حلقنا فوق سماء أربيل في الساعة الثالثة إلا ربع من صباح اليوم التالي حسب التوقيت المحلي (بزيادة ساعتين على توقيت المغرب)، أي أن الرحلة استغرقت حوالي إثني عشر ساعة. كانت أمام كل مقعد شاشة يستطيع بواسطتها من أراد، تتبع تفاصيل الرحلة. وظلت الطائرة تحوم دون أن تنزل. نشاهد على الشاشة أنه لم يبق إلا 10 دقائق على هبوط الطائرة، ثم تغير الاتجاه وتقطع مسافة في الاتجاه المعاكس وتعيد الكرة مرة أخرى، ونرى على الشاشة أن التوقيت الذي بقي هو 25 دقيقة. تكرر الأمر عدة مرات. واختفى طاقم الطائرة برمته. ولم نجد من نسأل. نبهتني شامة التي كانت تجلس قربي إلى ذلك، وقالت ضاحكة: «بدينا يا ليلى، هاد الشي غير باقي ما نزلنا..» . ظلت شامة تتبع الأمر باهتمام بالغ، وأنا أحاول التخفيف من قلقها، لكنني في الواقع كنت جد قلقة. تصورت عطبا بالطائرة، ثم تصورت حربا غير معلنة قد تكون في الأجواء. وكنت أنظر إلى الأضواء الموجودة في الأسفل وأتصور حوار الطيار مع برج المراقبة. جالت بذهني جميع الاحتمالات الممكنة، تصورته يتحدث عن جميع أنواع الأعطاب الممكنة، وبدأت أستعد للأسوأ، عندما انطلقت الطائرة في اتجاه مدينة السليمانية، البعيدة عن أربيل بحوالي 170 كلم، والتي تقطعها السيارة في ثلاث ساعات. في تمام الساعة الرابعة صباحا كنا بمطار السليمانية، لا أحد يعرف ما حصل سوى صوت نسائي انبرى من مكبر الصوت يخبر الركاب أن سوء الطقس منع الطائرة من النزول في أربيل. ظللنا نتطلع إلى بعضنا غير عارفين إذا كان الطقس هو السبب أم شيء آخر. فكت الأحزمة، وظل المسافرون جالسين في مكانهم. فجأة شعرت بأن حالتي ليست على ما يرام. شعرت باختناق وعدم القدرة على التنفس. لكنني، وحتى لا أثير حفيظة من معي، تسللت في حذر إلى الخارج وأنا أطلب فقط أن أتنفس بعض الهواء النقي. كنت أرغب فقط في الخروج من الطائرة وتنفس قليل من الهواء والعودة. لكن عدم التواصل بالنظر إلى عدم إتقاني اللغة الانجليزية وعدم معرفتهم بأي من اللغات التي أتحدثها، جعلهم يأخذوني إلى مستعجلات المطار. هناك قام الطبيب بفحصي وهو يمطرني بالأسئلة، وأجرى لي فحوصات متعددة ليخلص إلى أنه الإرهاق والتعب والانفعالات هي المسؤولة عن ذلك، مشيرا إلى أن الانفعالات سيئة بالنسبة لي مع مشاكل القلب التي أعيشها. وطلب مني أن أرتاح قليلا في غرفة الفحوصات، مطمئنا إياي إلى أنه سيعلمني بما قد يحدث، بخصوص الطائرة. بعد أكثر من ساعتين، استيقظت مرتاحة، خرجت إلى ساحة المطار وفي نيتي العودة إلى الطائرة، فإذا بشاب يلبس زي من يشتغل في المطار ويرطن بلغة لا أفهمها، يأمرني بالعودة حالا. اصطنعت ابتسامة بلهاء، وكنت قد لاحظت وجود طائرتين عسكريتين جاثمتين قرب طائرتي. لكن كلمة فصيحة خرجت من بين أسنانه، سمعتها مرات عديدة بعد ذلك، أطلقها في وجهي، ربما ليتلافى نقاشا لا يعرف بأية لغة سيجريه، وليختصر كل شيء: «ممنوع» . وسحبني من يدي إلى الداخل. هناك علمت أن ما منع الطائرة من الهبوط، هو كون سماء أربيل كانت تمطر ترابا. فتراكم العواصف القادمة من الجنوب يختلط بالغمام فيمطر ترابا. بقيت ساعتين أخريين داخل المطار دون أن أفعل شيئا. لا أجد من أسأله، لأنني كنت محاطة بالشباب، والشباب لا يفهم العربية. فقد جعلهم التاريخ وموازين القوى مع المركز يقومون بأغبى ردة فعل، هي عدم تعلم العربية، فقط لأنها كانت إجبارية في عهد صدام حسين (؟ !). في الثامنة صباحا بالضبط، أطلقوا سراح باقي ركاب الطائرة، الذين احتجزوهم دون أن يزودوهم بأدنى معلومة؛ بل قيل لي إن أحد الرجال أصابته نوبة من البكاء وهو يحتج ويصرخ. أخيرا استطعنا المرور من الشرطة واستلام أمتعتنا ثم المرور من الدرك ثم وطء أرض كوردستان خارج المطار، وبدء مسلسل الاكتشافات. غير أن هذه الأرض بدت لي لا مبالية، وغير عابئة بأحلامنا المفتوحة على متع المعرفة. كنت منهكة حقيقة، ولم تكن بي رغبة لمعرفة كيفية وصولنا إلى أربيل، عندما جاء ميمون الطاهري، وأخبرني أنهم يهيئون حافلات لتحملنا إلى عاصمة كردستان التي تسمى أيضا هولير. بعد لأي ، وتعب مضاعف، وعناصر من المؤتمر اتصلوا باللجنة التحضيرية في أربيل، وإخبارهم أنها سترسل سيارات خاصة إلى السليمانية لتقلنا، وإصرار إحداهن، وكنا آنذاك في باصات سياحية صغيرة نستعد للإقلاع، وبعد أن استشارني الوفد المغربي، قلت وكان قد استبد بي التعب: «اذهبوا إن شئتم، لكنني لن أنقلع من هنا». لحظتها ظل الجميع معي. لكننا قضينا وقتا ممتعا. وقد توقف الباص في منتجع قرب مدينة «دكان»، ونزلنا لنرتاح قليلا، واكتشفنا لأول مرة أسعار المواد الغذائية، ثم بعدها اكتشفنا المناظر الطبيعية، وكانت تشبه مناظر تيزين تيشكا، في الطريق الفاصلة بين مراكش وورزازات، بالتواءاتها ومنعرجاتها، كما أن السكن القروي كثيرا ما كان يشبه السكن المغربي، إذ مرارا ما يلاحظ البناء الطيني القديم جنبا إلى جنب مع البناء الإسمنتي الحديث. والبناء الطيني يكاد لا يتميز عن الجبال التي ينبت فيها، وهو دافئ في فصل الشتاء وبارد في الصيف، في حين أن الإسمنت، الذي كثيرا ما يدل على يسر من يستعمله، يحتفظ بدرجة الحرارة كما هي، بحيث لا يحتمل البقاء فيه خلال البرد القارس أو الحرارة المفرطة، دون استعمال مكيفات هواء.