1 الجسد هو بوابة حداثتنا . إنه حقل انطباقها المباشر في الفرد . يصعب أن نعتبر مجتمعا ما لا يقر بحق الفرد في جسده مجتمعا حداثيا. فالمجتمعات التي تنتزع من الفرد حق تصرفه في جسده و تفرض وصايتها عليه تحرمه من المجال الأكثر حميمية الذي يصرف فيه وجوده . الحداثة في عمقها هي هذه الحماية القيمية و السياسية من تدخل الجماعة في خصوصية الفرد التي هي مجال حريته المفصولة بشكل واضح عن المجال العام . والكائن الحداثي هو الفرد الذي يعي جيدا أن كل تطور لا يوسع من حريته الشخصية التي تختبر مباشرة في جسده ، لا يمكن اعتباره تطورا إيجابيا . و قديما قال إيمانويل كانط أن التنوير هو رفع الوصاية على العقل ، اليوم يمكننا أن نضيف على ذلك أن التنوير الجديد هو رفع الوصاية على الجسد . 2 هناك التفاف تاريخي على إدراك الإنسان لقيمة جسده باعتباره المجال الأساسي لقياس مدى حريته . فقد تكرست منظومة ثقافية تتجمع بكاملها حول احتقار الجسد واعتباره مصدر ورطته في الزمان، و أن كل ما يُنصف الجسد يُغرق في الخطيئة . و أن لا خلاص إلا في قمعه و محاربة أهوائه وتقليصها إلى الحدود الدنيا إلى أن يحين موعد التخلص منه نهائيا بالموت . وداخل هذه المنظومة كان « الروح « هو الإسم الذي تم ابتكاره للدلالة على إهانة الجسد و احتقاره . فقدم كنقيض مطلق له . 3 أنا واحد من تلك المجموعة التي كرست حضورها الفكري في المغرب انطلاقا من نقطة اساسية هي اعتبار الجسد قضية الإنسان القصوى في الوجود . إننا لا نرغب في فلسفة تشرح للناس ما قاله الآخرون في كتبهم ، بل في فكر حي يمثل في حد ذاته أسلوبا في الحياة . فنحن لن نكون أبدا أحرارا و أجسادنا مضطهدة . كتبت كتبا سؤالها المركزي هو الجسد ، لانه هو الموضوع الأكثر جدية الذي ينبغي أن نفكر فيه ، و ذلك بالنظر إلى تطلعاتنا التحررية أولا ، و ثانيا بالنظر إلى ما راكمه الطب و علوم أخرى من تحولات جوهرية تغير أسس نظرتنا لأنفسنا و للعالم من حولنا. إن بناء مشروع إنساني يأخذ فيه الإنسان موقعه الذي يستحقه كقيمة عليا يمر بالضرورة عبر إعادة الاعتبار للجسد و موقعته في مركز هذا المشروع، بما يتفرع عن ذلك من بناء قيمي يثمن الحياة و يرفع من شأن الرغبة وينتصر للحواس و يمجد الحاضر 4 يتنازع الروح والجسد على جوهر الإنسان، لمن الغلبة؟ عمليا الجسد، وليس فقط الطب والصيدلة هو ما يثبت ذلك ،بل الرياضة و التجميل و غيرها . يمكننا أن نقبل اليوم بالروح بشرط أن تكون اسما ثانيا للجسد. إنها تنسيق من تنسيقات الجسد. دافعت في أحد أعمالي (الذي صدر بعنوان : الفرد، الكونية و الله: الحق في الجسد) عن فكرة الجسد كحق لا ينبغي التفاوض في شأنه أو تقديم تنازلات بخصوصه، لأنه جوهر وجود الكائن الإنساني، و لنحذف الجسد، ولنر ما يتبقى من الإنسان . لاشيء . فقمة النزوع العدمي يتبدى في شكل من التفكير والرؤية يقنع الناس أن الجسد فضلة لاطائل من ورائها ، تورط الناس في الرذيلة و اللذة الرخيصة والمباهج العابرة ، لذلك ينبغي توظيفه لصالح مرحلة مابعد التخلص منه. مثل هذا الشكل من التفكير والنظر يحمل أسوأ وأخطر مشروع استعبادي للبشر، لأنه يزرع فيهم حقدا على طبيعتهم وعلى ما به ينفتح وجودهم، بل ويدفعهم إلى اعتبار كل ما يُفرح في الحياة و يبهج و يمتع شرا كبيرا وغواية شيطانية ينبغي التصدي لها . فتتحول الذات إلى حقل مفتوح لحرب دائمة يخوضها الشخص عينه ضد نفسه، أي ضد جسده الخاص ومتعه ولذاته ، تلك التي بدونها تصبح الحياة غير محتملة . 