدرِّس الفلسفة، واحتضننا كما فعل من قبل. 2 أزعم أني لم أعتبر نفسي غريباً حين وصلت الى هذا البلد. كنت أحمل في وجداني ذكريات تعود الى الستينات، الى بعض صباي وبدء فتوتي، في مدينة الدارالبيضاء، هنا حيث كان لجبهة التحرير الوطني مركز حيوي، وإلى حيث لجأ عدد كبير من مناضليها، يعيشون ويعملون في كنف الشعب والسلطات المغربية، ويلاقون كل الترحاب والتضامن. كان أبي أحد مستقبلي هؤلاء، وبيتنا مفتوح لهم، كما لغيرهم، دائما، فترعرعت نوعاً ما على معاشرة الذين من جبالهم »طلع صوت الأحرار«، وإني لأذكر أنني قصدت بعضهم بعيد وصولي إليهم فأحسنوا وفادتي، ورجل شهم منهم، موظف سام بوزارة التربية هو من دبر سكني في فيللا صغيرة بحي حيدرة العالي البهي. أقول هذا لأُفهم أن علاقتنا، نحن أبناء جيل الاستقلال، خلف رجال الحركة الوطنية بالثورة الجزائرية، بشعبها عموماً، كانت مطبوعة بالتآزر، بل أحياناً بوحدة المصير، كما تدل وقائع سياسية محددة وتاريخية هامة جداً، منها على الخصوص مؤتمر طنجة (30/28 أبريل 1958، بين الأحزاب الوطنية الثلاثة في المغرب وتونس والجزائر، زمن احتدام المقاومة الجزائرية للاستعمار الفرنسي) ولنا عودة. ذكريات وشجون تراودني وتتموّج وأنا الذي أصبحت ألقب ب »الشيخ« من قبل طلابي، فكل مدرس بالعربية هنا يحمل هذا اللقب، مثل »الفقيه« بالمغرب، أعيش به أيامي وليالي الأولى في العاصمة، مستأنساً حيناً، ومستوحشاً، حزيناً أحياناً، ساعيا للاختلاط بالسكان في الأسواق والمقاهي وقاعات السينما والمحاضرات، متقرباً من جيراني ما أمكن، صابراً على أذى بعضهم من غير أن أفهم لم أذاهم، كابتاً مشاعري، ومتعرضاً بسببها للاعتداء من شخص مثقف ادعى أنني أسرق منه ابنة عمه لمجرد تنزهنا معاً في الشارع العام، وهي أستاذة للعلوم، متقبلا قرار المسؤولين بتسويتنا مع الأساتذة الجزائريين في الراتب، لأننا من الاخوة المغاربة، لا من »النصارى الكفرة« الذين يحصدون أعلى الرواتب باعتبارهم من المتعاونين، باحثاً في كل لحظة ووقتاً طويلا عن أقل آصرة للقرب والتواصل مع العالمين، فلا أجد في الغالب الا الاكفهرار بين الذكور على الخصوص. وانا القادم من بيئة لعوب ضحوك،. لم العبوس القمطرير، فاضطر للذهاب الى المغرب مرتين خلال عام واحد لأفتك برواتبي المتأخرة هناك حيث بها يليق، واجد نفسي مضطرا في الاخير للمغادرة لا أكمل عامي الثاني. لخطأ في انا على الاغلب وليس في شعب ربما لم أعرف كيف اتعايش معه. بعدا ن اعتبرت اني قضيت معه ما يكفي. كم مرة تساءلت عن طبيعة الجوار، والعلاقات التاريخية، وروح التضامن الذي سرى بين شعبينا خلال حرب التحرير. ولأختصر عزوت الامور الى مزاج الشعوب من جهة، والى طبيعة خصوصية، متأصلة فيها، ولا تجوز معها المقارنة. او شيءمن هذا القبيل. لكني غادرت الجزائر - ولكل قصته وحظه في الحياة - على ايقاع صدمة لا نظير لها حين وجدتني وانا اعود نهاية العام الدراسي ابقى محجوزا مع مجموعة من الاجانب و نحن نريد العبور الى المغرب برا في نقطة no man s landممنوعين من شرطة الحدود الجزائرية بسبب اشاعة عن جود وباءللكوليرا يقتضي بقاءنا مدة اسبوع بعد ان نتلقح ضد الوباء،ولا نجد من يلقحنا، ولا كيف نذهب الى بلدة مغنية حيث اقرب مستوصف انذاك، ولا كيف نتدبر قوتنا وقد نفدت نقودنا الجزائرية، ليس من يؤوينا او يطعمنا، فبقينا في العراء وتحت السماء طيلة ايام ومعنا نساءو اطفال رضع. وكل من شكونا له حالنا طردنا بتكشيرة قبل ان يهش علينا كالذباب، ونحن نتفهم عزلنا بسبب وباء مزعوم، ولا نفهم لم كل هذه المعاملة الغضوب، وحمدنا الله وشكرناه اخيرا نحن الموبوئين لما عبرنا نقطة الحدود المغربية الجزائرية زوج ابغال وبقيت من الناقمين الغاضبين، انما لحسن الحظ، الى حين. 3 - غضبت مرة ثانية مع قرار الرئيس بومدين طرد 45 الف مواطن من اصل مغربي من التراب الجزائري بتاريخ 18 دجنبر 1975 عقابا للمغرب الذي نظم المسيرة الخضراء لاسترجاع صحرائه من الاحتلال الاسباني. وجدت في ذلك حيفا عظيما طال هؤلاء العزل قبل غيرهم. وجدت فيه انقلابا على مبادئ جبهة التحرير الوطني. وجحودا لما قام به المغاربة، ومنهم اسرتي، من جهود ومزايا في التضامن عقودا كاملة مع الشعب الجزائري وقيادته التاريخية مما هو معلوم وموثق. لكن خيبتي العظمى التي بقيت دفينة في نفس قسم كبير من النخبة المغربية. وبالضبط في وعي القيادات الوطنية عندنا، هي الاحساس بأن الرهان اللصيق باجندتها المغاربية، اعني مسار جهود وحدة المغرب العربي التي امكن استئنافها، وانعاشها، والتعويل عليها كأفق ممكن لهذه الوحدة، رغم كل الصعاب. وبعد ان اطفئت جمرات حرب الرمال الشهيرة بين الجارين الشقيقين سنة 1963، اقول الإحساس بأن هذه الجهود ستذهب سدى والى الابد، فيما هي عند هذه القيادة جزء لا يتجزأ من استكمال خط التحرر من الاستعمار، بالمواثيق المتوافق عليها في مؤتمر طنجة المعلوم. 