حيفا مدينة يشهد كل من زارها بأنها من أجمل مدن الدنيا ، كونها تقوم على سفح جبل يطلّ مباشرة على البحر الأبيض المتوسط دون أن يفصلهما سهل ساحلي ، بحيث تطلّ على البحر أينما كنت . في هذه المدينة ولد الدبلوماسي الإعلامي الكاتب واصف منصور ، وبعد أقلّ من ثلاث سنوات طرده الصهاينة رفقة أسرته وأكثر من نصف شعبه الفلسطيني ليصبحوا لاجئين . . أي مجموعة من البشر لا تملك مأكلا ولا ملبسا ولا مأوى . ويصمدوا لكل ذلك ويفجّروا أطول ثورة عرفها التاريخ . عاش واصف منصورحقبة اللجوء كاملة ، العيش في العراء ثم في الخيام ثم في بيوت أشبه بالقبور ، ويحدّثنا عنها بأدق التفاصيل . وعاش حقبة الثورة كمناضل سياسي وإعلامي وعسكري على مختلف الساحات ، ويحدّثنا عن دروبها ودهاليزها . وبما أن القدر ساقه إلى المغرب حيث قضى فيه ضعف ما قضى في فلسطين ، طالبا جامعيا ومدرّسا ومناضلا طاف كل نواحي المغرب مبشّرا بقضيته ، والتقى ورافق غالبية رجال ونساء السياسة والفكر والأدب والفن والإعلام المغاربة . في هذه الحلقات يحدّثنا فيما يشبه التقارير المفصلة عن حياة المغرب السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية على مدار سبع وأربعين سنة .. هذه الحلقات التي ستتحوّل لاحقا مع إضافات وتنقيحات إلى كتاب سيصدر قبل نهاية هذه السنة إن شاء الله . حدّثتني والدتي ذات ليلة ونحن في مزرعة خضروات زرعها أخوالي بمنطقة الأغوار أواخر خمسينات القرن الماضي ، وجعلوا أبي شريكا فيها رغم أنه لم يكن يبذل نصف مجهود أي واحد فيهم ، ولكن من أجل أن يحصل على نصيب منها وكأنه يبذل مجهودا يأخذ ريعه ، حيث أنه كان قد خرج لتوّه من السجن ولم يكن ليجد عملا ينفق منه على أسرته . وقالت أن والدي بعد أن أكمل تعليمه الإبتدائي في قريتنا ( أم الزينات ) أوائل الثلاثينات ، وأجبره والده على العمل في فلاحة أرضهم التي كانت تزيد عن ثلاثمائة دونم ( ثلاثين هكتارا ) ، وهي في مقاييس فلسطين وأم الزينات ملكية كبيرة ، حزم أمره على الهرب إلى حيفا ، حيث كان أبوها وهو إبن عم أبيه وزوج عمته قد هاجرإلى حيفا منذ عشرينات القرن الماضي وسكن في الحي العمالي ( حوّاسة ) الذي كانت بيوته من القصدير فسمّي ( حوّاسة التنك ) ، فتسلّل ليلا إلى حيفا وسكن مع دار عمته وطلب إليهم أن لا يخبروا والده بوجوده عندهم كيلا يأتي ويعيده إلى أم الزينات . في حيفا التحق للعمل بمحطة تكرير البترول التي أنشأتها بريطانيا لتكرير النفط المجلوب بأنابيب ضخمة من منطقة كركوك العراقية ، وشغفته الثقافة وشغله العمل النقابي والسياسي ، فلم يرد الزواج حتى لا يبعده ذلك عن العمل السياسي والنقابي . ولكن تقاليد العائلة القروية أجبرته على الزواج في سن مبكرة أواخر عام 1938 من أمي على طريقة المبادلة ، حيث تزوج خالي توفيق من عمتي يسرى . وقالت لي والدتي أن أبي رغم إنجابه ولدا وبنتا قبلي ، فإن ولادتي ذات ليلة ماطرة شديدة البرودة في حوّاسة كانت البداية الحقيقية لممارسته لإبوّته. فقد ولدت طفلا مكتنزا أشقر بعينين خضراوين وشعر ذهبي ، وكان والدي يسارع للعودة إلى البيت عند إنتهاء عمله رفقة صديقه جارنا وابن قريتنا حسين الديب يتسابقان على من سيحملني ويقبّلني ويلاعبني ، إلى أن مرضت وارتأت أمي أن سبب مرضي هو حملهم لي قبل أن يستحموا بعد عودتهم من العمل ، فأقسمت عليهما أن لا يقتربا مني إلا بعد ان يستحمّا . وقد سمعت من والدي لاحقا أنه سمّاني ( واصف ) التي تقابلها باللغة الآرامية كلمة ( آصف ) التي كان يكنّى بها أحد وزراء الملك سليمان الذي كان يسمى آصف بن برخيا . لا أذكر شيئا من أم الزينات لأن أهلي غادروها وعمري سنتان وبضعة أشهر ، ولم أتعرّف عليها إلا من أحاديث أهلي بعد أن كبرت ، ومن خلال قراءاتي عنها ، وأخيرا بعد أن عدت إلى فلسطين عام 1996 إثر قيام السلطة الوطنية الفلسطينية وذهابي إليها مرارا متسللا حيث أن الذهاب إلى الأراضي المحتلة منذ عام 1948 يحتاج إلى تصريح خاص ومعاملات طويلة ومعقّدة وإنتظارات طويلة . أم الزينات واحدة من القرى العشر الكبرى في منطقة الكرمل ، تجاوزعدد أهلها الفا وسبعمائة وخمسين نسمة عام 1948 ، وكانت أراضيها تقارب الثلاثين ألف دونم ، وسمعت من والدي مقولة لأحد أقر ب أصدقائه إلى قلبه ويدعى ( أبو فاروق ) داود الخالد يقول فيها أن أم الزينات ( الربّة البيضاء التي سيقيم الله عليها عرشه يوم القيامة وينصب ميزانه ليحاسب البشر) . وكان أبو فاروق يسأل مجالسيه : ما هي أحسن بلاد الدنيا ؟ فيجيبون بدون تردد : فلسطين ، فيسألهم ما هي أحسن مناطق فلسطين ؟ فيجيبون ببداهة : الكرمل ، فيسألهم :ما هي أحسن منطقة في الكرمل ؟ فيقولون بسرعة أم الزينات . فيقول لهم : إذن هي الربّة البيضاء . أم الزينات هذه قرية تهجع في حضن الكرمل في منتصفه تقريبا ، غالبية أراضيها جبلية وعرة ولها بعض السهول التي هي إمتدادات لسهل مرج إبن عامر الذي يعتبره الفلسطينيون أخصب أراضي الدنيا . وتطل على البحر الأبيض المتوسط من الغرب وعلى مرج إبن عامر من الجنوب الشرقي وعلى منطقة الناصرة من الشرق . وكان أهلها فلاحين حقيقيين صلبين مجتهدين استصلحوا معظم أراضيهم من غابات الكرمل ، يحبون الأرض حبهم لإبنائهم فلم يبيعوا منها شبرا واحدا لليهود . وقد أهّلها موقعها الحصين لأن تكون مقر قيادة أحد قادة ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 الشيخ يوسف أبو درة ، وكان يسميها ( البلد الأمين ) ، وخاض في منطقتها العديد من المعارك مع القوات البريطانية أهمها معركة ( أم الدرج ) ولم تتغلب عليه رغم إستعمالها الطائرات الحربية والدبابات والمدفعية والأعداد الضخمة من الجنود . لقد انعكست الطبيعة الجبلية الوعرة لأم الزينات إلى حد كبير على نفسية وسلوك أهلها ، فهم مشهورون لدى أبناء منطقة الكرمل بالعناد أو (التياسة ? قساوة الرأس ) ، ولا ينافسهم في ذلك إلا أبناء أشبه القرى بقريتهم وأقربها إلى قريتهم وهي قرية ( إجزم ) .م الزينان ومن إنعكاسات هذه الطبيعة ما سمعته من كبار السن من أهالي بلدتنا أنهم لم يسمعوا عن حادثة طلاق واحدة حتى يوم إخراجهم من البلدة عام 1948 ، وكذلك لم تشهد البلدة سوى حادثة فساد أخلاقي واحدة كان نتيجتها قتل المرأة ، مع شهادة معظمهم بأنها قتلت مظلومة وأن القتل كان إنطلاقا من الشك فقط . ويتنا قل أهل القرية ثلاث روايات لتسميتها بهذا الاسم . فرواية تقول ( بسبب زين أفعال أهلها من كرم وشجاعة ...الخ ) ، ورواية ثانية تقول ( لكونها زينة منطقة الكرمل حيث أنها دائمة الخضرة ومكسوّة دائما بالأزهار ) ، ورواية ثالثة تقول ( لزين أو جمال نسائها ) . وهذه الرواية الثالثة يدلّلون عليها بأن هناك في التراث الشعبي أغنية تقول ( يا سيدي الشيخ أخطب يا خطيبي من أم الزينات لا تقطع نصيبي ).