المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    موظف بالمحكمة الابتدائية بطنجة خلف القضبان بتهمة النصب وانتحال صفة    الكشف عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة    المغرب يستعد لإطلاق 5G لتنظيم كان 2025 ومونديال 2030    ينحدر من إقليم الدريوش.. إدانة رئيس مجلس عمالة طنجة بالحبس النافذ    الفتح الرباطي يسحق النادي المكناسي بخماسية    أمن البيضاء يتفاعل مع مقطع فيديو لشخص في حالة هستيرية صعد فوق سقف سيارة للشرطة    رابطة حقوق النساء تأمل أن تشمل مراجعة مدونة الأسرة حظر كل أشكال التمييز    بوريطة : العلاقات بين المغرب والعراق متميزة وقوية جدا        ميداوي يقر بأن "الوضع المأساوي" للأحياء الجامعية "لا يتناطح حوله عنزان" ويعد بالإصلاح    الملك محمد السادس يعزي أفراد أسرة المرحوم الفنان محمد الخلفي    "البيجيدي": حضور وفد اسرائيلي ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب استفزاز غير مقبول    موانئ الواجهة المتوسطية: انخفاض بنسبة 17 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري عند متم نونبر الماضي    "نيويورك تايمز": كيف أصبحت كرة القدم المغربية أداة دبلوماسية وتنموية؟    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    متضررون من الزلزال يجددون الاحتجاج على الإقصاء ويستنكرون اعتقال رئيس تنسيقيتهم    حملة اعتقال نشطاء "مانيش راضي" تؤكد رعب الكابرانات من التغيير    دياز يثني على مبابي.. أوفى بالوعد الذي قطعه لي    "بوحمرون" يستنفر المدارس بتطوان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء            الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    أخبار الساحة    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط        فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخفة أسلوب في الحياة و الكتابة

تهم الجماليةُ الحياةَ . لأنها اشتغال على إمكانيات الجسد في خلق المتعة . لا يمكن تصور جمالية مفصولة عن الحياة، أي عن المجهود الذي يبذله الجسد لانتزاع إحساس ممتع . مثلما لا يمكن تصور جمالية مفصولة عن الحواس ، أي التذوق المنتشي لهذه الحواس لما تحوله من العالم كموضوع لها .
يمكننا من الآن أن نطلق لفظ « الجمالية « على المجهود الذي يبذل من أجل انتزاع المتعة من خلال إمكانيات الجسد . فالتذوق الحسي الذي يتم عبر الجسد هو الذي يمنح الشعر جمالية .أي ذلك التذوق المنتشي الذي يحدث من خلال العين و الأذن و اللسان و الأنف و البشرة . و نفس الشيء بالنسبة للوحة تشكيلية أو أغنية أو مقطع موسيقي أو طبق لذيذ أو عطر نافذ ؟ ففيها يتحقق الجوهري في الجمالية و المتمثل في شحن الحواس بالخفة التي تجعل العالم مطلوبا و مرغوبا و ليس فقط ضروريا .
ليست الجمالية فكرة، و إنما تجربة . و خارج التجربة التي تختبر في أداء الحواس و رغبات الجسد تغدو الجمالية شكلا فارغا قد يتحول إلى مفهوم ثقيل يصلح لإنهاك أذهان القراء أو أولئك الذين فقدوا أثر الحياة في الكتب ، لكنه لا يحفزهم على الحياة . كلما تحفزت الحواس أكثر و تقوّت الرغبة و اشتدّ الشغف بالحياة نكون بصدد تجربة فعلية للجمالية . و هي التجربة التي تقنعنا أن الحياة وعد بالمتعة ، لذلك يشتد شغفنا بها و انشدادنا إليها و طلبنا المزيد منها . و عندما تفتقر الحواس للتحفيز فهي تكف عن الاشتغال و العالم يكف عن الحياة أمامها . هذا التحفيز هو الذي يجعلنا نحتكم لحواس حية التي تجعل بدورها العالم أمامنا كيانا حيا .
و بقدر ما تكون الجمالية تجربة تُختبر في الحواس و الرغبة ، بقدر ما تكون حصيلة تمرين يومي لابتكار إمكانيات ممتعة للحواس و الجسد . و هذا يعني أن الفن لا يحقق قيمة الجمال في ذاته بقدر ما يحققها في الحياة . إن جمال اللوحة لا يتحقق إلا من خلال ذلك التحفيز الذي يمنحه للعين ، بمعنى أن الجمال ليس مقصودا في اللوحة في حد ذاتها ، بل في المفعول الذي تخلقه في الحواس و الرغبة و الذي تتغير معه قيمة العالم و معنى الحياة .
تعني الخفة هنا العيش من خلال متعة الحواس و حماس الرغبة، و تتحقق الجمالية عبر هذه الخفة . و إذا انتفت الثانية انتفت معها الأولى . و لا مجال للفصل بين الاثنتين . فبعد أن حرَّ رَنا الطب من ثقل السر أضحى بإمكان الجسد أن يخلق الأهم ، وهو أن يجعل باب المتعة مشرعا في الحياة ، و أن يتيح وجودا خفيفا ملتزما مع نفسه و مع متعته الخاصة .
