ثري بتجربة تفوق نصف قرن، لا يبدو عبد الله العروي مثاليا بل هل كان كذلك في يوم من الأيام؟ إنه يلقي على الأشياء نظرة بعيدة، وباعترافه هو نفسه، لا يرضخ أبدا لإغراء التلقائية. هذا معناه أن كلماته ثمينة نادرة ومفكر فيها، فهي تنير المغرب و المغرب العربي بضوء بارد، دون انفعال .هذا لأن العروي هو ربما الأكثر «مكيافيلية» من بين مؤرخينا. نشعر بالحضور الكبير في خطابه وبوعي حاد، للتعلق بمصلحة الدولة. وهو الوعي الحاضر أيضا، في نزوعه إلى وضع الملك في تعارض مع النخبة ومع الشعب... كما أن تصوره للمغرب العربي بعيد تماما عن أية رومانسية وحدوية. فمغرب الشعوب، بالنسبة له، ببساطة لا وجود له: ففكرة المغرب العربي لم تظهر إلا عند نخبة صغيرة ولا تتطابق مع أي واقع سوسيولوجي. لقد تغير العروي. فمنذ خمسين عاما وهو يتجول ببصره داخل المغرب، ويصفه من خلال الموشور التاريخي. فهاهو تواضع جديد يحرك هذا العالم الكبير. و هو يعترف بذلك بنفسه: معرفة الماضي لا تتيح استباق المستقبل، بل فقط القبض على الحاضر. هذا الحاضر الذي يحلله العروي دائما من خلال منظور الملكية. من العسير عليه أن يساند شباب 20 فبراير. فهم بالنسبة له ليسوا إلا الظاهرة المرئية لتغيير لا يمكن أن يأتي إلا من الفوق. فإذا ما فهمنا العروي جيدا ،فإن الملكية المغربية هي القوة الحقيقية للتغيير كما أن المغرب العربي، كما نحلم به، ليس إلا وهما بعيدا وغير مضمون. مؤرخ جذور الوطنية المغربية، مؤرخ المغرب العربي، مؤرخ الملكية، يمثل العروي كل هذا و أكثر. هذا الهرم السامق ينزل اليوم من عليائه ليتقاسم معنا نظرته للمغرب و للمغرب العربي، من الأمس إلى اليوم. مجلة «زمان» الرصينة أجرت حوارا مطولا مع عميد المؤرخين المغاربة عبد الله العروي أشرف عليه ثلاثة من المتخصصين هم الأساتذة سليمان بن الشيخ و مصطفى بوعزيز والمعطي مونجيب، و لأهمية الحوار نقتبس منه بعض الفقرات المهمة ونترجمها لقراء اللغة العربية. حول سؤال عن مدى إيمانه بوحدة المغرب العربي و عن ظروف كتابه «تاريخ المغرب العربي» عوض تاريخ المغرب قال عبد الله العروي : «السبب بسيط. فقد كنت أعطي درسا في إحدى الجامعات الأمريكية حول تاريخ المغرب العربي، وقد كانت الجامعة هي التي تريد أن نتحدث عن جهات (أوربا، إفريقيا، أمريكا الجنوبية...) عوض الحديث عن بلد بالتخصيص. لذلك فإن تخصيص المغرب العربي بدرس كان في حد ذاته تقدما، لأن ذلك كان تمييزا لها عن باقي الشرق الأوسط. بيد أن كل هذه الوحدات التاريخية هي نتيجة للتاريخ.. ثم يأتي المؤرخون و المحللون بعد ذلك بكثير يريدون التأكيد على أن هذه الوحدات لم تكن ثمرة الصدفة بل كانت ضرورية و لا محيد عنها. وهو أمر مغلوط تماما. فكثير من الوحدات السياسية، رغم المشترك الجغرافي والإثني واللغوي، هي ناتجة عن الضرورة والصدفة. لماذا كانت غرونوبل فرنسية و ليست جنيف كذلك؟ ولماذا ليل وليست لييج كذلك؟ في ما يتعلق بالمغرب العربي، نحب الاعتقاد بأن وحدته تجد أساسها في الجغرافيا، بيد أن هذا ليس صحيحا، فحين يتوحد إقليمان فلأن هناك عناصر مشتركة (الأصل واللغة والدين والثقافة..) لكن هذا غير كاف، إذ يحتاج الأمر إلى إرادة سياسية، إرادة رجل أو حزب، تستند إلى إيديولوجيا قوية ومعبئة. وحتى حين تحدث هذه الوحدة، فإنها تظل هشة كما رأينا ذلك في الاتحاد السوفياتي وفي يوغوسلافيا.....» وحول إرادة الامبراطوريات في فرض وحدة معينة في عصر من العصور التاريخية وحول تغير المجال الترابي لهذه الكيانات يقول العروي : «...