4 - وغضبت مرة ثالثة وأنا أحضر مؤتمر اتحاد الصحفيين العرب، وألاحظ كيف كان أشقاؤنا يتشنجون ضد المغرب في قضية النزاع حول الصحراء المغربية، ووصل الأمر إلى حد التلاعب بالبيان العام الختامي للمؤتمر لنصرة حلفائهم من جبهة البوليزاريو، معاكسين لحق المغرب التاريخي في استعادة سيادته على جزء من ترابه. ثم بقيت أغضب بسبب هذا الموقف يتخذ أشكالا وألوانا، سواء في الجزائر أو خارجها. لا يتأتى الهدوء وحدوث التصافي إلا عندما نتجنب الخوض في هذا النزاع، مرجئين التوافق حوله إلى حين، لنصبح سمنا على عسل، وهذا طبعا في مناخ ما يسمى بالنخبة، أما عند عامة الناس، فهو مقذع الكلام، والعصبيات النارية، الويل والثبور، وبيس المصير! وأحب أن اعترف لكم يراودني الحنين، بحكم تجربتي الشخصية، ورغم خيبة أمل عبرت عنها سابقا، لتلك المدينةالبيضاء الخلابة، حيث ذهبت ربما للبحث عن مدينة في خيالي عثرت على شكلها ولم تطاوعني بالنفاذ الى روحها او صدتني عنها، فبقيت بيننا جفوة أحب في كل وقت أن أجلوها بعقد صلح وقبلة وداد. لا أشك أنه حنين، رغبة تراود المغاربة والجزائريين جميعا عموما ونخبهم خاصة باعتبارهم يعون أو يتصورون أن مصير وحدتهم، بأشكال وفي نماذج شتى، أمر قابل للتحقق أو أفق ممكن، وإمكانه قائم بالدرجة الأولى بين المغرب والجزائر رغم وجود مكونات قطرية أخرى لتسمية المغرب العربي أو الكبير (تونس، موريتانيا، وليبيا) وهي معضلة أخرى. إنه لمن الطريف والجارح أيضا أن المهاجر بقدر ما تغذي الفرق، تنكأ الجراح وتشعل العواطف. وهكذا كنت كلما التقيت أستاذي العلامة والشاعر المرحوم جمال الدين بن الشيخ في محافل الجامعة بباريس، أو في بيته العامر، وفي كنف محبته الغامرة، أرى في عينيه انعكاس صباه ومعيشه الغابر في الدارالبيضاء مسقط رأسه، ونظرت في ملامح وجهه الصارمة، لكن في عينيه المضيئتين، التلال التي كنت أصعد في الجزائر، وفي صوته النغمة التي تطربني من شيوخها والأندلس التي يطارده فقدانها، مع حكايا شهرزاد. وهو بعض ما يعتريني كلما انزلقت عيناي بحنو فوق صلعة رشيد بوجدرة، ومنعرجات رواياته أو قابلت عن بعد وقرب صديقي واسيني الأعرج، ولا أحس أنني افترقت لحظة عن هؤلاء. عجبا، اكتفي بالقول كعتاب محب وبصمت. والمحب كما نعلم كتوم، يا رجل، يا واسيني، واش راك، واعلاش تتعطل، »راك بيان؟« ارواح نشربو حاجة، الرواية يمكن تتسنى يمكن ما شاء الله عندك منها خير... والمغرب العربي؟ - ما يسالش، كل حاجة بوقتها هيا... 5 - فعلا، يمكن للاتحاد المنشود أن ينتظر خصوصا بعد انصرام نصف قرن على مؤتمر طنجة، ومثلها على انطلاق مسلسل الاستقلالات الوطنية في البلدان المعنية به. وتجريب وإخفاق عشرات المشاريع المنادية به، الساعية لتنفيذه على أكثر من نحو. يمكنه أن ينتظر وفي نظر البعض بات ممكنا أيضا التخلي نهائيا عن حلم طوباوي لم تعد مقتضيات شعوب المنطقة السياسية والاقتصادية والثقافية مناسبة له، وفي أحسن الأحوال تكييفه للتلاؤم معها. أو لم يقبر ما هو أكبر وأوجه من هذا المشروع، ايديولوجية الوحدة والقومية العربية، باتت عند البعض سبة يعير بها من آمنوا بها وانخرطوا في صفوفها بإخلاص، فصاروا ينعتون من قبل مرتزقة إعلام مرتشي وموجه من قوى دعواتية ورؤوس أموال أصولية ب »القومجيين« بينما مشروع الاتحاد المغاربي ليس إلا جزء من كل، وفرعا من أصل؟! لنقل بأن المتاح أمامنا هو مراجعة بعض خطاطات الماضي بخصوص هذه القضية، والتساؤل عن مرجعياتها المرتبطة بإيديولوجيات وحسابات سياسية تعني أولا الهيئات الوطنية، المتزعمة للاستقلال. 6 - في سنة 1958 كان حزب الاستقلال المغربي، وحزب الدستور الجديد البورقيبي، وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، قد التقوا في طنجة لوضع خطة تفضي إلى اتحاد فيدرالي بين بلدان الأحزاب الثلاثة، مع تشكيل مجلس استشاري للمغرب العربي ينبثق من المجالس المحلية لهذه الأقطار، جدير بالتذكير أن الجزائر كانت وقتئذ البلد الوحيد الذي لم ينعتق بعد من ربقة الاستعمار، ومن ثم يبدو المستفيد الأول من هذه المبادرة، بما أنها ستمثل تدويلات للقضية الجزائرية يحرج فرنسا، ويعزز من موقف الجبهة وكفاحها لنيل الاستقلال. بينما نعتبر أن تفكير النخبة الوطنية للمرحلة في البلدين المستقلين، بحسابات فرنسية معلومة حينها يخفي نوعا من رغبة التعالي عن مواجهة المشاكل المباشرة بعد الاستقلال وتعزيز سلطاتها، إلى جانب العرش، أو أبعد منه شأن القيادة الاستقلالية في المغرب بتعويم السياسة في المجال المغاربي، وهو ما يقابله في المشرق نشدان الوحدة العربية قبل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في كل قطر على حدة. على أن الفرز لم يكن دقيقا تماما بين النخبة وعامة الشعب نظرا للتلاحم الشديد في المرحلة الوطنية، ولأن الدولة الوطنية التي تتحدد معها التفاصيل، وتبرز المشاكل وبؤر الصراع، كانت في نواتها الأولى، ومعها النخب الجديدة التي ستنبثق مع الطبقة الوسطى، وتتولد لها ثقافة جديدة في الميادين كلها، ولهذا لا يجوز القول بأن الفكرة المغاربية، أي الاستقطاب الوحدوي أو الاتحادي، تصورا وآليات ومؤسسات، وقبل هذا وذاك حماسا تلقائيا، هو من بنات أفكار تلك القيادات الوطنية، وبوازع منها وحدها، يقتصر على وعيها هي بالذات، بالرغم من أي حسابات جراءه، مما هو من طبيعة كل مشروع سياسي. 