يعني العيش بجمالية العيش بخفة في الأفق الذي حددناه سابقا ، عيش لا يلزم نفسه بمعنى سابق و لا بقيمة عدا تلك التي تثبت الحياة و تزيد من قوتها . و لأنه عيش يحقق قيمته الأساسية من خلال المتعة، و لأن الظفر بالمتعة يستدعي مجهودا ، فذلك يستلزم أسلوبا في صياغة اللحظة و تطويعها من أجل أن تغدو ممتعة و مشبعة للحواس و منصفة للرغبة .
العيش بخفة هو عيش في الحاضر ، إمكانه الوحيد في الزمن هو اللحظة التي تجتازني ، إن الخفة تدرك في الآن و الهنا و لا تتعلق بأمل ، إنها ترتبط بمجهود يعمل بإصرار لجعل المتعة شيئا راهنا يختبر في إحساس مباشر للجسد و حواسه . ذلك ما نسميه بالنزوع نحو الأبدية . فالأبدية تسكن اللحظة و لا تتجاوزها . لأنها تعني الإحساس الممتع الذي لا يقاس بالزمن و المنتزع من اللحظة في عبورها ، إنها بمعنى ما أثر للحاضر يدعى عادة بالانتشاء . توجد الأبدية في رشفة فنجان قهوة أو هبة خاطفة لرائحة العطر أو في تذوق قطعة شوكولا ..
إن الكلمات التي لا تمنح للحياة قدرات مضاعفة تكف عن أن تكون ذات وجود شعري . فالشعر الحقيقي هو ذاك الذي يتيح للحياة بأن تكون في حد ذاتها عملا فنيا، يقوي الحواس و يضيف إليها قدرات جديدة في تذوق العالم .
لا ينتبه الكثيرون أن الحياة التي بين أيديهم ، و التي يعملون على صنعها هي إنجاز فني يستند إلى اجتهاد و ابتكار . فعلاقة الفرد بحياته الخاصة التي يكون تحققها الوحيد ،هي علاقة انشغال فني تقوم على ممارسة اختيارات معينة وكل لحظة فيها هي حصيلة عمل و بناء . و يحاول البعض أن يجرد الحياة من كل العناصر التي تجعل منها عملا فنيا فهي تتحمل ضغط قدر لا اختيار فيه ،هو قدر الجسد و الزمان والتناهي المُملى من قبل قوة عليا تتصرف في الصغيرة والكبيرة لحياتنا دون أن يكون لنا حق التصرف . فالجسد بالنسبة لهم ليس حقل مباشرة اختيارات يقوم بها الفرد و إنما مجال الرضوخ لإملاءات .لكن مغامرات الطب آخذة في تكذيب هذا الرؤية ،بل هي تثبت يوما بعد يوم من خلال مجهود متواصل في قاعات الجراحة و مراكز الترويض و العيادات و المصحات و المختبرات الصيدلية ، أن الجسد هو المكان الأسمى و في نفس الوقت الأكثر حميمية الذي يُطالبنا بأن نطرح إمكانات اختيارنا عليه . أبسط مثل على ذلك هو جراحة التجميل و تقويم الأعضاء التي تتم على قاعدة مُباشَرة اختيار مابين حالتين ممكنتين أو أكثر، و تكون الحالة الواقعية المراد تغييرها إحداها فقط . فالمبدأ الذي يقترحه علينا الجسد من خلال مكتسبات الطب و الصيدلة هو « يمكنك أن تختار و تغير..» حتى الجنس ( أي الانتماء إلى الذكورة و الأنوثة ) أضحى مجال اختيار لأن مسألة البقاء على نفس الجنس أو تغييره أضحت طبيا مسألة قرار قابل للتنفيذ في حدود الحرية المتاحة للفرد. لكنه لم يعد بأي وجه من الوجوه قدرا حتميا يتلقى مفعوله .
يبدو من خلال الأمثلة السابقة أن العنصر الأساسي الذي يجعل من الحياة عملا فنيا يعاش و يُجرَّبُ و يُنتشى به هو الحرية . إنه متعلق بما نختاره كأسلوب لوجودنا الشخصي ( الغارق في الفردية ) للظفر بحياة جميلة . و يهم ذلك القرارات الصغيرة التي من خلالها نُدبِّر اللحظة و نجعلها مسخرة من أجل إرادة المتعة، و من أجل أن تكون اللحظة في عبورها و تلاشيها أبدية حقيقية أي نشوة لا تقاس بمعيار الزمن .
كل اجتهاد لجعل اللحظة شيئا مبتكرا هو عمل لجعل وجودنا استثناء . لأننا لسنا شيئا آخر غير هذه اللحظة نفسها . إنها مجالنا الفسيح الذي نبني فيه أنفسنا كمشروع جمالي يكون فيه أبسط سلوك أو تصرف استراتيجيا لتذوق متعوي لإمكانات العالم .
