هذه مذكرات هامة جدا، كونها تعنينا كمغاربة، عن كيف تشكل المغرب الحديث بعد احتلال فرنسا وإسبانيا لبلادنا، إثر توقيع معاهدة الحماية يوم 30 مارس 1912، والتي مرت عليها الآن 100 سنة. وأهمية هذه المذكرات، ليس فقط أنها وثيقة تاريخية، بل كونها كتبت من صانع قرار، لم يكن عاديا قط في تاريخ المغرب الحديث، أثناء وبعد صدمة الإستعمار، الماريشال هوبير ليوطي، أول مقيم عام لفرنسا بالمغرب. لقد جاء إلى المغرب بعد سنوات قضاها في مدغشقر ثم وهران بالجزائر، ليمارس مهام المقيم العام ل 14 سنة كاملة. وهي أطول فترة قضاها مقيم عام فرنسي بالمغرب. ليس هذا فقط، بل أهميتها التاريخية أنها كانت مرحلة تأسيسية لشكل الإستعمار الفرنسي في إمبراطورية لها منطقها الدولتي في التاريخ، في كل الشمال الغربي لإفريقيا، هي الإمبراطورية الشريفية المغربية. وأن كل أساسات الدولة الحديثة قد وضعت في تلك المرحلة، على مستوى إعداد التراب، أو التنظيم المالي، أو القضاء، أو التعليم أو الفلاحة. ومن خلال ما دونه في مذكراته نتتبع بدقة كيف ولدت كل تلك الترسانة التنظيمية للدولة المغربية الحديثة، بلغة صاحبها التي لا تتردد في وصف ذلك بالعمل الإستعماري، المغلف بالدور الحضاري. وهي شهادة فيها الكثير من جوانب الجرأة الأدبية التي تستحق الإحترام. ثم الأساسي، أنه كرجل سياسة كتب شهادته وأرخ للأحداث عبر مذكراته الخاصة، من وجهة نظره، ولم يلد بالصمت، بل كان له حس تاريخي، يتأسس على إدراكه أنه يسجل كلمته للتاريخ. لقد صدرت هذه المذكرات أول ما صدرت سنة 1927، أي سنة واحدة بعد مغادرته المغرب (بقي مقيما عاما بالمغرب من 1912 إلى 1926). ثم أعيد نشرها سنة 1944، قبل أن يعاد نشرها من قبل كلية الآداب بالرباط منذ سنة إحياء للذكرى 100 لاختيار الرباط عاصمة للمغرب. لنستمع لصانع من صناع التاريخ المغربي الحديث والمعاصر، كيف يروي قصة الأحداث من وجهة نظره. أو كما قال الزعيم اليساري الفرنسي فرانسوا ميتران عن مذكراته الخاصة هو: «هذه هي الحقيقة من الجهة التي كنت أنظر منها». أي أن للحقيقة دوما جهات أخرى للرؤية والنظر، يكملها عمليا المؤرخون. الرباط: 15 غشت 1912 عدت من فاس يوم 1 غشت، من أجل فرض التنازل (عن العرش) على السلطان مولاي حفيظ وتعويضه بمولاي يوسف (الحقيقة أن السلطان مولاي حفيظ هو الذي رفض التعامل مع ليوطي وقرر التخلي عن العرش. وكانت تخوفات ليوطي قائمة بسبب تداول أخبار أن للسلطان مولاي حفيظ علاقة ما بحركة الهيبة ماء العينين التي غادرت مراكش وبدأت الزحف باتجاه الرباط، لكنها هزمت في موقعة سيدي بوعثمان. ? م -). وكان علي أن أستقبل المقيمين الفرنسيين بالرباط. كانت اللحظة تلك، من أشد لحظات الأزمة في بدايات عملنا، بعد أن دخل الهيبة مراكش واعتقاله ثمانية من مواطنينا وأن الشاوية كانت مهددة بجد. «لقد فرحت أخيرا بلقاءكم أنتم المقيمون الفرنسيون بالرباط (يقول ليوطي في كلمته لحظة استقبالهم). ليس لي أن أذكركم بالظروف التي اجتزت فيها مدينتكم (لننتبه لعبارة «مدينتكم») منذ 3 أشهر، بسرعة في طريقي إلى فاس، لأنه 24 ساعة بعد ذلك، ما كان ممكنا لي الدخول إليها. ومنذ عودتي، انقضى أسبوعان، أنتم أعلم