7 بيد أن هذه التلقائية للمشروع المغاربي فقدت تدريجيا أحقّيتها. وطفقت تتراجع أمام خيبة أمل الشعوب من الحصيلة الأولى للاستقلال. واحتكار منافعه من قِبَل فئات انتهازية محدودة. أضف الى هذا سطوة الأنظمة الحاكمة التي راحت تستغل الشعار بحوافزه للتغطية إما على فظائعها، أو تحريف الانظار عن فشلها في تلبية الحاجات الملحة اقتصاديا واجتماعيا، وهذا ما شهدناه في المغرب في النصف الاول من السبعينات، حين كانت البلاد تدخل أول نفق ما سُمي سنوات الرصاص. بتزامن مع استبعاد القوى الوطنية والديمقراطية من الحكم، وتعويضها بأحزاب مصطنعة، لم تكن يوما ولا قياداتها في وارد أي مشروع مغاربي أو قومي، وفي المقابل، مثلت الجزائر بالنسبة لليسار المغربي بُعدا من أبعاده الثورية، وملاذا أكثر من النظر إليها كطرف في صرح للاتحاد المغاربي يمكن تشييده مستقبلا. لقد عاينا هذا عن كثب في الإقامة الجزائرية المنوه بها، وأتت على ذكره أدبيات يمكن الرجوع إليها بثقة. 8 يمكن القول بأن ثقة المغاربة، حكاما ونُخبا وجماهير عريضة، بدأت تهتز حيال النزوع الى الاستمرار في التعويل على الأفق المغاربي وإمكاناته، منذ حدوث جملة من ردود الفعل الجزائرية على المسيرة الخضراء المغربية، وتطورات ملف الصحراء ثم حدوث القطيعة السياسية التي ولّدت عداء مستفحلا بين الجارين القريبين، وحتى الى ليبيا التي نعرف درجة تورطها في هذا الملف، ومُناصبتها العداءَ الصريحَ للحكم في المغرب، سواء بدعمها لجبهة البوليساريو الانفصالية، أو بكونها موقعا لبعض المعارضين المغاربة المناهضين والانقلابيين ضد حكم الحسن الثاني. ونظرا للإجماع الذي حظيت وتحظى به دائما قضية مغربية الصحراء (المسماة لاحقا بقضية الوحدة الترابية، والمتوسعة دوليا على صعيد الأممالمتحدة ومنظمة الوحدة الافريقية، التي غادرها المغرب احتجاجا على الانحياز لموقف الجزائر وقبول عضوية ما يسمى بالجمهورية الصحراوية) فإن الأحزاب المغربية كافة. وخاصة منها تلك المتبنية تاريخيا لفكرة وحدة المغرب العربي، توقفت عن الدعوة في أدبياتها وإعلامها للفكرة من غير أن تتنكرر لها نهائيا. محملة الجزائر أولا وأخيرا مسؤولية إغلاق الأفق المغاربي، من منطلق ما وصفته باستمرار الجارة الشرقية في مناهضة حقوق المغرب التاريخية في صحرائه (كذا). أما حين وقعت حادثة تفجير فندق إيسلي بمراكش صيف 1994. واتُّهمت المخابرات الجزائرية بتدبيرها. فالسيل كان قد بلغ الزُّبى. ومن مظاهره القصوى إغلاق الحدود بين البلدين، وهي شريان حيوي الى حد بعيد بين الشعبين، لا خطَّ جغرافيا وحسب. يعتبر هذا الحادث قطعا لشعرة آمال النخب المغاربية في إبقاء باب الأمل مفتوحا في وجه تطورات إيجابية للعلاقات. وعودة للحكمة والتراضي، وهي الشعرة التي ماتزال مقطوعة رغم مظاهر تواصل شكلي بين قيادات المغرب والجزائر على الصعيد الرسمي، تلعب فيها اللياقة الدور الأول وليس أي إرادة سياسية بناءة وذات مرمى استراتيحي، وعلى هذه الأخيرة المعوّل 9 يحسُن بنا بعد هذا لفت النظر الى أن التراجع، قُل الفتور الذي انتاب التوجه المحموم في وقت سابق الى الوحدة المغاربية، مردّه من نحو آخر الى انصرام كل بلد من مكونات هذه المنظومة الجغرافية والبشرية، الى الاهتمام بمشاكله الداخلية العويصة على أكثر من صعيد، والبحث عن سُبُل لحل المعضلات الوطنية العاجلة لأجيال وفئات اجتماعية عريضة، حتى وذوي الشهادات والمتنورين، والمتعلمين عموما بهتت في أعينهم الشعارات والمشاريع الكبرى ذات الآفاق القومية. وانقطع حبل التواصل الثقافي بينهم أو الحماس لها ظرفيا فقط، وليس بوعي والتزام متواصلين، اللهم عند بعض المحترفين السياسيين. لنتذكر في هذا الصدد سنوات الحرب الطويلة التي عاشتها السلطات الجزائرية ضد المسلحين الأصوليين، بعشرات آلاف الضحايا، والاحترابات التي تخبّط فيها بلد المليون شهيد جرّاء إجهاض مسلسل الانتقال الديمقراطي، زيادة على تصاعد مشاكل ومتطلبات التنمية وعدم كفاية شعارات حرب التحرير، أو التصدي لخطر المسلحين أنفسهم الذين تحولوا ثقافيا الى جزء من البنية الاجتماعية الواسعة، فضلا عن رياح التغيير والتأثير القوية القادمة من الخارج، تربط السكان والجيل الجديد بمجرّات جغرافية وأفلاك سياسية استراتيجية أخرى، عندها هي الأهم. وتونس، من جهتها، محكومة بشروط النظام الاستبدادي، حكامها عاكفون على إعلاء نموذج للنمو يرون فيه مقدرة التحدي الكبرى ضد مشاكل الداخل، وصورة للتميز عن الجيران، وأنجع أداة مع الاستبداد لنبذ الديمقراطية، فيما المغرب انخرط عشية رحيل ملكه الحسن الثاني في مسلسل التناوب التوافقي مع المعارضة ومنه الى »العهد الجديد« لمحمد السادس. 