لعيد العرش بالمغرب قصة. وهي قصة ارتبطت دوما بسؤال السياسة وحساباتها كخيارات في التدبير منذ قرن من الزمان، أي منذ إعلان وتنفيذ الحماية على المغرب، وتقسيمه بين الإستعمار الإسباني في الشمال والجنوب، والإستعمار الفرنسي في الوسط والإستعمار الدولي في طنجة. وبالمقارنة بين أعياد مماثلة في مختلف ملكيات العالم، سنجد أن قصة ما يصطلح عليه ب «عيد الجلوس»، تختلف من حيث معاني الإحتفال من ثقافة سياسية إلى ثقافة سياسية أخرى. ففي الملكيات الأروبية، عموما، هو احتفال بروتوكولي عائلي، ما عدا في إنجلترا الذي هو احتفال وطني عمومي، بسبب الخصوصية التاريخية، للنظام السياسي البريطاني، الذي يجعل الجالس على العرش (رجلا أو امرأة)، قائدا أعلى رمزيا للأمة. وأن الإحتفال بعيد جلوسه على العرش، هو احتفال عمومي شعبي بالملكية كمؤسسة عريقة هناك. ومؤخرا تم احتفال رسمي وشعبي بالذكرى 60 لجلوس الملكة إليزابيث على العرش، الذي يصادف يوم 6 فبراير من كل عام. وركزت الإحتفالات على أنها ثاني أطول ملكة تجلس على عرش بريطانيا، بعد الملكة فيكتوريا، التي حكمت بريطانيا العظمى 63 سنة كاملة. فيما الملكيات العربية، لا يحتفل أغلبها بعيد الجلوس، خاصة في دول الخليج (وفي المقدمة منها السعودية)، ويقتصر الإحتفال بهذا العيد على المغرب والأردن. لكن الإختلاف بين هذا العيد في عمان وفي الرباط، هو على قدر اختلاف السياقات السياسية والتاريخية لميلاد الإحتفالية هذه. بالتالي فلا تشابه بينهما بالمرة. عيد العرش بالمغرب، ولد كقرار سياسي للحركة الوطنية المغربية. وهذه ميزته الكبرى، أنه ترجمان لفعل سياسي وطني مغربي مقاوم للإستعمار وخططه. بل وأنه ترجمان لتحول في الوعي السياسي للمغاربة، بمعناه المديني المنظم، التراكمي، الذي يبني للفكرة الوطنية في أذهان المغاربة بتواتر المناسبات العمومية المتعددة. وكانت مناسبة عيد العرش واحدة منها، حينها، تترجم خيارات ومواقف مغربية لها معناها السياسي الواضح. بل إن إقرار الإحتفال بهذا العيد، كان ترجمانا لشكل جديد في معنى الدولة لدى النخبة المغربية حينها. الدولة في وحدتها الجغرافية وأيضا في وحدتها السياسية من خلال ما يرمز إليه الجالس على العرش من عنوان للسيادة. وهو القرار السياسي الذي جاء ليرد على مخططات استعمارية فرنسية بالأساس، كانت تهدف إلى تقويض الوجود الدولتي القائم بالمغرب، من خلال محاولة فرض قوانين تنظيمية، تلحق المغربي بالفضاء السيادي الفرنسي، تماما مثلما كان عليه الحال بالجزائر. لأن حلم باريس التاريخي الأعظم، منذ عهد نابليون بونابارت، هو تحويل المتوسط إلى فضاء سيادي فرنسي، اقتصاديا، عسكريا، ثقافيا وسياسيا. ومنذ فشلت محاولات فرنسا المتعددة في مصر، إلى حدود معركة فاشودا ضد الإنجليز في الجنوب السوداني سنة 1898، أصبح الرهان على الشمال الإفريقي وعلى العمق الصحراوي لمنطقة الساحل، من السنغال وبلاد شنقيط، حتى التشاد وبحيرة النيجر الشهيرة والغنية، رهانا استراتيجيا لدى أصحاب القرار السياسي الفرنسي، المسنود بنزوع قومي عسكري متشدد. بالتالي، فإن الخطة الخاصة بالمغرب، كانت خطة متدرجة، منذ نهايات القرن 19، بسبب أنها محكومة بتوازنات جيو- ستراتيجية مع قوى استعمارية أروبية أخرى وازنة، هي إنجلترا أولا وألمانيا ثانيا وإسبانيا ثالثا. وبعد النجاح في الفوز ب «صفقة المغرب» بالإتفاق مع لندن سنة 