سأعرج هنا على مجال تختبر فيه هذه الحقيقة بقوة. إن مهمة الكتابة هي أن تمنحنا ذلك التحفيز لممارسة الحياة للإقدام عليها بشغف ، و أن نقتنص إمكاناتها القصوى . ليس مطلوبا من الكتابة أن تقدم لنا معنى ، لكن أن تولِّد فينا طاقة للحياة. و تضاعف شهوتنا في الوجود . الكتابة الجيدة هي التي تجعل فاقد الشهية يقبل على مائدة الأكل بنهم ، و تجعل العاجز عن الاستلذاذ ينتصب ، و تجعل الخامل يتحمس . إن مهمتها هي إذكاء شهوة الحياة بقوة . و ذلك بالضبط معيار فشل كتاب ما : عندما نقرأه و لا يزيد حماسنا للوجود و تَحفُّزنا للحياة و شهوتنا للمتعة .. إذ ما الداعي إلى خلق معنى لا يدهش الحواس و لا يمنحنا توقا إلى أجسادنا و لا يعيدنا إلى حياتنا الخاصة تلك الحياة التي تتحدث من خلال رغبتنا ، بنهم كما لو عثرنا عليها لأول مرة ..
ما الداعي لقراءة قصيدة شعرية لا تؤثر في مجرى تفاصيلنا الرتيبة و تدفعنا إلى الإقبال على فنجان قهوتنا كلحظة رومانسية نادرة ، و على النظر إلى الشجر كبهجة غير منتظرة ، و إلى نهد امرأة كلذة غير متاحة إلا مرة واحدة و إلى الأبد .. تدفعنا إلى الموسيقى و الحب و تمنحنا فرصة الالتقاء بأجسادنا ..
الكتابة الحقيقية هي تلك التي تدفعنا مباشرة إلى الفن كفضاء لممارسة الحياة ، لمنحها شكلها الأسمى و غايتها القصوى أي المتعة .
إن رؤية شاعر تظهر أكثر في تفضيلاته في التغذية ، في اختياراته في العطور و في ذوقه في المشروبات أكثر ما تظهر في الكلمات . إن الأمر يتعلق بجعل الكتابة أسلوبا للحياة تعاش من خلاله و تبدد و ليس متحفا للجمل الباردة أو رفا لا متناهيا من العبارات التي تنتهي مهمتها بمجرد إغلاق دفتي الكتاب .
بمعنى آخر ، إن الكتابة دليل على المجهود الممارس لتجميل اللحظة والتأنق في ابتكارها . لذلك كثيرا ما بدت ممثلة سينمائية أو عارضة أزياء أو مغنية أكثر شعرية من صاحب العشرات من الدواوين المملوءة بالحبر .
إن المفهوم النواة لفكرة الكتابة هو الطاقة . و هو ذات المفهوم الذي أغفله النقد و الخطاب المنظر لجدوى الكتابة خالقا تشعبات نظرية تدور حول المعنى أو البنية أو الشكل .. فالطاقة من حيث هي قدرة نظام على تحويل حالة ما ، و توليد عمل ما أو حركة أو إشعاع ، هي التي تمنح للكتابة قوتها و قيمتها . كثيرون ينسون أن قوة الاستعارة تكمن في قدرتها التحويلية المنتجة لفعل معين أو حركة . إنها لا تقف عند حدود إبدال شيء بشيء آخر ، بل تحول كيانا و تعدل وضعية و تطلق من خلال ذلك سلسلة أفعال تنتهي محصلتها عند خلق الصورة أو ما يسمى بفعل التخييل .
إن أساس فكرة الاستعارة فيزيائي و مفعولها فزيولوجي . لأنها تنطوي في عملها على طاقة لأنها تحول شيئا ما في اللغة بشيء آخر و تحدث في الجسد طاقة أخرى. مثلما أن مفعول الكتابة ، جماليتها و قيمتها تدرك في الجسد ، فيما تحمله من تأثير في الأعضاء و وظائفها ، و في تحفيز الحواس على تذوق مختلف للحياة و العالم . فالطاقة هي القوة قيد الفعل ( كما تحدد حرفيا في اليونانية ) . و ذلك بالضبط ما نقرأ من أجله : تحفيز أكبر للأعضاء و الحواس لممارسة الحياة و خلق إمكانات جديدة و مختلفة لتذوقها ، و تعديل وضعيات نفسية و فزيولوجية و تحويل أخرى . إن الفرح هو غاية الكتابة ، إنه هدف كيميائي لعمل الفيزياء الذي يشتغل بين الكلمات و الجسد . أي بين الطاقة التي تولدها و ما تستدعيه من تحولات محدثة لطفرة الفرح .
إن الصيغة المنصفة للكتابة هي التي تطرح انطلاقا من مفهوم الحياة ، من الجسد و من الطاقة و الفيزيولوجيا ، و ليس انطلاقا من البنية و الشكل و المعنى ... ففعل الكتابة هو فعل تحويلي منتج ، أي طاقة مُحَفِّزة . و ما ينبغي البحث عنه في صلبه هو كمية التحفيز التي ينقلها للحواس و للرغبة في الحياة ، أي ذاك الحماس الذي يجد تعبيره كيميائيا في نوع من الإفراز المحدث لطفرة الفرح ، و تلك الزيادة في قوة الأعضاء و وظائفها، الذي يؤدي مباشرة إلى اكتشاف و ابتكار إمكانات جديدة و غير منتظرة للحياة ..