5 أميز هنا بين الجسد و الجسم ، قمت بذلك في كتابي الحق في الجسد . بكل بساطة فالجسم هو نظام الحاجة . و الجسد نظام الرغبة . في الجسم نخضع إلى منطق النقص الذي تمليه الحاجة فأنا في حاجة إلى الطعام لأنني جائع . هناك نقص يتحرك في الحاجة و يخضعني لنوع من حتمية الارتباط بالخارج ، فأنا أجلب موارد سد النقص الناتج عن الجوع من الخارج ، لكن الأمر يختلف عندما أشتهي الطعام اللذيذ ، في هذه الحالة فانا أنتج شيئا جديدا لا تفرضه علي أية حتمية . أنا أختاره بملء حريتي ، إنني لا أرغب في سد النقص و إنما في خلق موضوع جمالي لحاسة الذوق . جوهر الجسد هو الرغبة . بل إن التجربة الإنسانية تبدأ مع الرغبة ، فلأننا كائنات راغبة ، فنحن ننتج التاريخ و نستدعي المستقبل . عندما نفرق بين الحاجة باعتبارها نقصا و الرغبة باعتبارها إنتاجا ، فإننا نفهم جيد ما الذي يفرقنا عن الحيوان ، فالحيوانات تنتظم بكاملها حول الحاجة، لذلك فهي لا تبتكر شيئا في موضوع غذائها ، و تخضع للحتمية الطبيعية و لا تقاومها، أما الإنسان فهو يتجاوز كونه مجرد جسم ، أي حاجة، ليشيد كيانه بكامله انطلاقا من جسده أي انطلاقا من رغبته . أكيد أنكم تطلبون أمثلة . كل تفاصيل حياتنا أمثلة على ذلك . دعونا نتأمل عدد صنوف الطعام التي ابتكرها البشر من مشارق الأرض إلى مغاربها . محركهم في ذلك الرغبة في اللذة و ليس في سد النقص . هل الشوكولا مثلا ابتكرت لسد النقص الناتج عن الجوع ، أم من أجل المتعة . إن الإنسان تجاوز في اللباس مفهوم الرداء الذي يحميه من تقلبات الطقس أو ليخفي تفاصيله الحميمة ، بل حوله إلى تأويل جمالي للجسد من خلال مفهوم الأناقة . إننا نختار ملابسنا و نتفنن في ابتكار أشكال مدهشة لها ، لأننا لا نرى فيها فقط حجابا و إنما موضوعا ممتعا ، أي أنها قيمة جمالية. و في كل هذا فالرغبة تحررنا من الضرورة و تنقلنا إلى مجال الحرية . بمعنى آخر أن الجسد نظام الرغبة هو مجال تحررنا الفعلي . مملكتنا الإنسانية الحقة . 6 من يتنكر للجسد يتنكر لنفسه، و لوضعه ككائن إنساني . دعونا نتساءل : كيف يمكننا أن نتصور إنسانا بلا وجه ، و بلا رغبة و لا حواس ؟ إن ذلك لا يعني شيئا آخر غير إفراغ الإنسان من إنسانيته و من طابعه الحي ، و تحويله إلى كيان مجرد ، أي إلى فكرة بلا حياة تسبح في الفراغ . كل شيء في الإنسان يبدأ مع جسده . فرغبته مثلا هي التي تخلق مستقبله لأنه يرغب في شيء غير متحصل بعد ، و الحاضر ينفتح من خلال الرابط الذي يخلقه الجسد بالزمان و المكان فيحولهما إلى تجربة للآن و الهنا ، و الجمالية لا تحصل على مضمونها إلا من خلال تذوق الحواس للعالم الذي تعيد بناؤه بشكل جمالي ممتع و لذيذ ... 