فيما كنا فيه غارقين من مهام مستعجلة، حيث كنا نهيئ للحدث الكبير الذي نجحنا فيه وهو تنازل السلطان مولاي حفيظ عن العرش. ولم يكن ذلك وحده العائق المادي الذي منعني من اقتبالكم، فقد كنت مترددا في أن أخطب فيكم دون أن يكون هناك ما أبشركم به غير الكلمات الفارغة. لأشرح لكم الأمر: نحن هنا في بلد محمي، حيث لا شئ يمكن أن يتم بدون تعاون. والحال أن التعاون يقتضي جهتين. ومنذ خمسة أيام لم نكن سوى جهة واحدة، أو بشكل أكثر دقة، كنا نعم جهتين، لكن غير متعاونتين. (يقصد ليوطي عدم تعاون مولاي حفيظ معهم ? م - ). إن ما حدث خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، حيث كل محاولة للمبادرة تصطدم برفض شامل، يطول شرحه لكم هنا. واليوم، لدينا في المغرب سلطان جديد، مولاي يوسف. حقا، ليس هينا تحمل المسؤولية في أوضاع متوترة مماثلة، لكن، على الأقل فإن الإنصاف في التحاور والتعامل مضمون معه أكثر. وأننا موقنون أن الملفات التي تتطلب صدور ظهير شريفي، والتي أنتم معنيون بها أكثر، لن تبقى مركونة في الرف تنتظر التوقيع. إنه بإمكاننا العمل جميعا اليوم، وأنا أعلن ذلك أمامكم براحة نفس كبيرة. الآن، أيها الفرنسيون، اطمئنوا أن الإقامة العامة ودار فرنسا مفتوحة لكم دوما. وستفرحون دوما فيها بمن يناقش معكم قضاياكم. فأنا ومساعدي: السيد غالو، مديرنا العام للشؤون المالية. السيد دولير، مديرنا العام للأشغال العمومية، الذي ألححنا في التحاقه بنا، بالكفاءة المشهودة له، وبجهد من الكولونيل كالوني المتخصص في الهندسة. دون إغفال غياب السكرتير العام السيد غيلار، الذي يبعده عنا مؤقتا مرض خطير أصابه، والذي يحرمنا منه منذ شهور. القائد سيمون الذي يتكفل مؤقتا بمهامه وينوب عنه. وأخيرا السيد دوسانت أولير، الذي لا يذكر اسمه في المغرب دون أن يكون مصاحبا بالتقدير العالي والثقة والتعاطف. إن دعمهم جميعا هو سندي الأكبر للقيام بمهامي الصعبة التي كلفتني بها حكومة الجمهورية (الفرنسية). ستجدوننا كلنا متحمسين بذات اليقين، الذي تترجمه تلك المقولة الجميلة لمعلمي وأستاذي الجنرال غالييني: «على إداريينا وضباطنا أن يدافعوا بروح المسؤولية الإيجابية عن المصالح التي أنيط بنا أمر حمايتها، وليس محاربتها باسم التصفية». (الجنرال غالييني، الذي رقي إلى رتبة ماريشال سنوات بعد وفاته، اشتغل تحت إمرته الماريشال ليوطي بمدغشقر، حيث كان غالييني مقيما عاما، بعد أن عين أيضا مقيما عاما بالسودان الغربي، أي مالي. ? م - ). تمة أمر يقلقكم جميعا، وأنا أستشعره. وأود أن أطمئنكم حوله. إن في بلد حماية، كل الجنسيات من كل البلدان هي على قدم المساواة، وبطبيعة الحال لن يكون الفرنسيون في آخر قائمة المستفيدين من هذه المساواة. فليست الجنسية الفرنسية أو من هو محمي فرنسي سببا في عدم الإنصاف بشكل مسبق. لسنا هنا بصدد استفزاز أي كان، ولا أن نتجاوز القانون، لكن باسم هذه القوانين نفسها، التي يجب الحرص على تطبيقها، غير مسموح أن يكون الفرنسي هو الضحية دوما أو هو المخطأ بالضرورة. (يقصد ليوطي هنا، الإحتجاجات الألمانية ضد توسع النفوذ الفرنسي في المغرب، بتجاوز محتمل لاتفاقية الجزيرة الخضراء لسنة 1906. وكان