ويؤكد ذلك ما لاحظته بعد أن كبرت من أن أهلها رجالا ونساء طويلو القامة يميلون أكثر إلى البياض المشرب بالحمرة ، وتكثر عندهم العيون الخضر، وهذه من أهم سمات الجمال عند أهل فلسطين في ذلك الوقت . أما تسمية عائلتنا ( منصور ) فقد جاءت نتيجة خلاف بين أعمامي وبقية عائلتنا الكبرى ( صبح) ، فقرر أعمامي إتخاذ إسم جدنا الأبعد منصور إبن صبح إسما عائليا لهم ، مع إستمرار كثير من أبناء عمومتي الأقربين وحتى بعض إخوتي في حمل إسم صبح . وعائلة صبح عائلة كبيرة في منطقة الكرمل لها فروع في قرى عديدة منها : الريحانية ? أم الشوف ? السنديانة ? إضافة الى بلدتنا أم الزينات ، ولها امتدادات في بلدة طيطبا في الجليل وفي مدينة صفد التي كان آخر رئيس بلدية لها عام 1948 من عائلة صبح . احتل الصهاينة أم الزينات ليلة 15 أيار مايو 1948 على يد الكتيبة الرابعة من ( لواء جولاني ) المشهور ، حيث هاجمت القرية من الجهة الغربية وأرغمت الرجال الذين كانوا يملكون بعض البنادق ويحاولون الدفاع عن القرية ، أرغمتهم على الفرار تحت وابل رصاصها وقنابلها. وكانت النساء والأطفال وكبار السن قد غادروا القرية قبل ذلك بأيام وأقاموا في الغابات المحيطة بالقرية بعد أن وصلتهم أنباء المذابح التي اقترفها الصهاينة . كانت وجهتنا بعد مغادرة أم الزينات هي قرية إجزم التي تقع إلى الغرب من قريتنا ، وشكّلت مع قريتي جبع وعين غزال محور مقاومة استمر يقاتل بعد سقوط مدينة حيفا اوائل شهر نيسان / ابريل 1948 ، حيث تجمع فيها كل الثوارحملة البنادق من قرى منطقة حيفا ومنهم والدي الذي كان يملك بندقية فرنسية الصنع اشتراها بثمانين جنيها فلسطينيا . سكن أهلي تحت أشجار الزيتون المحيطة بإجزم خاصة وأن الجو كان صيفيا أقرب إلى الحرارة. كا ن يقود محورالمقاومة هذا رجلان مشهود لهما بالشجاعة ورجاحة العقل هما عبد الله الزيدان ومحمود الماضي الذي كان محاميا كبيرا ، وعندما أيقن محمود الماضي أن استمرار المقاومة أصبح مستحيلا نتيجة إشتداد غارات الصهاينة بدبابات ومدفعية ثقيلة ، وعدم وصول أية نجدات للمقاتلين ، رغم أن القوات العراقية لم تكن تبعد عن إجزم سوى بضعة كيلومترات ، وكان قادتها يرددون على مسامع من يأتيهم طالبا النجدة ( ماكو أوامر ) أي ليس لديهم أوامر بالقتال ، حيث جاءوا فقط ليقفوا عند حدود منطقة التفسيم التي أقرّتها الأممالمتحدة في 29 نوفمبر / تشرين الثاني عام 1947 . عندما تيقّن من ذلك إقترح على الناس البقاء في قراهم لكيلا يأخذها الصهاينة خالية ويملأوها بمهاجريهم ، إلا أن الناس رفضوا ذلك خوفا من إعتداء الصهاينة على نسائهم ، ونظرا لظنهم البائس بأن القوات العربية قادمة للقضاء على الصهاينة ، ويروى أن أحد أبناء عمه أشهر عليه البندقية لقتله باعتبار أنه يقبل الإستسلام للصهاينة . سقط المحور وجاءت سيارات الجيش العراقي وحملت معظم الناس إلى العراق ،وعند وصولهم أسكنتهم الحكومة العراقية في معسكر للجيش بمنطقة الشعيبية بمدينة البصرة ونظرا لعدم قدرتهم على احتمال الحرارة المفرطة هناك نقلوهم إلى منطقة التوراة في بغداد وأسكنوهم في البيوت التي تركها اليهود العراقيون الذين هاجروا إلى فلسطين ، وفي مدارس وملاجيء حكومية بمنطقة البتّاوين ، وعندما قامت ثورة عبد الكريم قاسم عام 1958 تم نقلهم إلى مناطق أرقى في حي السلام وحي الحرية ببغداد . بعد ذلك اتجهت جموع الناس المحتشدة في منطقة إجزم إلى الجنوب الشرقي حيث تقع بلدة أم الفحم الكبيرة نسبيا والحصينة إلى حد ما بفضل وجود وحدة من القوات العراقية بداخلها . وسكن