7 يستدعي الأمر هنا التمييز بين أسلوبين من النظر الأول يموقع نفسه في صلب الحياة، والثاني يفكر في الحياة من موقع أولوية الموت. لذلك نجد الثاني يزدري الجسد ويبخس قيمة الحواس ويحط من شأن الرغبة لأنه ينتصر للموت، ولذلك نجده يمجد الضعف ولا يرى في الحياة سوى الأسوأ. شعاره في ذلك الحياة فرصة عابرة للتهيؤ لما بعد الموت . لكننا نلاحظ هنا أنه حتى أولئك الذين لا يحلمون إلا بالآخرة ، يجتهدون من أجل الظفر فيها بالجنة و تجنب الجحيم لأن هذا الأخير كما يتخيلونه معقل العذاب الذي يتصورونه جسديا محضا، في حين أن الجنة ليست سوى وعد بمتع الجسد في وضعها الاقصى بل وحتى الأكثر إيروتيكية، إنها تعويض لما تم التضحية به في الحياة، أي اللذة التي لا تنتهي والرغبة التي لا تخبو و النساء اللائي يحققن قمة الجمال .. في حقيقة الأمر فالجسد الذي يقاومونه في الحياة ويبخسونه ويزدرونه هو الذي يهيمن على تطلعهم الأخروي . وهي حقيقة صادمة بالنسبة لهم قلما يعترفون بها . أما الشكل الأول من النظر وهو بالمناسبة أقل نفاقا والذي كما قلنا يفكر من موقع الحياة فهو يضع الجسد في موقعه الطبيعي والعادي ، والذي يفصح عن نفسه بلا تعقيد. فجسدي هو مجال الذي تتحقق فيه حياتي، ومن خلاله أشرع في الوجود وأستمر فيه، وبه أكون، وبانتفائه أنتفي . هو حقل اختبار حريتي التي بعيدا عنه تصبح شكلا فارغا بلا مضمون. فأن نعترف أخيرا بأن الإنسان يستحق جسده، ذلك هو باب حداثتنا الذي مازال موصدا، والذي ينبغي لنا أن نبذل مجهودا أكبر لفتحه . وذلك بالضبط ما أحاول القيام به . 8 مشكلة العرب أن الكثير منهم يعتقد أن مشكلته الحقيقية مع الحاكم ، و أن هذا الأخير هو المصدر الوحيد للاضطهاد الذي يعانيه، دون أن ينتبه إلى الاضطهاد الذي يمارسه النظام الثقافي الذي يستولي على عقول الناس و يسيطر على حياتهم . أي هذا النظام الذي يوظفهم ضد حريتهم الخاصة، وضد أجسادهم و ضد ما يستحقونه من متعة و لذة و بهجة .. إن المشكل الأكبر في العالم العربي، و محنة الجسد فيه ، متأتية من النظام الثقافي الذي يجعل من الإنسان مجرد وسيلة لتحقيق غايات فوقية بعيدة عنه . و أعتقد أن هذا الوضع هو الذي يضاعف من مهمة التنوير لدينا . 9 من المؤسف حقا أن يظهر اليوم من يعمل على أن يعيدنا إلى مستوى الحاجة ، أي أن نغدو مجرد أجسام تتحرك بموجب منطق النقص و الضرورة . فهو يرفض مثلا القيمة الجمالية للباس و يسعى إلى إلزامنا بمفهوم اللباس الضرورة الذي هو حجاب الذي يتأسس عليه مفهوم قدحي للجسد باعتباره عورة .. هذا النزوع مضاد للإنسانية ، لأن كل ماهو إنساني يبدأ بالرغبة و معها . فالرغبة تستحوذ على الحاجة نفسها و تعيد تشكيلها ، و تخلق منها منها شيئا جديدا ، تضيفه إلى العالم. إنها تحفر في عمق الضرورة أي ما يظهر أنه حتمي بموجب منطق طبيعي لتجعل منها مجالا للحرية. كيف مثلا ، تمكنا من القيام برحلات جوية، وتحررنا من قانون الجاذبية ، لولا الرغبة التي حركتنا فوظفنا قانون الطبيعة ضد نفسها . ما أدعو إليه هو فقط الانتباه إلى تفاصيل حياتنا وتفضيلاتنا فيسهل علينا استنتاج، أن كل شيء إنساني يبدأ مع الجسد، أي مع الرغبة . و بقدرما ما نُفصل عن رغباتنا فنحن نصير أقل حرية . 