لا يمكن أن نعثر على قوة الكتابة في آليات بنائها لوحدها ، بل فيما يترتب عنها من تأثير في اشتغال الحواس و عمل الرغبة ، و بشكل مباشر في ما يجعل القدرة على الحياة تشتد و تزيد قوة فتفصح عما يتجاوزها : تلك الإمكانات غير المحددة مسبقا بمبدأ قبلي يجعلها منتظرة ، فتمنح بذلك شكلا استثنائيا في الوجود الفردي يعبر عن نفسه في ما تخلقه الرغبة من استثناءات و فيما تبنينه الحواس من انفلاتات . لذلك فالمعايير الحقيقية لتقييم الكتابة تتحدد في ثلاث مستويات هي التحفيز و الحماس و الطاقة ، أي تحفيز الرغبة و حماس الحواس و طاقة الحياة .
و بقدرما تكون الحياة و الفيزيولوجيا و الكيمياء الموطن الفعلي للكتابة و منبع قوتها و مجال اختبار فعاليتها ، بقدرما يكون مجال تجريبها هو الحواس ، التي تُدفع بسبب مفعول الكتابة فيها إلى تذوق ما لم تتذوقه من قبل ، و رؤية من الألوان و الأشكال ما لم يظهر لها أبدا ، و استنشاق من الروائح ما لم يحمل إليها قبل ذلك، و تنصت إلى تنويع صوتي لم يحدث لها أبدا أن أنصتت له . إنها تنخرط في بناء جمالي لمواضيع جديدة لإشباعها الخاص . ينعكس ذلك على فعل القراءة . و عندما أقول « فعل « فإن ذلك ينبغي أن يدرك كممارسة و ليس كفكرة تستوطن عالم الماهيات المجردة . فالممارسة تعمق تمزق الزمن لإفراز اللحظة كمجال لمباشرة الحياة . إنها تدخّل يعدّل من وضعيات و يخلق مصائر جديدة لصيرورات و يفتح أفاق مختلفة ، إنها فعل منتج يولد شيئا آخر . لذلك فالممارسة قوة قيد الفعل. و القراءة التي لا يغطي مضمون فعلها فقط فك شفرة الرسالة ، تعين ذلك المجهود الذي يحدد ما نحن بصدد البحث عنه في الكتابة . و في هذا المستوى يكون المعنى لذاته آخر ما نبحث عنه ، أو بتعبير أوضح يكون شكلا ابتدائيا للحصول على الأهم و هو التحفيز على ممارسة الحياة . إننا نقرأ من أجل الحصول على الطاقة و ليس من أجل الظفر بمعنى .
حينئذ نكتشف أن الكتابة المنتجة للطاقة في صلب الجسد ، تفتح العالم بكامله أمام الرغبة و الحواس كشهوة تبتكر ما تشتهيه . و تمكّن الجسد تلك الآلة الراغبة من ثورته الخاصة ، أي تلك الثورة التي تنجز فيه محررة قواه و رغباته و مضاعفة قدراته على الاستمتاع و مواصلة السعي نحو بناء عالم ممتع و مفرح .
يفسر ذلك لماذا وحدها الكتابة الحسية هي التي تظل أقوى في هجرتها بين اللغات ، لأنها لم تؤسس نفسها في حضن لغة معينة و لم تبن عالمها من خلال ما تضخم من الزوائد البلاغية لهذه اللغة ، و إنما تُكوّن نفسها في صلب عالم الحواس الذي لا تخنقه حدود لغوية و لا تضعفه تحولات نحوية أو معجمية .
عندما تبتعد الكتابة عن الحياة تفقد نفسها . و عندما نفصل بين الطرفين تغدو الكتابة شيئا آخر في عملية أشبه بافتقاد الماء في الفصل ما بين الهدروجين و الأكسيجين . و متى أتلفت الكتابة الفرح ، أتلفت معه الخفة و من خلالها أتلفت مبررها الجوهري الذي يتمثل في تحفيز كل تلك القوى و الطاقات التي تتدفق من مواقع مختلفة للعمل من أجل خلق طفرة الفرح في الجسد . هذه الطفرة التي تعني بلوغ جسدنا لحظة قوته القصوى .
كل من يجتهد في خلق الفرح و في زرع شروط الرغبة في المتعة و في الانتشاء يساهم في إعادة اكتشاف الإنسان و في زمنيته الأصيلة ، أي اللحظة الممتعة المشتل الفسيح للمستقبل . و ما أن نحرم الناس من حقهم في المتعة و حقهم في السعي إلى ما يمتعهم حتى نشرع في حرمانهم من إنسانيتهم . إن إنتاج الفرح و المتعة معركة من أجل الإنسانية ، عكس نزعة تمجيد « فضيلة النقص « التي لا ترى في القوة التي يمثلها الفرح سوى ضعفا ، و لا ترى القوة إلا في البؤس و الحزن و الكآبة . و عندما تتحول الكتابة إلى عامل لإحباط قوى الفرح و إخماد انطلاق الرغبة و حماسها ، تكون قد تحولت إلى فعل مضاد لما وجدت من أجله .
في حالات كثيرة نلمس أن الطب يؤسس لشعرية أعمق و أقوى من الشعر نفسه . لأن الطب منح للجسد ثورته الخاصة بعد أن منحه إمكانية تجاوز حدوده و تكسير سياج ما كان يعتبر قدرا ، فنسق قواه و رمم أعطابها و حفزها على أن تكون أقوى.