1904، والإتفاق مع ألمانيا سنة 1911، وترجمة ذلك من خلال فرض الحماية يوم 30 مارس 1912، المحكومة باتفاقيات مؤتمر الجزيرة الخضراء حول القضية المغربية سنة 1906. جاءت مرحلة التدبير السياسي الفرنسي، التي زاوجت بين الشق العسكري لما عرف بعمليات «التهدئة»، أي تطويع مناطق المغرب المقاومة بقوة السلاح، وهذه معركة استمرت حتى سنة 1935. وبين الشق المدني التنظيمي الإداري والقانوني للفضاء المغربي في شقه التابع لفرنسا. وفي خضم هذا الشق المدني، سيصدر الظهير الشهير باسم «الظهير البربري» (اسمه الكامل: «الظهير المنظم لسير العدالة في المناطق ذات الأعراف البربرية»)، يوم 16 ماي 1930، الذي كان يهدف إلى جعل الإطار القانوني للتقاضي في المغرب مقسما إلى إطار قضائي عدلي مخزني في كبريات المدن وفي السهول، وإطار قضائي للعرف مستقل في المناطق الأمازيغية. وهو الأمر التي رأت فيه النخبة الجنينية الأولى للحركة الوطنية المغربية، محاولة لترسيخ الفرقة بين أبناء البلد الواحد، من خلال ترسيم فعلي لما يعرف ببلاد السيبة وبلاد المخزن، وأن الغاية هي ضرب هذا بذاك في الأمد البعيد. بل هناك من ذهب إلى أن الغاية هي نوع من «تنصير» جزء من المغاربة في أفق استيطاني فرنسي. المهم، مهما كانت التأويلات، فإن الإتفاق قد تحقق على رفض هذا الظهير، الذي كان السبب لميلاد وبزوغ فكرة «الوطنية» عند كل الشرائح المغربية، وكان المناسبة لبداية تبلور المشروع السياسي الوطني للحركة الوطنية المغربية ولنخبتها الشابة في مدن فاس ومراكش والرباطوتطوانوطنجة ووجدة وتارودانت. وفي خضم هذا التبلور، جاءت فكرة إحياء عيد العرش، سنتين بعد ذلك، أي في نهاية سنة 1932 وبداية سنة 1933. والغاية هي ترسيخ الوحدة الوطنية لبلاد المغرب وأيضا لنظامه السياسي في مواجهة المخطط الفرنسي لدمج المغاربة في المنظومة الإستعمارية الفرنسية، بالخلفية التي حددنا بعض ملامحها فوق (المشروع الفرنسي في كل الشمال الإفريقي الغربي، من بحيرة النيجر حتى نهر السينغال ومن السودان الغربية، أي مالي الحالية، حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط). من هنا الحماسة الوطنية التي ولد في إطارها هذا العيد بالمغرب. فتكونت لجنة مغربية وطنية في فاس، تضم أقطاب السلفية الوطنية المغربية المتنورة، وفريق الشبان الجدد للفعل السياسي المغربي المديني، وتقدمت بطلب رسمي، قدمه المؤرخ والفقيه عبد الرحمان بن محمد بن زيدان، باسم تلك اللجنة إلى سلطات الحماية لإقرار عيد الجلوس (عيد العرش) عيدا قوميا وطنيا للمغاربة. فتمت الإستجابة للطلب يوم 31 أكتوبر 1934، بتوقيع مشترك للمقيم العام الفرنسي هنري بونصو، والصدر الأعظم للحكومة الشريفية محمد المقري، وصدر ذلك القرار رسميا في الجريدة الرسمية يوم 2 نونبر 1934، وحدد فيه أن يوم إحياء عيد العرش من قبل المغاربة، هو يوم 18 نونبر من كل عام، أي اليوم الذي اعتلى فيه الملك الوطني محمد الخامس العرش بعد وفاة والده مولاي يوسف، سنة 1927. أي أن الإحتفال بعيد العرش عمليا لم يبدأ سوى 7 سنوات بعد اعتلاء هذا الملك (كان حينها لا يزال سلطانا)، العرش. باستحضار لهذه السياقات التاريخية والسياسية الخاصة بالتاريخ المعاصر والحديث للمغرب، يمكن إلى اليوم، تقسيم تاريخ عيد العرش في المغرب إلى 3 مراحل كبرى: مرحلة المعنى الوطني في عهد الإستعمار. مرحلة المعنى