10 تحصيل حاصل إذن أن التفكير والتخطيط لموضوعة المغرب العربي، أو أي تسمية بهذا المعنى، تجنبا للجدل العقيم، تتفاعل طردا وعكسا مع الواقع المحلي والخصوصي لكل قطر على حدة، وأنها بهذا المعنى فرع فيه لا أصل، أو باتت كذلك لما انتهت المرحلة الولى من عهود الاستقلال الوطني. وانخرطت الأقطار في بناء الدولة الوطنية على حساب تآكل الإيديولوجية الوطنية الكلية أو القومية، المغربية جزء منها، التي كان مقرها القاهرة وقطباها الكبيران محمد بن عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي بالنسبة للمغرب تحديدا. ثم لا نغفل عنصرا حساسا كان ذا دلالة في زمنه. ونعتقد أنه أثر بطرق مختلفة في تعطيل مسلسل التوجه الاتحادي، أو على الأقل جعله ثانويا، وربما متجاوزا مرحليا. إنه عنصر التدخل والارتباطات الخارجية، المرتبط بسياسة المحاور. للتذكير دائما. فإن الجزائر، وفي عهد هواري بومدين تحديدا ارتبطت بقوة بمنظومة بلدان عدم الانحياز بسياستها التحررية والاشتراكية التي كان عبد الناصر ونهرو ونكرومان روادها الأوائل، وزادت في هذه الفترة صلابة باقترانها مباشرة بالمعسكر الشيوعي (السوفياتي) وموالاته في سياق الحرب الباردة والمواجهة مع ما كان يسمى الامبريالية والغرب الاطلسي، ويمكن إلحاق ليبيا القذافي بهذا التوجه. هذان القطبان اللذان كان المغرب محسوبا عليهما، هو وتونس وموريتانيا، الى حد ما. ويعتبر أنه يدور في فلكهما والمصالح متبادلة بينهما. في حساب سياسة الأحلاف، والتي لعبت النخب الحاكمة دور سنّها وديمومتها، وربطت العواصم المغاربية بمصالح الشرق والغرب، لم يكن واردا ان تعرف القضية المغاربية أي انتعاش وتطوير جدي. وحتى بعد أن ولّى العهد البومديني، وانهار جدار برلين، حالت عوائق نزاع الصحراء دون أي تغيير لهذه السياسة. ونحن نعلم جيدا اليوم كل تطورات وتعقيدات هذا الملف، بوصفه عقبة كأداء في وجه أي توجه جدي وحاسم للهدف المثالي المرسوم في وثائق مؤتمر طنجة، لا بل أقل من ذلك أي في إبرام معاهدات وإنجاز مشاريع مشتركة ذات منافع آنية لمصلحة شعوب المنطقة. ولكن من قال إن فكرة الاتحاد المغاربي، أو أي تسمية مرادفة، مازالت قابلت للحياة، وتمثل رغبة مشتركة لدى هذه الشعوب، وفي مقدمتها حكامها ونُخبها قيادات سياسية وهيئات مدنية وثقافية؟ من قال إن هذه الفكرة لا تعتبر اليوم أكثر من لحظة (نوستالجية) ناسبت حقبة محددة في تاريخ المنطقة تقاطبت فيها قياداتها الوطنية حول محور المصير المشترك أي تقديم الدعم لجبهة التحرير الوطني في كفاحها المسلح ضد الاستعمار (الفرنسي) لتحقيق الاستقلال؟ أما بعد ذلك، فإن ظروفا مختلفة جلبت أفكارا مغايرة، وتشابكت بمستجدات سياسية قطرية، وأخرى جيواستراتيجية قلبت ظهرالمجنّ لأماني الأمس، وغيّرت بالتالي، أوراق اللعب. 11 لإمكان الاقتراب من هذا التغير، أو أحد وجوهه، سنحاول التعارف على موقف وتحليل واحد من أبرز وأقوى ممثل للنخبة الفكرية العقلانية المتنورة، ومؤرخ ربط مسيرة البحث العلمي عنده بالدراسة المؤصلة للتاريخ المغاربي وتحليل ظواهر وإشكاليات الثقافة العربية، نعني الأستاذ عبد الله العروي، مقدرين وجود مفكرين من عواصم المنطقة يحملون إما أفكارا مقاربة أو متباينة، وهي بدورها جديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار في مقام الموقف والنظر. ففي حوار مميز أجرته معه قريبا جدا مجلة »Zamane« (أبريل 2012 ع.18 الدارالبيضاء). وجوابا عن أسئلة دقيقة وإشكالية تخص تاريخية المسألة المغربية، وأفق / آفاق وحدة المغرب العربي المنشودة وإمكاناتها، وكيفية التفكير فيها بين الماضي والحاضر. بين تغيير الأجيال ومع تحول الرؤى يضعنا العروي في قلب تصورات تبدو للوهلة الأولى مفاجئة من قِبل من عاش المسألة بوعي وارتباط مكين. وها هو يقدم بشأنها تفكيرا لنخبة تجهر بموقف مختلف. 12 يبدأ صاحب »الإيديولوجيا العربية المعاصرة« في هذا الحوار من منطلق خلخلة معتقد سائد، مطروح في اعتقادنا جميعا كمُسلّمة، لا تحتاج الى شرح ولا تفكيك أو إقناع. يقول بلهجة المسفّه: »نحب أن نعتقد بأن وحدة المغرب العربي تجد أحقيتها في سياق الجغرافيا، بيد أن هذا ليس بدهيا البتة«. ويمضي مفسرا: »حين تتوحد مناطق معينة، فذلك لوجود عناصر مشتركة (الاصل، اللغة، الدين والثقافة إلخ..) لكن هذا لا يكفي ما المطلوب، والحالة هذه؟ يجيب: »لابد من إرادة سياسية، إرادةرجل واحد أو حزب سياسي مستندة الى إيديولوجية قوية ومعبئة« وكأن العروي أحس بإمكان الاعتراض على هذا الشرط، باعتبار ان هذه الارادة تم التعبير عنها في وقت سابق (زمن الحركات الوطنية). ومن قبل النظام المغربي بصفة خاصة، وإن أحاديا، فيتصدى للاعتراض سلفا معتبرا ان »هذه الوحدة تبقى هشة، كما نعرف عن حالة الاتحاد السوفياتي أو يوغسلافيا »اللذين تفككا« ويفترض المفكر المغربي وجود من يجادله بحجة ونجاعة الرهان الاقتصادي. بديلا عن الحماس والخطاب السياسيين، فيرد عليه »يقال إن هذه الوحدة يمليها الاقتصاد، وهو ما قيل بشأن يوغسلافيا، ولم يكف. وكذلك الشأن مع تشيكوسلوفاكيا التي لم يمنع التكامل الاقتصادي بين طرفيها من حدوث الانفصال »وإذن هل هو مجرد حلم طوباوي أم وهم كل ما راود الوطنيين وشعوب المنطقة لمدة عقود، ومازال الحلم يتغذى بآمال وتوصيات في مؤتمرات وبتجليات في عديد خطابات تعلق الامر بمناسبات ثقافية أو لقاءات نقابية، أو إحياء ذكريات مشتركة، فضلا عن أواصر الجوار الحيوية، المباشرة، ومنها كذلك المبادلات الممنوعة والعلاقات العابرة للحدود؟ 13 يجيبنا صاحب المؤلف الشمولي »تاريخ المغرب الكبير« ففكرة المغرب العربي، فكرة الاتحاد عموما يقول فقد وُجدت ويُرجعها الى سببين: الأول: الأمية المتفشية، معتبرا انخفاضها (مثلا من 70 في المئة الى 30في المئة ) ولّد لدى عامة الناس شعورا بالفوارق، وبالتميز، وكذلك بالخصوصية، ودفعهم الى البحث عن هوية مختلفة، السبب الثاني يعزوه الى أن فكرة الاتحاد مرجعُها ما يعتبره هيمنة نخبة محدودة ومتجانسة، الشيء الذي تراجع الآن، نظرا لما تحقق من إنجازات الدولة الوطنية فأصبحت الشعوب أكثر وعيا بحقوقها وتمايزاتها، بعضها البعض، في هذا السياق نسمع مؤلف »أوراق« كأنه يضيف ورقة جديدة للكتاب الذي وضع له عنوانا فرعيا هو »سيرة ادريس الذهنية« يقول بصيغة الاعتراف، وربما النقد الذاتي للحماس الذي غمره في الماضي، بأنه: »لم يؤمن أبدا بأي رؤية اندماجية للمغرب الكبير« وبأن مثاله الوحدوي العربي أو المغاربي كان أقلّويا، رغبة نزوعا شخصيا وهي عبارة ترادف القول بأن النزعة المغاربية مخصوصة بالنخبة بالدرجة الاولى هذه نفسها التي يذهب بأنها انتقلت الى مطامح وانتماءات مغايرة أوسع من الرقعة المغاربية، بل والعربية جمعاء أي هي نخبة نخب جديدة مختلفة في رؤيتها الكلية، وليس الى المسألة قيد الدرس وحدها. وبعبارة جامعة يصف عبد الله العروي الظاهرة على الشكل التالي: »في زماننا / نظرا لتكويننا الثقافي كنا مسترشدين بمنطق التاريخ والاقتصاد، أما اليوم فإن للسيكولوجيا المقام الاول« ولن ندخل في شرح المصطلح الاخير، لأنه جماع ذهنية وتاريخ ومشاعر، إلخ.. 14 وكأنما ليدق المسمار الاخير في نعش هذه القضية / الطموح، التي طالما تبجّلت مثلا أعلى لدى الوطنيين الوحدويين في بلدان المغرب العربي في مواجهة الغزو الاستعماري والتوسع الامبريالي وهو واحد منهم (في الماضي وقبل أن يسجل انعطافته بإيمانه بحتمية وجدوى الدولة الوطنية المعنية) يزيد في التبرؤ من ماضي الحماسة الوطنية، نافيا أن يكون وجود فكرة للاتحاد برهانا على وجود مغرب كبير في الواقع إذ الأمر بمعنى آخر، لا يعدو إسقاط آمال على هذا الواقع وفي كون الخلل يكمن في: (...) أننا كثيرا ما نخلط بين تجانس نخبة ما وتجانس السكان«. فهل علينا ان نستخلص بأن عامة الناس، المواطنين العاديين لا علاقة لهم بالروح المغاربية، وإنما شُحنوا بها شحنا من طرف حكامهم وقادة أحزابهم، أي من النخبة السياسية؟ يفصل العروي في هذا السؤال المفترض من عندنا بإقراره أن المسيرة الخضراء: برهنت ان المغاربة كانوا ذوي وعي وطني قوي جدا الوعي بالخصوصية الوطنية القطرية، وكأنما ليقول بأن هذا هو المعول عليه لا أحلام أو تطلعات النخبة التي تبدلت بدورها أحلامها ومنازعها، والتي نرى أنها تذهب باتجاه العولمة. 15 أجل يُحَوصل المؤرخ والمفكر المغربي الأبرز اليوم بنبرة القطع: »إن وحدة المغرب العربي ليست واردة في الجغرافيا ولا في التاريخ«. لكنه بالرغم من هذا الحكم الباتّ يترك الباب نصف موارب، مقررا بأنها »الوحدة« 1 تبقى إمكانية وأطروحة بين أطروحات. 2 وهي لن تصبح هدفا معقولا إلا إذا اقتنع القادة والشعوب بجدواها،لبقائهم أولا، ولرفاه عيشهم، ثانيا. ما يعيدنا الى فكرة الإرادة المعبر عنها أعلاه، مع فهم معقوليتها . ويمكن فهم السبب الاول بعلاقة مع ما أصبح متاحا من آفاق التعاون والتكافل والأحلاف وامتداد الآفاق بين وأمام الدول والشعوب لا الوحدة المغاربية التي شكلت في زمن مضى الإمكانية الوحيدة في المنطقة. إنها أطروحة يمكن أن تذهب الى نقيضها، ثم تركيبها، خلافا لتصور جامد في الماضي، وفي السبب الثاني تفيد المعقولية التخلي عن الحماس والعاطفة بالاحتكام الى العقل، والى منطق المنفعة الجدوى، الى ما هو براغماتي بالرطانة الاقتصادية الحديثة، هو مذهب الدول الحديثة ونُخبها لتوفير أسباب البقاء وتحقيق الرفاه، مع الاحتفاظ بالخصوصية. 