كثير من المفكرين لم يدركوا أن ثورة الطب في العقود الأخيرة هي ثورة الجسد . مثلما أن الكثير من منظري الأدب لم يدركوا أن على الكتابة اليوم أن تعيد ابتكار هذا الجسد بأن تمنحه الخفة اللازمة ليخلق حقولا جديدة لوجوده و لتدفق قواه و حواسه و مخيلته و رغبته . إن عصرا للجسد قد فتح اليوم على يد الأطباء و علماء الحياة و الكيمياء محررا الواقع من سطوة المثالي . حيث لا يمكننا أن نتصور إمكانيات الوجود إلا كفعل . هناك في عمق أنسجة الخلايا و في صلب حركة الأعضاء فتح الطب للحلم مجالا للاشتغال . فأضحى بلوغ المثالي متاحا في قلب مادية الجسد نفسه و ليس بعد التخلص منه . لأن هذا الجسد ذاته هو المثالي ، أي أن الشكل الأقصى لهذا المثالي صار متاحا من داخل هذا الجسد و فيه.
لذلك فالشعرية القصوى لعصر الجسد الذي تُحدَد فيه تجربة الإنسانية كتجربة جسد ، هذه الشعرية تتم في قاعات الجراحة حيث حركة بسيطة لليد مسنودة بمعرفة دقيقة تنتزع الحياة من قبضة الموت . إنها تتخطّى حاجز الاستحالة .
وبذلك فالطب يبني مسافة جمالية مابين حياتنا و إمكان موتنا . إن موتنا الخاص لم يعد ينتمي لحياتنا بل يتعلق بإخفاق مؤقت فقط . في هذا الأفق ينبغي للكتابة أن تتدخل لتبطل مفعول تلك القرابة الغامضة مابين الحياة و الموت و التي تُتصوّر كما لوكانت قرابة أصيلة تنسج حميمية الوجود . حتى صار الكُتاب ينظر إليهم كما لو كانوا بنّائين متأنقين لصرح جميل للموت بسبب كونهم يلاحقون تمزق الزمن . في حين أن هذا التمزق هو الحركة المفرزة للحظة التي هي المجال الحقيقي لمباشرة الحياة ، و التي لا يكون فيها الجسد مجرد مكان مجهول لممارسة مغامرة مبهمة ، بل هو» نداء الهنا و الآن « ، هو هذه المطالبة الحسية العميقة بإشباع اللحظة . و عندما تدخل الكتابة في هذا الأفق تغدو لحظة رفيعة لتمجيد الحواس . و ذلك بالضبط هو المطلوب منها بعد أن صار أخيرا للإنسان ، و بعد طول انتظار جَسَدٌ ، مكانٌ معلوم لإعلان الرغبة عن نفسها و عن العالم ...
يصف بومان الحياة المعاصرة بخاصية السيولة (une vie moderne liquide)(2)، إنها السمة الأكثر وضوحا لتمييز نوع التعايش الإنساني؛ ويرجع هذا الوصف إلى حالة اللاستقرار التي تعرفها العلاقات الإنسانية، حيث أن الارتباطات بين الأفراد في المجتمعات المعاصرة تتسم بالهشاشة والمرونة، فلم يعد بالإمكان توقع شيء في عالم اليوم منفلت من التغير الدائم ومن أن لا يكون متحولا باستمرار وعابرا وزائلا وغير مستقر؛ ذلك أن فكرة الالتزام تبعا لتعاقدات ثابتة ومتينة تخيف الإنسان لكونها قد تقيد من حريته المستقبلية في الاختيار، ومن هنا حرصه الشديد وحساسيته المفرطة تجاه العلاقات الدائمة والالتزامات الطويلة الأمد التي يصعب حلها. لقد أفرزت حداثة الأزمنة التقنية «إنسان بدون علاقات» ( (l?homme sans liens، يعيش حالة «شبه-ارتباطات»، إذ ما ينسجه الأفراد فيما بينهم من روابط سرعان ما يعملون على حلها ليعيدوا الكرة تلو الأخرى دون توقف. إن تفاعلاتهم وعلاقاتهم لم تعد تخضع، يؤكد بومان، «ل»البنيات» (structures) الثابتة ولقواعد واضحة وملزمة، وإنما حلّت محلها «شبكات» (réseaux)تصلح لإقامة تفاعلات إنسانية مؤقتة وعابرة يسهل حلها ويحتفظ بحرية إيقافها عند كل لحظة وبإمكانية إلغائها حسب الطلب»(3).
انتهى زمن الالتزامات الدائمة وتم تعويضها بالعلاقات المرنة والمؤقتة والقابلة للتغير والتحول الدائمين. أصبحت المجتمعات المعاصرة في حالة عدم استقرار، فجميع أفرادها يفضلون الارتباط المرن والعابر والزائل والمؤقت وغير المستقر.. إذ لا أحد يجرؤ على امتلاك تصور مشروع «حياة كاملة» مستقرة يطبعها الالتزام الثابت والتعاقد المتين. لقد أضحى الوجود العلائقي للأفراد في حالة تغير مستمر وتحول سريع وغير متوقع؛ لذلك حرص بومان في تحليلاته السوسيولوجية على أن يسلط الضوء على طبيعة العلاقات التي يقيمها الأفراد فيما بينهم اليوم وعلى تجاربهم الإنسانية المشتركة؛ فمفهوم «العلاقة» الإنسانية (la » relation « humaine) هو الأساس الذي تتمحور حوله كتابات بومان، بل إن هذا الأخير يلح على أن استيعاب الرهانات الكبرى للحياة المعاصرة يتوقف على تحليل هذا المفهوم. ففي نظره، عرفت العلاقات الإنسانية انقلابا جذريا في طبيعتها، فأصبحت الارتباطات بين الأفراد من نوع «العلاقات الافتراضية»(» relations virtuelles «) والتي تختلف جوهريا عن طبيعة الالتزامات التي كانت في عالم الأمس. فإذا كانت هذه الأخيرة، تتخذ شكل «علاقات واقعية» (» relations réelles «) لكونها تقوم على أساس الالتزام الطويل الأمد والتعاقد المستمر داخل مؤسسات مستقرة وصلبة، فإن ما تتميز به العلاقات الإنسانية في عالم اليوم هو التمرد عن فكرة الالتزام والتعاقد الدائم، إنها مجرد روابط توافقية هشة ومؤقتة(4).