ينبغي التذكير هنا بأمر تاريخي مهم. فقد يحدث أن سلطة جديدة، رغبة منها في إرساء شرعيتها، تسعى إلى إحياء وحدة تفتتت. هذا ما حاوله السعديون مثلا. فقد أرادوا إعادة بناء الامبراطورية الموحدية، لكن في إطار جغرافي مختلف. لم يكن بإمكانهم ضم الأندلس، التي ضاعت نهائيا، ولا الشرق المغاربي الذي سقط في أيدي العثمانيين. لهذا توجهوا نحو الصحراء. « وفي موضع آخر من الحوار يواصل العروي تحليله لنظريته هاته بالقول :» لنقل مرة أخرى، أن وحدة المغرب العربي لا تجد أسبابها في الجغرافيا و لا في التاريخ. هذه إمكانية، هذا طرح من بين طروحات أخرى. فالوحدة لا تصبح هدفا معقولا إلا إذا اقتنع القادة والشعوب بفائدتها لعيشهم أولا و لرفاههم ثانيا. يمكننا طرح السؤال بطريقة أخرى. هل عرفت المنطقة في الماضي دولا مهيكلة ذات إقليم محدد بحدود تتطابق مع الحدود الحالية لدول المغرب العربي؟ الجواب هو لا، لقد كانت دائما مناطق ذات وضع مبهم تدخل حسب الظروف في هذه المجموعة أو تلك... ففي القرن السابع عشر مثلا كان الأوربيون يتحدثون عن الامبراطورية الشريفية كناية عن المغرب ، لكنهم كانوا يتحدثون أيضا عن مملكة مراكش وعن مملكة تافيلالت وعن مملكة فاس لأن الامبراطورية الشريفية كانت في الواقع مجموعة غير متجانسة تتشكل من ثلاث ممالك تعترف بسلطة مركزية واحدة. وعلى عكس المرابطين والموحدين لم يحفل المرينيون بالصحراء. فالدولة المرينية كانت في الواقع ذات رأسين، عاصمتاها كانتا هما فاس وتلمسان. خذوا خارطة وارسموا حدود هذه الدولة وتخيلوا الباقي. ستكتشفون مغربا عربيا آخر مختلفا عن المغرب العربي الحالي. وللعودة إلى العصر الحالي، نجد أن إعادة رسم المجال المغاربي، في رأيي هي إحدى الصعوبات التي نواجهها اليوم... في زمن الأمية تكون الأسطورة ملكة ثمة فكرة مركزية يدافع عنها الدكتور عبد الله العروي في هذا الحوار، هي ضرورة تنسيب الأحكام بين الأمس واليوم. وأنه إذا كان هو متصالحا مع فكرة المغرب العربي ومع فكرة العروبة، فلأنه من جيل تكون وعيه من خلال فكرة العروبة ضد الإمبريالية. لكن العالم تغير، والفرد المغربي اليوم تغير، وأنه أصبح مغربيا أكثر وأن معنى العربي أو حتى المغاربي لا يعني له الكثير. وإذا كان هو حين يسافر من قبل إلى المشرق يجد نفسه متصالحا مع روح البلد، فلأن الثقافة العامة كانت واحدة حينها، ومن هنا رهانه على اللغة العربية كأداة لتكوين الفرد. وأن إصداره لكتابه عن المغرب العربي سنة 1969، قد كان بدافع من المعنى الذي كان للمغرب العربي حينها. ومما يثير في ملاحظاته وأجوبته، تأكيده أن تعميم التعليم وتقليص الأمية قد كان سببا في بروز الوعي القومي الوطني أكثر، أي الوعي المغربي المغربي. حيث قال: «تأملوا معي هذا المعطى البسيط: هل ستكون لنا نفس الرؤية حول الذات والآخرين في نفس البلد حين تكون نسبة الأمية فيه قد تقلصت من 70 بالمئة إلى 30 بالمئة؟. ففي الحالة الأولى التي يكون فيها البلد مستقرا موحدا متناغما. وأن فكرة الوحدة مع شعوب أخرى تكون منتشرة أكثر. إن ذلك التطور هو السبب من وجهة نظري المتواضعة، في ذبول فكرة القومية العربية. علينا الانتباه إلى أن الفلامانيين حين كانوا أقل تعليما كانوا يعلنون بسرعة أنهم بلجيكيون. فمع التعليم يستوعب الناس خصوصياتهم أكثر، ويعتبرون أنهم يعيدون اكتشاف هويتهم. ففي زمن الأمية تكون الأسطورة ملكة. وفي القرون الوسطى لم يكن الأوربيون يستشعرون أنهم أوربيون، بل كانوا يستشعرون أنهم مسيحيون لأن الانتماء المسيحي حينها كان ثقافتهم الوحيدة. وحين يقال لي إن فكرة المغرب العربي شعبية أتساءل في أي وسط؟