حيفا مدينة يشهد كل من زارها بأنها من أجمل مدن الدنيا ، كونها تقوم على سفح جبل يطلّ مباشرة على البحر الأبيض المتوسط دون أن يفصلهما سهل ساحلي ، بحيث تطلّ على البحر أينما كنت . في هذه المدينة ولد الدبلوماسي الإعلامي الكاتب واصف منصور ، وبعد أقلّ من ثلاث سنوات طرده الصهاينة رفقة أسرته وأكثر من نصف شعبه الفلسطيني ليصبحوا لاجئين . . أي مجموعة من البشر لا تملك مأكلا ولا ملبسا ولا مأوى . ويصمدوا لكل ذلك ويفجّروا أطول ثورة عرفها التاريخ . عاش واصف منصورحقبة اللجوء كاملة ، العيش في العراء ثم في الخيام ثم في بيوت أشبه بالقبور ، ويحدّثنا عنها بأدق التفاصيل . وعاش حقبة الثورة كمناضل سياسي وإعلامي وعسكري على مختلف الساحات ، ويحدّثنا عن دروبها ودهاليزها . وبما أن القدر ساقه إلى المغرب حيث قضى فيه ضعف ما قضى في فلسطين ، طالبا جامعيا ومدرّسا ومناضلا طاف كل نواحي المغرب مبشّرا بقضيته ، والتقى ورافق غالبية رجال ونساء السياسة والفكر والأدب والفن والإعلام المغاربة . في هذه الحلقات يحدّثنا فيما يشبه التقارير المفصلة عن حياة المغرب السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية على مدار سبع وأربعين سنة .. هذه الحلقات التي ستتحوّل لاحقا مع إضافات وتنقيحات إلى كتاب سيصدر قبل نهاية هذه السنة إن شاء الله . كان من بين الجماعة التي تضمّنا شاب من الدار البيضاء أمازيغي الأصل من بلدة منتاكة بمنطقة تافراوت أسمه العربي مزّور، وكان شابا رياضي الجسم ، لا يدخن ولا يشرب الخمر. وبسبب كون والده من العمال المغاربة في فرنسا ، فإنه كان دائما يلبس ملابس فرنسية أنيقة ، وكان دائما ممتليء الجيوب ، وكان شهما كريما شجاعا وشعبي الطباع . ربطتني به صداقة توطدت مع الأيام ، حتى أصبحنا لا نفترق أبدا . وكنت أذهب معه في بعض نهايات الأسبوع وفي العطلات إلى الدار البيضاء ، حيث يوجد له بعض الأقارب في حي ( الدرب الكبير ) والكثير من الأصدقاء في واحد من أعرق وأقدم أحياء الدارالبيضاء ويسمى (حي درب السلطان ) وبالذات في أحد دروبه المسمى ( درب بوشنتوف ) ، الذي يضرب المثل بشعبيته وشكيمة أهله ، إضافة إلى كونه درب المناضلين ورجال المقاومة ضد الفرنسيين أيام الحماية الفرنسية ، بحيث أن شارعه الرئيسي يسمى شارع الفداء . كان العربي ومعظم أصدقائه من مشجعي فريق الرجاء البيضاوي لكرة القدم الذي يتقاسم مع فريق الوداد البيضاوي جماهير الدار البيضاء ، رغم وجود فرق أخرى عريقة وقوية في المدينة مثل فريق الإتحاد البيضاوي وفريق النهضة البيضاوية وفريق نجم الشباب البيضاوي وغيرها . من هنا أصبحت من محبي فريق الرجاء ، دون أن يعني ذلك أن أصبح كالعربي واصدقائه معاد لفريق الوداد . وقد تعرّفت على الكثير من لاعبي الرجاء أمثال ميلازو والبيتشو والروبيو وعبد السلام وغيرهم ، وعن هذه الطريق تعرّفت إلى بعض مسؤولي فريق الرجاء الذين توّلوا فيما بعد مسؤوليات حكومية وحزبية ، أمثال المعطي بوعبيد ( وزير أول ) وعبد اللطيف السملالي ( وزير الشبيبة والرياضة ) وعبد الواحد معاش ( امين عام حزب ). وبمناسبة الحديث عن فريق الرجاء أتذكر كيف أنني ذهبت مع الأخ العربي وواحد من كبار مشجعي الرجاء ويعمل حلّاقا ويلقب ( فيروز ) مع بطل المغرب في المصارعة في ذلك الوقت واسمه مصطفى الهبطي ، ذهبنا لحضور مباراة الرجاء مع فريق النهضة بمدينة سطات التي تبعد عن الدار البيضاء بحوالي سبعين كيلومترا . وصادف أن الرجاء انتصرت على النهضة فهجم الجمهور السطاتي على الجمهور الرجاوي ، فما كان منّي إلا أن التصقت بالأخ الهبطي الذي ظل جالسا في مكانه . وصل إلينا أحد المشجعين السطاتيين وصفع مصطفى الهبطي ، فلم يغضب وقال له الله يسامحك واذهب لحال سبيلك . لكن المشجع تمادى وأراد أن يصفعه ثانية ، فأمسك به الهبطي من خصره وحمله ورماه في أرض الملعب ? حيث كنا نجلس على الدرجة الأولى من المدرج . هنا بدأت أفواج من المشجعين تتراكض باتجاهنا ، وأخذ الهبطي يفعل بهم ما فعله بالمشجع الأول ، ونحن نحاول أن ندافع عن أنفسنا إلى أن جاءت الشرطة وفكّت الإشتباك بين الهبطي والجمهور. من طرائف حي درب بوشنتوف أننا ذات ليلة كنا نبيت عند أحد أصدقاء العربي ، وبعد منتصف الليل سمعت صوتا ينادي ( البروج يا أصحاب البروج ) . كنت أعرف أن البروج بلدة تبعد حوالي مئة كيلومتر إلى الجنوب الشرقي من الدار البيضاء ، وتشتهر بأنها تزرع نوعا من النعناع يفضلّه أهل الدارالبيضاء لإعداد الأتاي . فتساءلت بصوت عال : من سيشتري النعناع في هذا الوقت ؟ فما كان من الإخوة الذين كنت معهم إلا أن أخذوا بيدي ونزلنا إلى الشارع . وجدنا رجلا يلبس جلبابا قاتم اللون وطاقية تحجب معظم وجهه ، يدفع أمامه عربة صغيرة خشبية على عجلتين صغيرتين مليئة بالنعناع ، وقالوا لي أنه في الظاهر يبيع نعناع البروج ، ولكنه عمليا يبيع ما تحت النعناع ، وكشفوا عما تحته فإذا به زجاجات من النبيذ الأحمر يسمّيها الشاربون (روج ) نسبة إلى لونها الأحمر. واعتاد الشاربون الذين ينفذ ما لديهم من شراب ولازالوا يرغبون بالمزيد في تلك الساعة التي تكون أماكن بيع الشراب فيها مغلقة ، أن ينتظروا بائع النعناع هذا لأخذ حاجتهم مما تحت نعناع البروج ، بثمن يزيد قليلا عن ثمنه في النهار . وفي هذه الفترة تعرّفت على الأخ الأديب إدريس الخوري ونشأت بيننا صداقة استمرت طويلا ، ولا زلت أذكر أننا في بعض الفترات كنا مفلسين لا نملك إلا القليل القليل من المال ، فكنا نلتقي في حي المعاريف بالدارالبيضاء حيث آتي من دارعمي أبو نزار مشيا على الأقدام من حي لوازيس ، ويأتي هو من حي درب غلّف المجاور للمعاريف . كنا نجلس في إحدى المقاهي ومعنا درهم واحد نطلب برّادا من الأتاي ونشتري نصف علبة من السجائر الرديئة ، ونبقى حتى نشرب البراد وندخن كل السجائر على مدار ساعتين أو ثلاث ، كل ذلك بدرهم واحد ، ونعود أدراجنا لنلتقي في الغد . في صيف عام 1965 أرسل لي الأخ لطفي أبن خالة والدي ، والأخ رستم أحد جيراننا في المخيم شهاداتهم ، طالبين مني تقديمها لوزارة التعليم المغربية ، لعلهما يحصلان على تعيين للعمل كمدرسين في المغرب . وعملا بمقولة والدي ( من يستطيع فعل الخير ولا يفعله فهو مجرم وليس انسانا) ، فقد قدمت طلبيهما ولحسن حظي وحظهما أن الوزارة وافقت على تعيينهما معا في مدرسة واحدة بمدينة الدار البيضاء ، فحضرا واستأجرا معا شقة بوسط المدينة ، مما زاد من قوس تحركي بالدار البيضاء . ونظرا لوجود بعض المدرسين الفلسطينيين من مختلف مناطق فلسطين في المدينة ، تشكّلت شلّة فلسطينية كبيرة تلتقي في العطل المدرسية وفي عطلة نهاية الأسبوع في مقهى الإكسلسيور بساحة محمد الخامس أو مقهى لاشوب ، تمارس الكثير من طقوس الحياة الفلسطينية وتستعيد ذكرياتها في فلسطين وفي المنافي . وكان واحد من الجماعة في كل مرة يؤدي ثمن مشروبات جميع الحاضرين ، في حين أنني لاحظت أن مجاورينا في المقهى يدفع كل واحد منهم ثمن ما يشرب ، وكانت تروقني هذه الطريقة لأنها في نظري أكثرعدلا ومعقولية ، حيث أن بعض إخواننا في جلساتنا المشرقية لم يكن يدفع أو حتى يتظاهر برغبته في دفع حساب المقهى . ومع أن كثيرا منهم كانوا لايزالون عزّابا ، فإنهم يطبخون طبخات فلسطينية ، ويقضون جزءا من ليلهم في لعب الورق . في الجلسات الفلسطينية هذه سمعت قصة ثلاثة فلسطينيين قدموا إلى المغرب عام 1929 في طريقهم من منطقة رام الله الى أمريكا اللاتينية ، وأنزلتهم الباخرة في ميناء برشلونه ولسبب لم نعلمه انقطعت بهم السبل فعبروا البحر ووصلوا إلى المغرب. كان أولهم مسلم من قرية كفر مالك استقر في مدينة طنجة وسماه الناس ( الشامي ) لكونه قادم من بلاد الشام ، وتزوج أمرأة من طنجة وأنجب منها العديد من الأبناء أظهروا نبوغا وإبداعا كبيرين وأصبحوا مغاربة . والثاني وهو مسلم من قرية ترمسعيّا استقر في الرباط وأقام علاقات مع قيادات الحركة الوطنية المغربية مثل المهدي بنبركة والحاج أحمد الشرقاوي والحاج أحمد بلفريج وأطلق عليه الناس اسم ( مولاي احمد الفلسطيني ) . وقد تعرّفت عليه أواخر حياته حيث كان يزورني في مكتب المنظمة ليأخذ نشرة ( صوت الثورة) التي كنا نطبعها بطريقة ستانسيل ثم أصبحنا نطبعها في مطبعة الرسالة لحزب الإستقلال مجانا ، واستمرعلى ذلك رغم فقدانه بصره وإلى أن توفاه الله . . أما الثالث فقد كان مسيحيا من قرية الطيبة ، ولكونه كان مسيحيا احتضنته الكنيسة الفرنسية وعملت على منحه الجنسية الفرنسية ، وعمل ترجمانا مع الفرنسيين فمنحوه مساحة واسعة من الأرض في الضواحي الجنوبية الشرقية للدارالبيضاء . وقد تعرفت عليه وكنت أزوره مع بعض الإخوة الفلسطينيين في بيته بالمزرعة التي كان يزرع فيها الملوخية التي لم نكن نجدها في الأسواق المغربية ، فكان يجود علينا بكميات كبيرة منها ويرجونا أن نزوره ليشمّ فينا « ريحة فلسطين « كما كان يقول ، وتوفي أواخر السبعينات . في إحدى ليالي عطلة نصف السنة ، كنت ورشدي في دارعمي