بيد أن الرؤية السوسيولوجية لبومان لم تتوقف عند هذا الحد, بمعنى أن بومان لم يكتف فقط بإرجاع طابع سيولة الحياة إلى ظرفية وهشاشة العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات المعاصرة؛ وإنما سعى لإثبات أن مأتى وضعية اللاستقرار للوجود التفاعلي للإنسان المعاصر يكمن في طبيعة القيم التي تذيعها إعلاميا المنظومة الأخلاقية المصطنعة ) L?éthique préfabriquée vendue par tous les publicitaires ) والتي ترى في الالتزام الطويل الأجل وفي التعاقد المؤسس على قواعد واضحة وثابتة إمكانية للحد من حرية الإنسان, إنها منظومة أخلاقية تطالب الأفراد أن يكونوا أحرارا في تفاعلاتهم, وتعرض عليهم اللا-ارتباط (dé-liaison) كتحرر, وتلزمهم على التمرد ورفض كل التزام أو تعاقد غير مؤقت أو غير قابل للإلغاء. هذا ما جعل الإنسان المعاصر- كما يؤكد بومان- يعيش «تشظي الحياة»(5)؛ إذ هو على استعداد دائم للتأقلم والتغير والتحول, إنه يتطلع باستمرار للآتي حتى قبل أن يعي الحاضر, ينخرط في سيرورة الحياة ويستسلم لسيولتها, ويقبل أن يعيش حياة مجتزأة, يحيا من أجل ذاته ولمصالحه الخاصة والعابرة, دون أن يسعى لتبني فكرة تامة أو تصور مكتمل واضح عن حياته, فبالأحرى أن يمتلك - ما سمّاه سارتر من قبل- «مشروع حياة كاملة» تنشد الاستقرار والثبات.
في نظر بومان، نجد داخل مجتمعاتنا الفردانية المعاصرة تسويقا لوهم الفرد الحر و»الفاعل الذي يختار» (Homo eligens) في استقلالية تامة عن الآخرين, بدعوى تمتعه بجميع المؤهلات التي تجعل منه «فردا بالفعل في الواقع» (Individu de facto)، فرد قادر على تجاوز معاناته ومآسيه وأزماته المعيشية, وعلى إيجاد حلول فردية خاصة به إذا ما تمركز حول ذاته الفردية وانشغل بقضاياه الخاصة واعتمد على قدراته ومؤهلاته الشخصية، أو بعبارة جامعة، إذا ما اعتقد أنه يعيش من أجل ذاته لا من أجل الغير، وأنه يحيا من أجل المصلحة والمنفعة الذاتية والتي لا مفر له منها. لكن بومان لم يتردد في جميع مؤلفاته عن إحصاء الخسائر الناتجة عن بناء المجتمعات الفردانية؛ ذلك أن إعلاءها من شأن الاستقلالية الذاتية ودفاعها عن الحرية الفردية اللامشروطة قد أقحم الإنسان المعاصر في وضعية البحث عن حلول فردية لمشاكل تقتضي حلولا جماعية، حيث نجده أكثر حرصا «على اقتناء مستحضر للتجميل يكون جيدا وذلك لحفظ جسمه من تلوث الهواء». لقد شكّك بومان في وجود حلول فردية لمشاكل معيشية ناتجة عن الحياة الاجتماعية المشتركة، يقول: « ليس من المؤكد تماما أن ثمة حلول فردية واقعية لمشاكل تشكلت اجتماعيا. وكما ردد ذلك بلا ملل كل من بيير بورديو (Pierre Bourdieu) وكورنيليوس كاستورياديس (Cornelius Castoriadis), فإذا وجدت إمكانية ما لحل مشاكل تولدت اجتماعيا, فإن هذا الحل لن يكون إلا جماعيا.»(6)
إن إرادة إنقاذ الحياة من زوبعة السيولة والتمكن من خلق وضع وجودي تفاعلي يسمح للإنسان المعاصر من عيش حياة مستقرة وذات معنى أمر مكلف بالضرورة، إنه «ليس نظير وصفة خاصة لحياة سهلة ودون همّ كما قد يذاع إعلاميا من خلال الترويج لمنافع الاستهلاك»(7)، وإنما يقتضي الأمر، حسب بومان، منظومة أخلاقية أصيلة كفيلة بتخليص الإنسان المعاصر من وهم فردانيته، ومن الانفلات من تمركزه حول ذاته، ومن تقويض الدوكسا العامية التي توحي له أنه مؤهل وقادر على بلوغ حلول فردية لمشاكله المجتمعية دون تعاقد أو التزام مع الآخرين. إن بومان يقترح رؤية فريدة للحياة المعاصرة، رؤية تحكمها قيم أخلاقية أصيلة؛ ورغم كونها قيم مكلفة، إلا أنها سبيل إنقاذ حياتنا. فما هو أخلاقي أصيل مكلف، لأنه يدل على «الوجود من أجل الغير..