، ليس لأننا نمتلك تداخلا علائقيا متواصلا على امتداد 30 كيلومترا من الجهتين أو أننا نملك تصورا واضحا عن المستقبل.». مؤكدا أن تحقق الدولة القومية هو الذي أعلى من الوعي الوطني المحلي. وفي الإطار المغربي الجزائري، فإن المثير أن حرب 1963 كانت سببا في تعزيز ذلك، حيث أكد العروي قائلا: «إن الأمر مرتبط بما تحقق في الواقع. فبعد الاستقلالات رأينا كيف تكونت الدول القومية. ولقد انطلق بالنسبة لنا الأمر منذ حرب 1963 بين المغرب والجزائر. فقد كان بنبلة يتحدث كجزائري وكان الحسن الثاني يتكلم كمغربي وكل واحد منهما قد جمع خلفه غالبية الشعب وأيضا النخب». موقف بنبركة من حرب الرمال ومعنى المغربي.. وحول موقف الشهيد المهدي بنبركة من تلك الحرب الذي أعلنه، كونه ضد أن يتحارب المغرب والجزائر، أجاب «إن أسئلة مثل هذه لا معنى لها اليوم» معتبرا أنه لو قال ذلك داخل المغرب لكن للأمر وقع آخر، معتبرا أننا نرى اليوم معلقين يدعون التخصص في عدد من الفضائيات يتحدثون من عواصم أوربية يعتبرون أن المغرب العربي وحدة قائمة. بينما الحقيقة بالنسبة للعروي هي « أنه أصبح صعبا أكثر أن يقتنع المغربي أنه عربي فقط. بل وأنه أيضا مغاربي فقط. «أنا أستطيع قول ذلك - يقول العروي- كان بإمكاني الذهاب إلى القاهرة فأجد أناسا يفكرون مثلي ويمزحون مثلي بذات الشكل واللغة والتصور. اليوم ليس الأمر كذلك. كنا محكومين بتكويننا الثقافي وفهمنا للتاريخ وحتمية الاقتصاد. أما اليوم فإن الشق النفسي ضاغط»، مضيفا في ما يشبه الاحتجاج الفكري للمفكر والعالم المؤرخ: «لا تنظروا إلي فقط كمؤلف لكتاب حول المغرب العربي كتب سنة 1969. لقد تغير العالم منذ 40 سنة. وأنا ملزم باستحضار ذلك، دون التفريط في قناعاتي، خاصة مع التحول الذي أنضجته حقيقة الدولة القطرية. لقد تربيت سياسيا ضمن الإطار الوطني الذي كان يتحدد من خلال الخصومة مع الإمبريالية. لكن التحول الكبير كان هو المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء، الذي أبان أن كل المغاربة رغم وربما بسبب ربما نسبة الأمية المرتفعة بينهم، لهم حس وطني مغربي عال جدا. منظرو الحماية وليوطي في مقدمتهم فهموا ذلك جيدا. ولقد شرح لوي فروفانسال ذلك من خلال التأكيد على أن التواجد العثماني في الشمال الإفريقي هو الذي جعل المغاربة ينتبهون لخصوصيتهم أكثر. وأن ما نسميه المخزن قد تكون حينها وفي تلك الظروف. فكلما كانت هناك مخاطر أزمة كلما تقوى المخزن أكثر.». قال العروي« ليست القبيلة هي التي تصنع التاريخ إيجابيا ، لكنها قد تصنعه سلبيا » في موازاة علمية بين علوم الفيزياء والتاريخ، بما يفيد أن «الجمود له أيضا أثر» في الفيزياء وفي التاريخ أيضا. وأضاف العروي،« لقد رأينا ذلك مع شباب 20 فبراير ، فليسوا هم الذين كتبوا الدستور الجديد ، الذي سيكون الوثيقة الوحيدة التي سيقرأها المؤرخون في المستقبل.» وفسر العروي كلامه بالقول« لقد سجل مؤرخو الثورة الفرنسية دور الحشود ومجموعات الاحياء الخ، لكنهم ينكبون أساسا على عمل المجلس التأسيسي، لأن هاته تركت أطنانا من الوثائق ، في حين أن الحشود تحدثت وذهب كلامها مع رياح التاريخ». وبخصوص دور القبيلة والمخزن والزاوية ، قال العروي إن«المخزن هو الذي كان دوما يبادر . فالمخزن هو الذي ينظم الحركات ، والقبائل تنتظر قدومه إليها وهي لا تود سوى شيء واحد هو أن يعبر طريقه» وهو ما أدى في نظر المؤرخ إلى نوع« من التاريخ الراكد أو الدائري». وبخصوص المغرب الكبير، وما يعرفه من حركية شبابية ونسائية وإسلاموية ، وما إذاكانت هذه الحركة قادرة أن تتجاوز مغرب الدولة، ببنائه من الاسفل، قال العروي إنه شخصيا« يستحيل عليه أن يضع نفسه في منطق غير منطق الدولة، باعتبار تكوينه وميوله الطبيعي .