المخزني في عهد الملك الراحل الحسن الثاني. مرحلة المعنى المؤسساتي في عهد الملك محمد السادس. فلقد ولد الإحتفال بعيد العرش، كما قلنا في بداية الثلاثينات من القرن 20 بالمغرب، ضمن سياق تطور سياسي للحركة الوطنية المغربية، بالتنسيق مع الجالس على العرش، الملك الشاب حينها محمد الخامس. وقد كانت نخبة سياسية مدينية جديدة بدأت تعلن عن نفسها في كبريات مدن المغرب. وكانت ميزتها أنها خرجت من جبة السلفية المغربية المتنورة، العقلانية والوطنية، وبدأت تبلور أشكال فعل سياسي مديني منظم، منذ بداية الثلاثينات. وتبلورت صيغ نضالية سياسية سلمية، بلغت أوجها مع صدور ميثاق كتلة العمل الوطني سنة 1937. ومع توالي سنوات التأطير السياسي للمغاربة ضمن المنظومة الوطنية للتحرير والإستقلال، أصبح عيد العرش حينها الفرصة الكبرى الرسمية لإعلان السيادة المغربية والتعبير عن الحق في الحرية من خلال احتفالات عمومية. ولقد بلغت هذه المطالب دروتها في سنة 1952، في الذكرى الفضية لعيد العرش، حيث أصبح الإحتفال بالعيد حينها مجالا لمواجهات مفتوحة قوية مع المستعمر. ولعل أهم لحظات المواجهة قد سجلت في الدارالبيضاء، التي أعلن في احتفالها قرب بناية المعرض الدولي، عن البعد المغاربي للمغرب وعلقت رايات شعوب المغرب العربي ومصر، وتم إحضار وفد صحفي من أمريكا اللاتينية بشكل سري لتسجيل مدى صلابة الموقف الشعبي المغربي المطالب بالحرية والإستقلال. وكان المهندس الكبير لهذا الحفل هو الشهيد محمد الزرقطوني، الذي سيدخل السرية مباشرة بعد تنظيمه لذلك الحفل الفضي الضخم لعيد العرش، ولن تعتر عليه سلطات الإحتلال سوى يوم 18 يونيو 1954، وهو يوم استشهاده رحمه الله. وكذا في مدينة تطوان، للرمزية الخاصة لتلك الإحتفالية، رسالة أن المغرب واحد سواء في الشق الذي تحتله فرنسا أو في الشق الذي تحتله إسبانيا. ولقد واجهت السلطات الإسبانية تلك الإحتفالية بقمع شديد، عكسته جريدة «الأمة» التابعة للحزب الوطني بالشمال بزعامة عبد الخالق الطريس، وهي الجريدة التي جاءت بعد الجريدة الأشهر هناك، والتي منعت من قبل، جريدة «الحياة»، التابعة لنفس الحزب. بل إن الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، سيؤكد لنا، مؤخرا، حين إعطاءه تفاصيل عن قصة تأسيسه فريق الإتحاد البيضاوي بالحي المحمدي في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، أن إنشاء مسابقة عيد العرش لكرة القدم هو قرار للحركة الوطنية المغربية، مما يعزز هذا اليقين أن ميلاد عيد العرش هو مشروع وطني سياسي ضمن مخطط نضالي لمقاومة الإستعمار ونيل الحرية والإستقلال. لقد قال لنا الأستاذ اليوسفي بالحرف: «الرياضة كانت واجهة للتأطير الوطني وشحد همم الشباب لجعلهم ينخرطون في المعركة من أجل الإستقلال. علما أنني كنت عضوا بالعصبة المغربية لكرة القدم التي أسسناها ضدا على العصبة الفرنسية للمستعمر، كان الرئيس هو الوطني عبد السلام بناني وكنت أنا الكاتب العام. ونحن الذين أسسنا مسابقة كأس العرش واخترنا مباراة النهاية أن تكون يوم 18 نونبر من كل عام، الذي كان يصادف ذكرى عيد العرش. وابتدأنا ذلك في موسم 1946/ 1947. وكانت البداية بفرق الأحياء بالدارالبيضاء، ثم توسعت لتشمل فرقا وطنية أخرى من مختلف المدن المغربية». بالتالي، فإن تلك الإحتفالية الشعبية والرسمية بعيد العرش في المغرب، كانت فرصة لتعزيز