16 وكذلك يمكن القول بأن رؤية العروي وأفكاره في هذا الموضوع، هي أطروحة بين أطروحات. فإلى جانب النظر العقلاني، والمراجعة لخطة الحركات الوطنية المغاربية، المناسبة لظرف معين، وكذلك تصور التقنوقراطيين، والبراغماتيين ونظرائهم ممن لا يعنيهم أمر الارتباط على المستوى المغاربي ولا القومي، إلا من جانب المنفعة المباشرة خلوا من أي وجدان أو تكافل على الصعيد العربي، وما شابه الى جانب هؤلاء تنهض اليوم وبقوة في ظلال ما يسمى ب »الربيع العربي« حقيقيا أو مزعوما، أطروحة مقابلة هي المتمثلة في وجهة نظر الحركات الأصولية (= الاسلاموية) دافعت عنها في الماضي القريب إيديولوجيا. وأضحت قادرة اليوم على البرهنة عليها بتثبيتها في حقل الواقع، بما أن دُعاتها قد تسلموا مقاليد الحكم، كله أو بعضه، في بلدان المغرب العربي، وباسم حكم صناديق الاقتراع، وهؤلاء تجمع بينهم في هذه المرحلة آصرةُ الحكم والتخطيط لمستقبل بلدانهم، وللمنطقة عامة بوحي من مذهبيتهم الاسلاموية، وهذه تخترق الجغرافيا الضيقة، في أفق أوسع وأشمل، أي يتعدى حدود العالم العربي (من الخليج الى المحيط) ليمتد الى المجال الرحب للعالم الاسلامي. ففي المغرب وتونس وليبيا يسيّر الملتحون بصورة مباشرة دفة الحكم، وفي المغرب، وبالرغم من السلطات العليا التي يحتفظ بها الملك، يؤول لأغلبية حزب العدالة والتنمية أمر ما تسميه بلغتها »تنزيل« الدستور، ولا تخرج الجزائر إلا مؤقتا من هذه »الشرنقة« وإلا فإن الصوت الانتخابي الاسلاموي هو الغالب لو تمّ تنزيل أوراق الصندوق الانتخابي بشكل سليم. وعندئذ تكتمل الدائرة، إن ما يجمعهم، ولا أقول يوحدهم فالاسلام هو العروة الوثقى بينهم ووحدتهم المثلى هو محاربة ما يرونه الفساد، عمّ عندهم البرّ والبحر، وهو مادي ومعنوي (= روحي). وإذا كانوا لا يتجاهلون الخصوصيات الوطنياتية، الخلافات السياسية (نزاع الصحراء، مثلا) ونعرات الشعوب، فإن الإيديولوجية الاسلاموية التصحيحية تبقى لديهم المصباح والأداة لإقرار العدالة السماوية في الأرض، ومن ورائها تحقيق المرامي البعيدة، كالاتحاد... وعموما. فإن من يجد في النموذج التركي مثالا يُحتذى، لا يبدل المرجعية ولا الهدف تكتيكيا، بل تصبح عنده الوحدة الاسلامية الكبرى، كما كانت دائما، هي استراتيجية الوجود والعمل، هذا كله، بطبيعة الحال، لا يتنافى مع العمليات والمبادرات الإجرائية والتوفيقية التي يمكن أن تسهم في إصلاح ذات البين، أو تدفع القطار المغاربي في سكة تقنوية واقتصادية محددة الأهداف، لابد من التنبيه هنا الى هذا الاختيار ليس حصرا هنا على النخبة، بل يشمل العموم الموالي لهذه الحركة الى درجة التماهي بين الطرفين من مظاهره الاستقطاب الحاصل في التصويت الانتخابي ومن ثم فالنخبة والشعب متجانسان من حيث نظرتهما الى الواقع المحلي والجهوي. 17 - يقينا ان المسألة الديموقراطية في ارتباطها باهداف الاصلاح، ومحاربة الفساد، باتت هي المبدأ الاول عند الاحزاب التاريخية، يمينية أو يسارية، رغم ان التزامها الوطني التاريخي بوحدة المغرب العربي لم يتزحزح. وان تعقلن وتمنفع ، وتكيف خاصة مع الظروف الداخلية والعلاقات بالعالم الخارجي وإملاءاتها. لقد كانت المسألة فعلا اولوية وطنية دائما في كل بلد على حدة. وكلما تقدم بناء صرح الدولة الوطنية وتوابعه صرنا نلاحظ الخفوت التدريجي لصوت المساندات القومية الكبرى (مناصرة القضية الفلسطينية مثلا) وبالنسبة للمغرب تحديدا، فان هذه الاحزاب منسجمة هي والحكم انسجاما كليا في تصورها لقضية الاتحاد المغاربي، الذي لن يصبح الطريق اليه سالكا الا عبر انهاء نزاع الصحراء، فاي معضلة لقد ظهر جيل جديد بين هذه الاحزاب يؤمن بدوره بمبادئ براغماتية. ويفهم التواصل ضمن هياكل عملية، ومبرمجة، بقدر ما تعود على النظام والمؤسسات المالية والساكنة بالنفع العميم. اما حماس الماضي، وشعار وحدة المصير، فان جيلهبين من رحل عن هذا العالم، وبين من يكاد يحتضر، ومعه تحتضر الثقافة التاريخية السياسية، الوطنية والقومية للمغرب العربي، بل وللعالم العربي، كان يقود سياسة وايديولوجية امس مناضلون وقادة مؤمنون، واليوم هي بين ايدي بيادق يتحركون في حقل السياسة، ويعملون اجراء محترفين كمقاولين، وقد انتهى بهم الامر الى اعتبار مشروع كاتحاد المغرب العربي بمثابة ورشة بين و رشات، مثلما خلص مفكر ومتنور ووطني تاريخي قبل كل شيء، الى اعتباره اطروحة بين اطروحات، وكفى 18 - ويقينا ان الشباب الذي غمر الميادين في الرباطوتونس العاصمة، وشيئا ما شوارع الجزائر العاصمة، وبعض نواكشوط، فضلا عن الاحداث الاولى في بني غازي بليبيا، لم ينتفض، ولا ثابر اياما