10 ينعكس ذلك حتى على تصورنا للأخلاق . إذ من الغريب أن يحتكر الحرمان و النقص و القمع مفهوم الأخلاق لدينا . أتحدث عن تمثل الناس الذين يعيشون بيننا . إذ لا فضيلة لديهم إلا حيث يسمع صوت الحرمان و لا أخلاق إلا حيث يسود الكبت و يهيمن التنكر للمتعة و الرغبة . ليفتح المجال لفرض مساواة بين الأخلاق و الزجر . حتى أصبح الشخص الأخلاقي جدا هو ذاك الذي يرفض متعه و يقاوم نزوعه نحو اللذة و يقدس حرمانه و يمجد كبته الخاص و يحارب جسده ، أي يدخل في معاداة للطابع المبهج للحياة . لذلك فهو يريد طمس وجه المرأة لأنه بالنسبة له مبعث الفتن التي تغرقه في البحث عن اللذة ، و لهذا يظهر هذا الطمس عنده في صيغة واجب أخلاقي محترم . فليس الأسياد هم الذين يستعبدوننا و إنما أفكارنا ومعتقداتنا عن أنفسنا و عن العالم من حولنا المصدر الحقيقي لاضطهادنا . و بالمقابل ففي مجتمع إنساني مدني ينظمه القانون المدني الذي يحدد توازن الواجبات والحقوق بين الناس ، فالأخلاق تحمل مضمونا مغايرا تماما . فهي تكف عن أن تكون منظومة زجرية، لتصبح نظرية جمالية للحياة ، تسمح للفرد في حدود خصوصيته و فرديته التي لا تلزم الآخرين، بصياغة إمكانيات جمالية لوجوده ، أساسها حريته الشخصية . الأخلاق هنا تغطي ذلك المجهود الذي نبذله لكي نظفر بحياة جميلة و ممتعة. و ما يسمع فيها هو صوت الحرية و ليس صوت القمع ، صوت الإشباع و ليس صوت الحرمان ، صوت الانطلاق الفردي و ليس صوت سلطة الجموع و تسلطها . إني ألاحظ في المغرب مثلا، وربما في مجتمعات عربية أخرى ، أن هناك طائفة لا ترى مشكلا أخلاقيا يهدد المجتمع إلا في ملابس النساء ، و في تعبيرهن الشخصي عن فرديتهن . و هو شيء يدعو لكثير من الشفقة . 11 الطب أثبت أن تجربة الإنسانية هي تجربة جسد بالدرجة الأولى . في تقنية نقل و زرع الأعضاء يوظف الموت لصالح الحياة . وفي جراحة التقويم و التجميل يؤكد أن الوضع الطبيعي ليس إلا إمكانا ضمن إمكانيات أخرى يمكن للفرد أن يختار من بينها ما يناسبه، وأن المثالي كما يتصوره الفرد في هيئته و صورته يمكن أن يتحقق ، و لا شيء قدري و لا حتمي في ذلك . بل إن الطب غير من مفهوم القدر نفسه الذي أصبح يعني حدود تطور التقنية الطبية في مرحلة ما. فالذي أصيب بمرض اختناق أوردة القلب في زمن لم تكن في تقنية القسطرة متاحة ، غير ذاك الذي أصيب بنفس المرض لكن في ظل وضع أصبحت فيه هذه التقنية منتشرة في مختلف المستشفيات و المصحات . إن القدر هنا بشري محض . لكن الأهم في كل ذلك ، هو أنه سواء من خلال التدخلات الجراحية أو العلاجات بالأدوية، فالجسد اليوم يفرض نفسه على كل الناس باعتباره حقيقتهم وماهيتهم الجوهرية التي تخضع في الطب لنفوذ بشري . فهو يقوّم أعطاب ما كان يعتبر قدرا فوقيا محتوما لا تستطيع يد البشر أمامه شيئا . جراحة التجميل و التقويم مثلا كشفت أن القبح والتشوه ليس قدرا ، مثلما أن تدخلات جراحية أخرى أثبتت أن العماء ليس توقيفا ، و أن الضعف الفيزيائي يمكن تحويله إلى قوة بفضل تدخلات كيمائية منشطة ، و أن وظائف الأعضاء يمكن تجويدها و تحفيزها، وأن العقم ليس قدرا بل يمكن تجاوزه بتقنيات محددة .. الطب اليوم يكتسح مجال القدر ويهاجمه وينال من نفوذه . إن الروح نفسها غدت تنسيقا من تنسيقات الجسد . والناس عندما يمرضون يستسلمون لسلطة الطب لأنهم يرغبون في تحدي ما يعتبرونه قدرا، لكنهم يرفضون الاعتراف بذلك على المستوى الثقافي . وقاعدة كل ذلك أننا بالدرجة الأولى أجساد، وكل شيء في حياتنا متاح أمامنا انطلاقا من أجسادنا.ولو كان الناس بيننا يتأملون قليلا ما يطلبونه من الطب عندما يقصدون عيادة طبيب أو مستشفى أو حتى صيدلية ، لسهل إدراك هذه الحقيقة.