التهديد الألماني جدي ضد باريس في هذا الباب حينها. ? م - ). لقد أصدرت الأوامر لقناصلتنا ولموظفينا بشكل واضح وصارم في هذا الباب. وأكدت لهم أنهم سيجدون في كل قراراتهم السند الحاسم مني ومن السيد دوسانت أولير. وأكيد أنكم، ستعيبون علي أن نفترق دون أن نوجه تحياتنا لجنودنا الذين يحاربون على الجبهة. علينا أن لا ننسى أبدا أن كل نجاحنا في تحقيق التقدم الإقتصادي لهذا البلد، وأن نضع فيها قضبان السكة الحديدة ونشق فيه الطرق المعبدة، وأن العديد من المنجزات تتحقق يوما بعد آخر، وأن الثروات تتوسع فيه، فإن الفضل في ذلك يعود إلى الحاجز الذي تصنعه صدورهم ضد الإعتداءات والمقاومات. فكلما جنيتم ربحا، تذكروا أن لا سيف لجنودنا لم يخضب بالدم، دمهم.». الرباط: 20 أكتوبر 1912. عودة السلطان مولاي يوسف إلى الرباط. أعلن مولاي يوسف سلطانا على المغرب يوم 9 غشت، وكان حينها خليفة على فاس، وبها قضى 3 أشهر الأولى من حكمه كسلطان. وكان مهما قبل أن يلتحق بالرباط، أن تتم التهدئة في الجنوب، الذي كان المدعي الهيبة قد أعطانا فيه درسا حارقا (يقصد ليوطي هنا الهيبة ماء العينين الذي حرر مراكش واتجه صوب الرباط ? م - ). لقد تمكن الكولونيل موجان بسرعة حركته وفعاليتها، من أن ينقذ الوضع. لقد نحج في طرد الهيبة من مراكش ورسخ إدارتنا في الجنوب بدعم من كبار القياد هناك، وكان لشخصيته القوية الدور الحاسم في تحقيق ذلك. وبعد عودة السلطان إلى الرباط، قمت بأول زيارة له حيث وجهت إليه تهانئي بالسلطنة ومتنياتي لحكمه.. «جلالتكم. إنه لشرف عظيم لي، وغبطة كبرى، أن أنقل لجلالتكم تهانئ حكومة الجمهورية الفرنسية لاعتلائكم العرش وكذا متمنياتها لكم بازدهار عهدكم. كنت أتمنى أن أنقل لكم ذلك إلى فاس منذ اليوم الأول، لكن جلالتكم يعلم الظروف السياسية والعسكرية التي حالت دون ذلك. وبفضل الله، فقد لقي أهل الفتنة جزاءهم الذي يستحقون. لقد تمكنت قواتنا الفرنسية، بمساعدة من الساكنة والقياد الأوفياء لاستثباب الأمن والنظام، من تحقيق انتصار وراء انتصار. وشهرا واحدا بعد اعتلاء جلالتكم العرش، تمت مبايعتكم في كل مدن المغرب. بالتالي، ورغم القلاقل التي لا تزال تسيئ لصورة البلد، فإن عهد جلالتكم انطلق في ظروف جيدة، وكل جهودي وجهود معاوني ستكون مخصصة لدعم جلالتكم من أجل أن تقودوا عملية تحقيق السلم والعدل والنظام على ربوع إمبراطوريتكم النبيلة. وأنا متيقن من صلابة إرادة جلالتكم لتحقيق هذه المهمة المجيدة. لقد وقفت، حين مقامي بفاس، يوميا على الخصال القيمة التي تميزكم، وإني لأحتفظ لكم بذكرى الإعتراف بالصداقة التي تشرفنا. كما أنني سعدت عاليا، مع اعتلاءكم العرش، بحجم الترحاب الذي خصكم به الشعب المغربي وأن أطلع على احتفالات المحبة والوفاء التي خصصت لكم على طول الطريق التي قطعتم. على جلالتكم أن تثقوا في الدعم الكامل للحكومة الفرنسية، تأسيسا على اتفاقياتنا السابقة، من أجل مساعدتكم على تهدئة الأوضاع في إمبراطوريتكم وعلى تنمية ثرواته وتقدم مؤسساته، في ظل الإحترام الكامل لتقاليد البلد وللدين. ليعتمد جلالتكم على دعمي وسندي وكذا دعم وسند مساعدي، من أجل مرافقته على تحقيق هذه المهمة السامية».