أبو نزار الذي سافر وزوجته إلى مدينة أخرى ، وجاء لطفي ورستم وإخوة آخرون ، وبعد أن تعشّينا لعبنا الورق ، وكان حظ الأخ رستم سيئا للغاية بحيث أنه خسر كل لعباته ، فأقسم أن يعاقب نفسه بالعودة إلى حيث يسكن مشيا على الأقدام . وفي الحقيقة أنه عاقبنا جميعا ، لأننا لن نقبل بإن يعود وحيدا مشيا على الأقدام في الساعة الواحدة صباحا ، فاضطررنا أن نرافقه المسافة التي تفصل بين سكنه ومنزل عمي أبو نزار ، والتي لا تقل عن ستة كيلومترات ، وبالتالي النوم عنده . وفي ليلة أخرى كنت ورشدي عند لطفي ورستم ، وبعد أن تعشّينا ولعبنا الورق ،عدنا إلى بيت عمي أبو نزار وكانت الساعة حوالي الثانية صباحا . بعد أن قطعنا نصف الطريق وصلنا إلى منطقة توجد فيها بعض أشجار الكاليبتوس ( الكينا ) العالية على جانبي الطريق في حي لوازيس . لاحظنا أن هناك أشباحا تبدو لنا من بعيد في ضوء القليل من السيارات المارّة من المنطقة ، ثم ما تلبث أن تختفي . كان تقديرنا أن هؤلاء مجموعة من اللصوص وقاطعي الطريق، وعلينا أن نتصرف بسرعة . فإذا سلكنا طريقا آخر بعيدا عن مكان وقوفهم فإنهم سيلاحظون ذلك ويعتقدون أننا خفنا منهم . وعليه فقد قررنا مواصلة السير وليحصل ما يحصل . وهكذا واصلنا سيرنا وكأنه لا يوجد أحد غيرنا في الطريق ، ولما اقتربنا منهم إنقسموا إلى فريقين على جانبي الطريق . تهامسنا فيما بيننا أن نبقى كما نحن مع الحذر الشديد ، بحيث أننا إذا هوجمنا سندافع عن أنفسنا بأقصى طاقتنا. ظللنا على هذه الحالة إلى أن توسطنا الجماعتين ونحن نتحدث مع بعضنا فيما يشبه الهدوء ، فقلت بصوت خشن عال السلام عليكم ، فردوا جميعا وعليكم السلام ورحمة الله ، وظللنا نسير إلى أن وصلنا البيت ونحن غيرمصدّقين ما حصل . في البيت ناقشنا الأمر وتساءلنا عما جعل الجماعة لا تقترب منا ، وبعد نقاش طويل اتفق رأيانا على أن هناك احتمالين ، أولهما أنهم ليسوا عصابة وإنما جماعة من الشبان لا تجد مكانا تجتمع وتقضي ليلها فيه سوى ذلك الشارع القريب من سكناهم والذي يتمتع بقسط من الإنارة . وإما أنهم عصابة حقا ولكنهم لم يتحرّشوا بنا لسببين ، أولهما إعتقادهم بأن الذي سيمرّمن تلك المنطقة المنزوية في ذلك الوقت المتأخر من الليل لا يمكن إلا أن يكون عصابة مثلهم أو أناس واثقون من أنفسهم . والسبب الثاني كما ارتأينا هو شكلنا الخارجي ، ذلك أنني في تلك الليلة كنت ألبس جلبابا مغربيا صوفيا فضفاضا يظهرني في الظلام من بعيد وأنا طويل القامة نسبيا وكأنني عملاق ليس من الحكمة مهاجمته . وكان رشدي وهو صاحب جسم ممتليء يلبس جاكيتا من الجلد السميك يظهره من بعيد وكأنه مصارع ليس من السليم مهاجمته . ولما كان اللصوص وقطّاع الطرق يهمهم الفوز بالغنيمة دون التعرض للخطر ، فإن مهاجمتنا لن تكون بدون مخاطر . أضف إلى ذلك تصرفنا الحكيم منذ أن رأيناهم إلى أن إجتزناهم . لهذا كله وصلنا إلى البيت دون أي أذى .. دون أن يعني ذلك أننا لم نخف ولم تتوتر أعصابنا .