واسابيع، ويواصل، بحتاجر تبح، و حشود تتزاحم باعمار مختلفة. وعزيمة ثابتة ووعي متفجر، لم يفعل هذا وذاك لأنه ينشد الوحدة، من اي نوع، ولا ارادته شحذت في المغرب، مثلا، كي ينهي الحكام الجزائريون اغلاق الحدود مع جارهم المغربي، ويسمحوا للبلدين بعودة تعايش مثمر،و لا الشباب الجزائري نبس ببنت شفة عن اي لاعج من اللواعج المشتركةفي المنطقة المغاربية، سواء وهي منظورة او كامنة في اللاوعي الجمعي. لقد فاضت مظاهرات الشباب التي بشرت بالربيع العربي، قبل ان يحصد ثمارها غيرها من المتربصين والمنظمين، رافعة شعارا واحدا يجمل كل حركتها ويتكون من عبارتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، »ارحل« و »الشعب يريد اسقاط الفساد« لم يتوفر لهذه الفصيلة النافرة من المغردين بارهاصات الربيع الطلق برنامج ولا اجندة ولا حتى موجه معلن، سوى حناجرهم وغضبهم. انفجرت رد فعل اثر الحادثة الشهيرة للشهيد البوعزيزي في قرية سيدي بوزيد البطلة، التي توجت بهروب الدكتاتور زين العابدين بن علي، الملقب منذئذ ب زين الهاربين وسقوط نظامه الاستبدادي. لتنتقل الشرارة، كما نعلم، الى ميدان التحرير القاهري لتحرق بنارها دكتاتور مصر (حسن مبارك) ثم لتسري النار بعد ذلك في الهشيم. هنا يمكن القول بان الشارع العربي، نخبته الفتية المتنورة. خريجيه الجامعيين العاطلين، هيئاته المدنية، الحضرية والقروية كذلك. شبيبته المنظمة سياسيا والمتمردة على كل تنظيم، هؤلاء واولئك، اناثا وذكورا فرادى وانفارا، وحدتهم الرغبة في اسقاط رموز الفساد، وارادة حصولهم على الحق في العيش الكريم والكرامة والعدالة. وسيادة القانون والديموقراطية، غدت المسألة الديموقراطية هي التراب الوطني والقومي الجديد لملايين العرب، وهذا اتحادهم او طموح اتحادهم الجديد، من المحيط الى الخليج. وما الاتحاد المغاربي الا رقعة في الشطرنج الكبير، واننا لمدعوون لامعان النظر في تركيب هذه الجغرافيا المختلفة، تبدو للبعض مجرد زبد سيذهب جفاء، بعد ان تكسرت امواجه على صخرة الواقع الصلد، بيد ان الواقع يتبدل، ووقائعه ما تنفك تتحول ومعطياته تتجدد، واحلام اهله بلا حدود. هل يمكن، بعد هذا، التعاطي مع الظرفي والمؤقت لاستقراء رأي او موقف معقول بخصوص توجه خارجي ذي طبيعة استراتيجية. من ظاهرة التحولات السياسية والنفسية الكبرى للمجتمعات العربية من بؤرة حركة الانتفاضة الشبابية، فيما هي فورة ونسيج تختلط فيه حساسيات متعددة ومتنافرة ثقافيا وايديولوجيا قاسمها المشترك هو الاحتجاج بالدرجة الاولى؟ اجل، انما لابد من اخذها بالاعتبار وبقوة، نظر لوضعها كرافد ورأس مال الغد. 18 - وليس ابعد عن هذا المعنى قولنا ان مفهوم النخبة في الاخير، اذ يحمل معاني الصفوة والحاشية في الحكم، والخاصة. وعلية القوم والمتميزين والانتلجنسيا، والمتنفذين في مواقع القرار، ومثله، له في الان مفهوم رجراج، مرن وقابل للتعبئة بالمعنى حسب الحقب التاريخية والثقافية، ووفق درجة التعليم والنمو وتكافؤ الفرص في بلد معين. وانه كلما كانت للنخبة قدرة القرار والتأثير الا واعتبر الحقل الذي ترتبط به ذا اهمية. و قابلا لان يخضع بشكل ناجع لتصورها واختياراتها. نقول هذا لان موضوع الاتحاد المغاربي، وكل ما هو من قبيل التعاون او بصيغ التكامل الاقتصادي. مثلايندرجا اساسا في اطر مهيكلة رسميا بالدرجة الاولى. والقرارات الحاسمة فيه يمليها وينفذها الحكام، وهو في منطقتنا يملكون القول الفصل فيما تبقى اقوى النخب، واكثرها خبرة تأتمر بأمرهم،و تخطب ودهم او تخاصمهم بمقدار، ولها بعد ذلك ان تهرطق على هواها، ولذلك يصعب علينا الجزم بحقيقة الرغبات في هذه المسألة. والنظرلكل ما بحثنا فيه كافتراضات وفرضيات، لا سيما ونحن في هذه الجغرافية الخصوصية من العالم العربي نعيش فترة غليان تتطاير فيها شظايا المقولات والمعاني، بل و ما كان الى عهد قريب يعد من قبيل المقدسات. نقول هذا لنخلص الى أن تبلور دولة مؤسسات بشكل صحيح، في مناخ تسود فيه الديموقراطية، وهو مسلسل طويل الامد، ويتاح فيه لاوسع قطاعات الشعب التعبير عن حاجاتها، واستشراف تمنياتها المستقبلية في علاقاتها بالمحيط الخارجي، القريب والبعيد منه، لهو الكفيل في نهاية المطاف بدفع الشعوب الى ربط جسور تواصل متين. و تعاون متكافل، تختار له ما تشاء من الأسماء والعناوين، وليس »إرادة رجل واحد« كما زعم عبد الله العروي الذي قدم في هذا الصدد آراء جوهرية، بكل تأكيد. 