تنظر فرنسا بثقة إلى التغيرات الحاصلة في العالم العربي لأنها مقتنعة بأفضلية الرهان الديمقراطي. ففرنسا الواعية بمسؤولياتها والتي تنظر للأمر بثقة وصفاء ذهن، تريد ويجب عليها أن تساهم بنشاط ،على المستويين الثنائي ومتعدد الاطراف في تقدم الانتقالات الديمقراطية والاقتصادية والمجتمعية. ففرنسا تعتزم مصاحبة الانتقال الديمقراطي أينما انطلق. ومع هذا المبدأ المؤكد يُطرح سؤال المنهجية. فلكل من هاته المجتمعات أن تجد طريقها دون أن ينوب عنها أي أحد في ذلك. سنرفض أية أبوية، و لو كانت ، إذا ما سُمح لي باستخدام هذا التعبير- «أبوية ثورية». وفي المقابل، فإن فرنسا ستحتفظ بحرية الحكم على التطورات وستعبر عن موقفها متى وحيث ما قدرت ضرورة ذلك، مع مراعاة أن الديمقراطية هي أيضا احترام لمبدأين كبيرين. وأول هذين المبدأين هو عدم المساس بالحريات الأساسية: المساواة أمام القانون، حرية التعبير، حقوق النساء وحقوق الأقليات، فسنكون حريصين بشكل خاص على احترام النساء. وهي مسألة كرامة ولكن أيضا مسألة تقدم المجتمع بأكمله. ولكي يجمع كافة حظوظه، على العالم العربي أن يمنح النساء مكانتهن. ومن جهة ثانية، فلا وجود لمجتمع حر دون إمكانية التناوب السياسي ودون تعددية. لذلك فسنشجب كل محاولة للتسلط أو تقليص الحقوق الديمقراطية. ومما يزيد من أهمية التعددية هو كون المجتمعات العربية تتميز في الغالب بالتنوع الإثني والديني، ومن هنا ضرورة حماية حقوق الأقليات. إن أولويتنا ستكون إذن هي مصاحبة المواطنة الجديدة، بالتوجه إلى المجتمع برمته وليس للحاكمين فقط. فمخاطبونا ينبغي أن يكونوا أيضا من الحركات الديمقراطية وجمعيات الدفاع عن الحقوق، وخاصة حقوق المرأة، وكذا من الجمعيات التي تعمل من أجل التعليم والثقافة والتنمية الاقتصادية. هذه المصاحبة لن تكون من مسؤولية الدبلوماسية فقط ، بل ينبغي أن تمتد إلى أبعد من ذلك. نتمنى بأن تتضاعف التبادلات الطلابية واللقاءات بين المثقفين والجامعيين، والحوار بين الجمعيات ومنتديات المقاولين على كافة المستويات، بفضل التداخل الواقع بين مجتمعاتنا ولو بالنسبة للمغرب العربي على الأقل. وعلى مستوى أوسع، فإن الانتقالات الديمقراطية ستنجح أكثر إذا ما تمكنت من الاستجابة للانتظارات الاقتصادية والاجتماعية، التي هي انتظارات ملموسة، بشرية وقابلة للانفجار... على هذا الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، يمكننا ويجب علينا نحن ، وأوربا، أن نصاحب بقوة التغيرات التي بدأت. وعلى هذه التغيرات يتوقف مستقبلهم ومستقبلنا. تشغيل الشباب، التربية والتكوين، التنمية الترابية، الاستثمارات المنتجة، وأيضا مكافحة التفاوتات ومحاربة التدهور البيئي: إن الاستجابة لهذه الحاجيات أمر حيوي بالنسبة للمجتمعات العربية. ينبغي أن نضع الشباب والعدل والتنمية في قلب الشراكة الأورومتوسطية التي نريد تشييدها. وأؤكد بالخصوص على عنصر الشباب الذي يفرض أولوية التعليم والتكوين المهني والثقافة أيضا والمبادلات الجامعية. إن ما تم مؤخرا من إلغاء لمرسوم «غيان» السيء الذكر والصادم، شكل علامة أولى طال انتظارها، سيسمح لفرنسا بأن تكون قوة ذات نفوذ بمساهمتها في تكوين النخب التي ستصنع الغد في العالم العربي .هذه الأولويات تندرج في منظور بعيد المدى : نريد المساهمة في بناء نوع من المجموعة الأورومتوسطية الكبرى، وهي ورقة بالغة الأهمية لأوربا وللعالم العربي في العولمة. لقد انطلق «الاتحاد من أجل المتوسط» من طموح جميل لكن تعوزه الدقة. ربما لم يكن من الواقعي محاولة إدماج ضفتي المتوسط في مجموعة واحدة جامدة، بدعوى تجاوز الاختلافات والخلافات بل والنزاعات القائمة بين الضفتين. ولذلك لم يصمد طموح «الاتحاد من أجل المتوسط» أمام أولى الصعوبات. بيد أنه ينبغي الاستفادة من أمانته العامة التي أبانت عن جدواها في تدبير مشاريع تعاون ملموسة. وعوض إعادة فتح الملف المؤسساتي، أؤمن بمنهجية التعاون ،الخاص بكل حالة على حدة، والقمين بجمع بلدان متطوعة في مشاريع محددة. فنحن بحاجة إلى أشكال مختلفة للاستجابة لأوضاع مختلفة. علينا أن نحرص على تنفيذ وعود «دوفيل» للشراكة: وعود دعم البلدان التي تعيش حالة انتقالية، ماليا واقتصاديا واجتماعيا. بالنسبة لبلدان المغرب العربي، فإن فرنسا تقتسم معها مسؤولية خاصة. علينا أن نكون إلى جانبها، عناصر بناء فضاء للتعاون والتبادل بين الضفتين. لكن من الضروري أن تنخرط أوربا بأكملها في الشراكة مع العالم العربي. ولهذا السبب تتحمل فرنسا باقتناع تام هذه الأولوية المتوسطية نحو شركائنا في الاتحاد الأوربي، طبقا للروح الأصلية لمؤتمر برشلونة سنة 1995. إن اتحاد المغرب العربي، يبدو كما لو أنه يستعيد حياته، بفضل دفء العلاقات الجزائرية-المغربية وبفضل رغبة تونسية قوية. وغير بعيد عن الدائرة المتوسطية، انطلق مجلس التعاون الخليجي مؤخرا، والاتحاد الأوربي له معه حوار منتظم، بيد أنه ينبغي التقدم أكثر والبدء في شراكة حقيقية معه. هناك «عالم عربي جديد»، وهو متنوع، يتقدم ويتقهقر، لكنه في الأساس يتكلم لغة الحرية، التي تجد في بلدنا صدى قويا. فعلينا استثمار هذا التعاطف وتقويته. إن الثورات العربية تفتح صفحة جديدة لهذا اللقاء التاريخي بيننا. فعلينا كتابتها معا، بصداقة وشراكة مع الشعوب العربية، جاعلين من البحر المتوسط فضاء واعدا للاقتسام والتعاون.