الناس تحت الشجر ، بحيث جمع الناس كميات كبيرة من الأعشاب وربطوها على شكل حزمات أحاطوا بها الشجرة لتشكل ساترا لمن يسكن تحتها . ولما بدأ موسم الأمطار وأصبح الناس مكشوفين لأن الرياح أخذت معها حزمات القش ، اقتحم الناس مدرسة البلدة وسكنوا فيها ? وبالطبع بلا فراش ولا غطاء . ولكن هذا الوضع لم يكن ليستمر طويلا ، فاتخذ والدي الذي كان في ذلك الوقت هو صاحب الرأي والمشورة في العائلة ، إتخذ قرارا بالرحيل إلى منطقة أريحا التي سمع بأن جوّها دافيء شتاء ، وأن فيها ينابيع ووديان وفيرة المياه ، وأن فيها هيئة دولية هي الإتحاد اللوثري وكذلك الصليب الأحمر الدولي تقدم للناس خياما وبعض المواد التموينية . ثم أن هيئة الأممالمتحدة شكّلت ماسمي « لجنة التوفيق « لتنفيذ قرار الجمعية العامة رقم 194 الذي يؤكد على « حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم والتعويض على من لا يرغب في العودة « ، فأرسلت هذه اللجنة بعثة للإطلاع على الأوضاع في الشرق الأوسط وتقديم اقتراحات لمعالجة الخلل . وبعد عدة لقاءات أوصت البعثة بإنشاء وكالة خاصة لتنفيذ برنامج إغاثة اللاجئين وتشغيلهم . وقد أقرّت الجمعية العامة للامم المتحدة يوم 8 ديسمبر / كانون أول 1949 تأسيس ( وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى وتشغيلهم ) التي عرفت إختصارا « الاونروا « . وابتدأت عملها في الأول من أيار / مايو 1950 في برنامج يستمر لسنة واحدة ، ثم أصبح من المعتاد أن تجدّد ولاية الاونروا بصورة دورية مع التشديد في كل قرارعلى ( أن لا ينتقص أو يمسّ حقوق اللاجئين في العودة والتعويض وفقا للقرار رقم 194 ) . كانت محطتنا الأولى في مخيمات اللجوء هي مخيم النويعمة بمنطقة أريحا ،وهو مخيم لم تكن له اية مميزات في ذلك الوقت سوى قربه من نبع الماء في عين السلطان ، وكان قريبا من البحر الميت فكان بإمكان الأهالي الحصول على ملح الطعام بدون مقابل ، مع العلم أن منطقة أريحا لم تكن قبل 1948 من المناطق التي يعتدّ بها زراعيا. وبسبب فرط حرارته التي لم نعتد عليها في أم الزينات ، ولكثرة ما كانت أرضه تعجّ بالعقارب والأفاعي ، انتقلنا إلى مخيم الجلزون في منطقة رام الله . يقع مخيم الجلزون على أراضي قرية جفنا المسيحية ، وفيه فوجيء أبناء المخيم من المسلمين بأن هناك مسيحيين يمارسون مثلهم الفلاحة ? حيث كان السائد عند ابناء القرى الذين يشكلون غالبية ابناء المخيم أن المسيحيين على العموم ( افندية ) . كان عام مجيئنا لمخيم الجلزون عاما باردا نزلت فيه كميات كبيرة من الثلج إلى حد أن الناس أصبحوا يؤرخون به فيقولون ( عام الثلجة ). وأهم ذكريات مخيم الجلزون أننا كنا ننصب خيمتنا بجوار شجرة من الزيتون ، وعندما نزل الثلج مالت أغصان الشجرة فا صبحنا وكأننا نعيش في العراء . كانت أرض خيمتنا مملوكة لأحد أبناء قرية جفنا واسمه ابراهيم حنا سلامة ( أبو حنا ) . ولما نزل الثلج حضرمن قريته لعندنا فلما رأى المشهد أخذ يكسر أغصان الزيتون ويعطيها للنساء قائلا : إشعلوا فيها النار وتدفّأوا ، فعل ذلك ونحن نعلم كم هي عزيزة شجرة الزيتون عند الفلاح الفلسطيني . كما أخذنا نحن الأطفال معه وظللنا نبيت في بيتهم حتى ذاب الثلج وسخن الجو . وقد أثّرت هذه الأحداث في نفوس أبناء عائلتنا بل وعموم لاجئي المخيم ، بحيث أننا كبرنا وليس لدينا أية مشاعر عدائية أو تمييزية تجاه المسيحيين الذين كنا نعتبرهم اخواننا .