19 - وبعد، فقد قدمت لهذه الورقة باستهلال ذي نكهة شخصية وبرواية عنصر من سيرة ذاتية، ولا أجد أفضلمن العنصر ذاته لكلمة الختام، منداة بالشوق والمنى لما هو غائب ومتفقد. لقد بدا في استهلالي وكأني أنفر من بلد صميم، من جارنا الشرقي، أو أظهر تجاه أهله بعض خيبة أمل. وهو استنتاج محتمل في حد ذاته، لولا أنني صمتت خلاله عن إحساس وعن معنى لم تكن الأىام قد وهبتنيه بعد. أظن أن أحد الأسباب الخلافية الكبرى بين الشعوب، ومصدر سوء تفاهمها وتباعدها، هو اسقاطات الواحد على الآخر، وافتراضه المسبق، التسلطي، بإمكانية إن لم نقل حتمية النظير، ولم لا المتسيد، لا الند أو المحاور والمكمل الضروري. لا تعاون ولا تكامل مع استبداد الرأي، وإرادة الهيمنة ونزعة التوسع والشعور بالتعالي وعجرفة الماضي، ولا وعي النعرة، وغياب قابلية التنازل لفائدة مصلحة مشتركة. وكنت قد أسقطت الكثير على من ذهبت إليهم في مهمة تعليمية تربوية. مغلبا أهوائي على حقهم، وغلوائي على طبيعة مزاجهم، وهم في بلدهم علما بأني وفدت إليهم ملء الحماس والمحبة. وهو شعور يجد نسغه في سنة 1969 حين قمنا نحن جماعة مجلة »أنفاس« وتيارها الأدبي برحلة تاريخية حقا قادتنا صيف ذلك العام البعيد جدا اليوم، إلى الجزائر وتونس، عبر الطريق البري على متن سيارة من نوع بوجو 404 (الشاعران عبد اللطيف اللعبي، مصطفى النيسابوري، الرسام محمد شبعة، والمهندس السياسي الشيوعي أبراهام السرفاتي، وكاتب هذه السطور). كان حلما ومشروعا قررت تنفيذه جماعة أنفاس التي كنت من أعضائها لربط الصلة بأدباء ومثقفي المغرب العربي انسانيا وابداعيا ولطرح برامج للمستقبل. وإني مازلت أذكر أن زادنا كان قليلا، يكفي انحشارنا كلنا في سيارة واحدة، وفي الجزائر تكفل بمبيتنا من قصدنا من معارف وأصدقاء أذكر منهم الشاعر المغتال جان سيناك ومولود معمري وأسماء وازنة أخرى في الساحة الأدبية آنذاك. ووجدنا عند مضيفينا الحماس ذاته الذي قادنا إليهم، تشاغفنا كثيرا وتبادلنا الرأي، وتجلى لنا المستقبل زاهرا، وزاخرا بالمشاريع المشتركة بين مبدعي ومثقفي البلدين، وقد تبلور ذلك في ملفات حول قضايا وأفكار تهمنا جميعا. وقصدنا بعد أيام الديار التونسية حيث لقينا الحفاوة نفسها، واجتمعنا في ما أذكر باللساني رشاد الحمزاوي والقاصين عز الدين المدني، وسمير العيادي، حولهم ثلة من الأدباء والمثقفين الطليعيين. لقد كانت الطليعية في الثقافة والأدب والالتزام هي ما يقودنا واللحمة الرابطة في مسعانا وتعارفنا، نسعى إلى بناء مغرب عربي ثقافي وإبداعي برؤية طليعية. وقد نجحنا في خطواتنا الأولى، وكنا سنذهب أبعد لولا تكالب ظروف العسف السياسي في المغرب فتوقف المشروع، إنما إلى حين. كنا جيلا آخر، مختلفا عن جماعة مؤتمر طنجة، لا تكفينا الروح الوطنية، ونتقدم بشعلة إذكاء الروح التقدمية ومناهضة الرجعية ونزعة التحرر الشامل. كنا نخبة مستنيرة وثورية، غير محجوزة في القوالب السياسية ولا الهياكل الدولتية الجامدة. 20 - هذه الرحلة العظيمة، هي ما شجعني على الالتحاق للتعليم بالجزائر الشقيقة، هنا حيث عشت زمنا ثوريا وشاهدت خطوات بناء كبرى، وتحولات تاريخية، وملتقيات كفاح وتحرر، خاصة شعبا يولد من رماده، وجيلا فتيا يقبل أبناؤه على استعادة تعلم تاريخهم وثقافتهم ولغتهم، وصوغ هوية تناسب حاضرهم ومستقبلهم، وأنا أسهم بقسط في هذا المسعى، وفي الآن كنت أتخبط في همومي ونزواتي، وأبحث عن نفسي وأضيعها كلما توهمت أني قبضت عليها. لكني أتذكر أني هنا شغفت بالولادة الجديدة، وقدرة الشعوب على الصمود والنهوض، وهنا بدأ لساني العربي يذرب وهنا خفق قلبي بأول حب. وهنا كتبت بعض قصصي الأولى، وهنا غضبت من الناس لم أتريث لأحس بمشاعرهم، وأتفهم طبائعهم، وعدت إلى المغرب لأستأنف حياتي، كما تصورتها بمزاجي، لكن الجزائر كانت بالرغم مني قد سكنت شغافي، صرت أزعم مستقبلا أني من بين قلائل يفهمون هذا البلد وشعبه، ويقرأ أدبه العربي الفتي، ثم الناضج، بما هو أدبي ويعاشر كتابه بوصفهم كتابنا جميعا، وفي كل مرة يقفز أو يتغاضى أو يغيظ المعوقات السياسية المنفرة، ويشدد على أن التعليم والثقافة عامة، حقل الفكر والإبداع يمكن أن تينع بذوره، فيه ينبغي أن نزرع حبنا وتعاوننا وستخصب ترتبه لا محالة في انتظار هزم تلك المثبطات. لا أستطيع أن أتكهن بأي موقف / مواقف سيكون لنخب الغد الذين سيترعرعون في مناخ عولمة متصاعدة. مع تداخل للمصالح متسارعة، وشبه زوال للحدود بين اللغات والثقافات، ينجم عنها انبثاق هويات تنهض على هويات. لكني أومن أومن بأن حقول وأدوات التعليم والتربية والثقافة في بلدان المنطقة، وأبعد منها هي، المؤهلة لتجديد الروابط، والبرهنة على جدوى التعاون وأشكال الاتحاد، بمراعاة الخصوصيات والخطط القطرية، وهنا يلعب الكتاب والنخبة المثقفة بتعدد روافدها وتنوع بدائلها، دورا حاسما. وأومن بحكم انتمائي إلى جيل مخضرم: وطني وديمقراطي فعل الدولة الوطنية وبرنامجها، والمرتبط أيضا بالآصرة القومية، من ضرعها تغذى ونما، أن هذا الجيل يبقى مشدودا إلى حلمه إلى حنينه والانتماء إلى الأمة الواسعة والخريطة الكبيرة، مجال التعاون والتفتح الأكبر هو طموحه ويقع المشروع المغاربي في صلب هويته وبه سيتجدد ويغتني لا محالة.