(ويطالب الإنسان) بالتضحية بالذات من أجل كائن إنساني آخر.. فلا يمكن مثلا أن يمتنع عن التضحية بالذات ويتوقع في نفس الوقت أن يعيش «حب حقيقي» وهو ما نحلم أن نعيشه جميعا.»(8) إنه لا ينبغي أن نلج عالم القيم من باب الخوف على منافعنا الذاتية ومصالحنا الفردية وإنما من باب الحب والعشق لما هو أخلاقي في ذاته(9). فأن نعيش مع الحياة علاقة حب عميق ودائم ومستقر يعني أن نمضي في البحث عن الطيبوبة بدل المنفعة؛ فهذه الأخيرة «تسمح بتبرير أي عمل فظيع باسمها، بخلاف الطيبوبة التي تعني الإنصات للغير» (10). تدفع الطيبوبة الأفراد للحوار ولبناء تعاقدات متينة والتزامات دائمة، بينما المنفعة تجعلهم في حالة صراع، في حالة تأهب لإلغاء كل اتفاق ولإيقاف كل علاقة. يصر بومان إذن على أن إدراك معنى الحياة الإنسانية رهين بالبحث والعمل على تحصيل الطيبوبة، وبالسعي لتعلم العيش في خضم الاختلاف، وبالحرص على إبدال مشاعر «الخوف من الاختلاط والتفاعل»(mixophobie) بمشاعر «حب الاختلاط والتفاعل (mixophilie) (11) . أن نفهم الوجود كوجود من أجل الغير لا من أجل الذات، وأن نحل الطيبوبة محل المنفعة، وأن نوقف الصراع ونقيم بدله الحوار، وأن نمتلك مشاعر التفاعل مع الغير المختلف لنسج تعاقدات والتزامات أخلاقية مسؤولة معه ولربط علاقات الود والحب الدائم والعميق في أفق بناء وحدة ثقافية إنسانية منسجمة، فذلك ما يسعفنا، حسب بومان، لإعادة المعنى للحياة المعاصرة، ويسمح لنا بأن نحياها بكيفية أخلاقية أصيلة بعيدا عن الثقافة التقنية التي ألحقت بحياتنا اليوم طابع السيولة، فخلفت العديد من المصائب في مجتمعاتنا الفردانية، وجعلت من اللاستقرار خاصية للوجود العلائقي للإنسان المعاصر.
المراجع:
(1) ولد زيكمانت بومان سنة 1925 ببولونيا، درس بجامعة (Varsovie)إلى حدود سنة 1968. استقر بعد ذلك بالمملكة المتحدة حيث أصبح أستاذا بجامعة (Leeds)، عرف بنقده المنهجي لما سماه «الحداثة الأولى» في مؤلفه »Modernité et Holocauste « (1986)، وتابع نقده ل»الحداثة الثانية» أو حسب تعبيره Modernité « » liquide في العديد من مؤلفاته، نذكر منها: »Le Coût humain de la mondialisation, Pluriel, 2009. «
» Le présent liquide, Peurs sociales et obsession sécuritaire, Seuil, 2007 «
» Vies perdues. La modernité et ses exclus, Payot, 2006. « » La Société assiégée, Pluriel, 2005. «
(2) Bauman (Zygmunt), » La Vie liquide «, Ed. Chambon, 2006.
(3) ---, » Vivre dans la «modernité liquide» «, Entretien. Voir, Sciences Humaines, N? 168, Novembre, 2005, p.34.
(4) ---, » L?amour liquide : de la fragilité des liens entre les hommes «, tr. Christophe Rosson, Ed. Pluriel, 2010, p. 8.
(5) ---, » La vie en miettes. Expérience postmoderne et moralité «, tr. Christophe Rosson, Ed. Pluriel, 2010.
(6) ---, » Vivre dans la modernité liquide « op. Cit. p.36.
(7) Ibid. p.35
(8) Ibid.
(9) ---, » La vie en miettes. Expérience postmoderne et moralité «,op. Cit. p.32
(10)---, » Vivre dans la modernité liquide « op. Cit. p.35 (11) Ibid. p.36.