وقال «لم اكن ابدا عفويا، وحتى وأنا طالب دافعت عن هذه الاطروحة ضد من دافعوا عن افكار وطريقة عمل روزا لوكسمبورغ اساسا». واعتبر العرو ي ان الحركات الحالية ما هي الا « رد فعل على مواعيد ضائعة ولا سيما موعد الدمقرطة التي تعتبر ضرورة تاريخية « وبخصوص المغرب، قال صاحب الايديولوجيا العربية المعاصرة« هناك نوع من الديالكتيك وقد اعطت نتائجها، وأن التمدين ومحو الامية حققا تطورات مهمة، وكانت النتيجة الحتمية لذلك ميلاد وتطور الحركات النسائية والهوياتية الخ. وهي دينامية لن تتوقف ابدا». وفي أول رد فعل من نوعه ، على بناء المغرب الكبير، قال ان هناك «خطرا بالنسبة لنا كمغاربة أن تذوب مكاسبنا في المغرب الموحد الذي يطلبه الكثيرون بدون أن يروا عواقبه،» وهي العواقب التي قد تؤدي الى نوع «من التنميط في مستوى واحد من الاسفل». وقال العروي في هذا الباب ، لست ضد المغرب الكبير ، لكن « ارى أن من كوابح المغرب الكبير أن خطابات الوحدة الوحيدة تأتي من المغرب، ولا يجب أن ننسى ان بين المغرب والجزائر 30 سنة من سوء الفهم، وليس بين الدولتين فقط بل حتى المجتمعين». واعتبر المغرب الكبير امكانية بعيدة ، مضيفا لا بد من «أن يقبل عموم المغرب الكبير التوجه نحو فصل السياسي عن الديني الذي تحدثت عنه. واذا رفض الاخرون ان يكون لهم ملك، فليكن لهم على الاقل سلطة دينية لا اعتراض عليها». وفي قراءة الحركات الاسلامية وحكومة بن كيران قال «لا ارى أي شيء اسلامي في حكومة بن كيران التي تعتبر نتيحة تحالف ، وقال العروي «لقد ارتكبنا نفس الخطأ مع اليوسفي حيث نسينا أن الامر يتعلق ايضا بتحالف. وقال علينا محاكمة الحكومة على ما تفعله وليس على ما تقوله او على ما قالته في الماضي. وعبر العروي عن اساسه بالمفاجأة بسرعة اتخاذ القرارات في المغرب،وقال عن فترة الحسن الثاني «ليس هناك فعل واحد لم يفاجئني بعدم توقعه..وفجائيته». وبخصوص مغرب اليوم قال« في ما يتعلق بالمغرب، في وضعه الحالي ، انا مقتنع بدور الاستقرار الذي تلعبه للسلطة الملكية، لا سيما أنها تتيح فصل السياسي عن الديني». وبخصوص الملكية البرلمانية قال العروي و رؤذتي هي رؤية ملكية دستورية فعلية(...) على الملك أن يتولى الشؤون الدينيةلتفادي استيلاء طرف اخر عليها وبالتالي التأثيير سلبيا على اللعبة السياسية». وذكر العروي بمقترح سابق له أن «تكون الغرفة الثانية هي غرفة المستشارين الملكيين، وتعوض بذلك مختلف المجالس الاستشارية» وكان الهدف منها تقوية الغرفة الاولى التي ستناقش »كل شيء باستثناء الشؤون الدينية والجهوية». و عن سؤال« يبدو أنكم تفكرون أن الملكية عامل التغيير الوحيد وأنها متقدمة على المجتمع، اجاب المؤرخ« الامر ليس خطأ اذا ما نظرنا الى اغلبية الشعب وليس الاقلية المسيسة» مضيفا أن «خطب الملك لا تفهم جيدا من طرف الشعب ومن طرف جزءكبير من النخبة.» و تساءل العروي « لماذا تختار الملكية اليوم نفس الاختيارات التي كانت في العهد السابق، في حين حاولت في البداية ان تبتعد عنها». واجاب«ببساطة لانها وجدت عراقيل من طرف المجتمع الذي اجبرها على استعادة نفس الوصفات التي أبانت عن مفعولها وتم القبول بها».