اصطفاف العرش مع الشعب في ما أصبح يحمل صفة «ثورة الملك والشعب». وبهذا المعنى كان هذا العيد له معنى العيد الوطني للمغاربة. في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، أي منذ السنوات الأولى للإستقلال، بدأ يتبلور منطق جديد لممارسة الحكم والسلطة. حيث كان للمرحوم الحسن الثاني، منطقه الخاص في تدبير أمور الدولة، المتأسس على إعادة بنينة طقوس المخزن القديمة، بكل ما جره عليه من معارضة وانتقاد. وأصبح عيد العرش، ضمن منطق هذا التقاطب السياسي الصدامي، بين مشروعين لإعادة بنينة الدولة والمجتمع المغربيين، مناسبة للولاء لشخص الملك بالمعنى المخزني الكلاسيكي. أي أن الغاية اختلفت بين أسباب الإحتفالية السابقة والأسباب السياسية للإحتفالية الجديدة. ولهذا السبب كان هذا العيد مناسبة للدولة لتأكيد الشرعية الرمزية والسيادية للجالس على العرش، التي كانت موضوع تنازع من قبل مشاريع سياسية أخرى في المجتمع، تنتصر للشرعية الشعبية الديمقراطية. من هنا، ذلك الحرص على تعظيم الطقوس المخزنية لهذا العيد الوطني المغربي في عهد الملك الراحل، لأن الصراع كان أيضا صراع معان ورمزيات وسلوك. ومع توالي السنوات، أصبح يوم 3 مارس، تاريخ جلوس الملك الراحل الحسن الثاني على العرش بعد وفاة والده الملك الوطني محمد الخامس في العاشر من رمضان من سنة 1961، أصبح عيد العرش مناسبة لقياس درجة الإصطفاف ضمن مشروع تجديد المخزن القديم من عدمه. من هنا ذلك التسابق في التعبير عن الولاء في ذلك اليوم والأيام التي تسبقه وتليه. ومن هنا تلك الهالة التي ظلت تصاحبه على كافة المستويات في المدراس والعمالات والتلفزيون، بما يصاحب ذلك من ما كان يطلق عليه «الأغاني الوطنية». لأن الغاية هي ترسيخ أسلوب تدبير سياسي خاص. وفي المعنى العام، أصبح عيد العرش حينها مع توالي السنوات عيد الدولة أكثر منه عيد المجتمع، عكس ما كان عليه في المرحلة الأولى، أنه كان واحدا من مناسبات التعبير عن أنه عيد الدولة والمجتمع. اليوم، فإن من مجالات تسجيل الإختلاف في أسلوب الحكم منذ تولي الملك محمد السادس السلطة، هو شكل الإحتفال بعيد العرش. والرسالة في هذا المجال كانت واضحة، وهي أن «الأسلوب هو الرجل». لقد اختفت تماما أشكال الإحتفال السابقة وحلت محلها أشكال احتفال مؤسساتية أكثر، تجعل من عيد العرش لحظة لقراءة حصيلة سنة من الحكم. وحتى خطاب العرش أصبح خطابا مفكرا فيه، لا تحكمه اللحظة الزمنية بأحداثها الآنية، بل إنه خطاب يؤسس لقراءة سنة مضت ويستعرض ملامح خطة طريق سنة قادمة. أي أنه نوع من التعاقد السياسي. وتراجعت أشكال الإحتفالية العمومية لتصبح محصورة في شكل أكثر حداثة، يجعل الإحتفالات في ذلك اليوم، ليست مناسبة للتعبير عن الولاء العام (كان مفروضا في ما قبل لأسباب لها ظروفها التاريخية والسياسية)، بل مناسبة رسمية لخصوصية مغربية كدولة. وأصبح الهم هما مؤسساتيا، عقلانيا وحداثيا أكثر، ليس فيه منطق الإكراه السابق، بقدر ما فيه منطق القراءة لحصيلة عمل سنة في طريق تحديات التنمية المفتوحة. وأصبح عيد العرش اللحظة السياسية الأسمى على مدار السنة، التي يمارس فيها الملك الدور الثلاثي لرئيس الدولة وأمير المؤمنين والقائد الأعلى للجيش في الآن نفسه، لأنه يخاطب الأمة حول التراكم في الخطة الإستراتيجية لتنمية الدولة والمجتمع. وهنا أصبح لعيد العرش معنى مؤسساتي.