على أساس أطروحة الفراغ إذن، بذل مجهود ليس بالهيّن من لدن وريثي التقليد الفلسفي الأفلاطوني سعيا منهم لجعلنا ننسى أنّ لنا أجسادا: فالفلسفة المثالية، الروحانية والأفلاطونية، قامت دوما ضدّ الفلسفة المادية، الشهوانية والأبيقورية؛ فالتقليد الفلسفي السائد على طول الشريط التاريخي، تقليد ما فتئ ينتصر للمثال الأعلى الزهدي، مقلصا بذلك من قدر الفلسفة المتعية باعتبارها لا فلسفة، بل هي عامية وغوغائية حتى. لنتذكر بالمناسبة التوصيف الرواقي للفلسفة الأبيقورية: فهي بنظرهم فلسفة خنازير لا غير. وهو التعبير نفسه الذي وظفه «هوراس» تبخيسا بالطبع للأبيقورية وحطّا من قدرها كفلسفة جسد ليس إلا. لكن والحالة هاته، ماذا لو وقفنا عند الدلالة الفلسفية لهذا الحيوان بالذات؟ لماذا الخنزير لا غيره من الحيوانات؟ ردّا على هذا السؤال، علينا استحضار التقليد الفيتاغوري وكذا الأفلاطوني بحيث «أنّ الروح بنظرهم تعود بعد الموت لتتقمّص جسدا فاضلا على نحوٍ ما نكون قد عشنا حياة فاضلة، لكنها قد تتقمص جسد خنزير إذا كنا قد عشنا حياة قدرة ابتغيناها، تسودها الملذات والرغبات، النزوات والأهواء. ذلك أن روح الفاسق تنفصل عن جسده عندما يموت لتتقمص جسم حيوان يرمز للدناءة والحقارة الملموسة في سلوكه»(2).
لكن لماذا الخنزير بخاصة؟ لأنّ بنيته الفزيولوجية تحول دونما التفاته تجاه مصدر الفكر: السماء المرصعة بالنجوم العزيزة على قلب كانط. فهذه البنية هي ما يجبر الحيوان بالتالي على التنقيب في الأرض بفنطيسته، وقدره إنما هو المحايثة ليس إلا. فالخنزير حيوان أرضي بامتياز، يحيى وأقدامه لا تبرح الأرض بله وفي عمق الطين ذاته. فهو إذن ما يجسّد البعد المادّي للحياة حتى أنّ كل امرئ يسلك سلوكا مادّيا سرعان ما ينعت بأقبح النعوت، من قبيل وصفه بلغتنا الدارجة «بالحلُّوف». فأن يكون المرء ماديا إهانة. فالمادي إنسان إذ لا يؤمن بالروح ولا بعالم المثل يتشبّث أيما تشبّث بكيانه الذي ما بعده كيان، أي بجسده لا غير. هذا الجسد الذي أسيء تقديره على مر العصور، فطاله لا النسيان والإهمال فحسب، لكن التبخيس والتجديف أيضا. يكفي على سبيل الذكر أن نستحضر الرؤية السائدة طيلة تاريخ الفلسفة الرسمية بدءا من أفلاطون حتى هيغل (الذي ظل يكنّ حقدا جاما للمادية أنظر»دروسه حول تاريخ الفلسفة» )مرورا بترسانة من المفكرين اللاهوت حيث لم يكن الجسد يتمثّل إلا كعدوّ، سواء عند أفلاطون الذي يكره الجسد لأنه يتغذّى مقيما المفاضلة لأجل روح سامية تروم التوحّد بالواحد الخيٍّر، أو عند كانط الذي انتهى عبر نظامه التراتبي للحواس إلى إيلاء حاستي النظر والسمع أولوية لا تضاهى، مادامتا بحسبه أساس إدراك الحقيقة في شموليتها، مما تولَّد عنه اعتبار الرسم والموسيقى فنّين عظيمين، بيد أنّ الحواسّ الأكثر بعدا ماديا كاللمس والذوق والشمّ، تأتي في المراتب الأخيرة بله كل ما يرتبط بها كالطبخ وصناعة الخمر والعطور لا ترقى إلى أن تكون فنّا. على منحى هذا النهج الأفلاطوني-اللاهوتي إذن، لاشيء مرغوب فيه عدا الموت «فحلم أفلاطون هو فصل الروح عن الجسد المدنّس، والفيلسوف الأصيل في اعتباره هو من يكتنفه نزوع حقيقي للموت حيث بذلك فحسب يتميّز عن باقي البشر»(3).
على هذا النهج، ألا يكون المذهب الأفلاطوني هو الذي شيّد منذ خمسة قرون برنامجا لتبرير مذهب الصلب الذي هو مذهب المسيح، وبالتالي باقي مذاهب التعديم التي لا نزال نعاني ثقلها اليوم؟ كيف إذن يمكننا فهم حضارة تقوم على تمجيد كلّيّ للعدم والموت؛ اللهم إلا إذا أتبتنا طابعها الظلامي أي المعادي للحياة. فالظلام إن كان يدلّ على شيء فإنما يدلّ على منحى الاستعباد والامتلاك، الهيمنة وحبّ التملُّك. الظلام إذ ينتصر لغريزة الموت فلأنه لا يقوم إلا ضد ما هو شمسي، مادام الشمسي على حد تعبير ميشال أونفراي يفيد كل ما هو تحرُّري ويعيد ارتباطنا بالحياة. ذلك أن هذا الطابع الظلامي الذي لايزال يمتثل كجوهر حضارتنا اليوم هو من أسس قواعد نظام شبقيّ ليليّ بدل نظام شبقيّ شمسيّ. وشتّان مابين النظامين. إذ بقدر ما يروم الأوّل تكبيل قدرات الجسد وتقليص مساحات الرغبة بقدر ما يروم الثاني خلق إمكانات جديدة لتحقيق الرغبة وتحرير الجسد. فالنظام الشبقي الليلي يقيم الجماعة ضدّ الفرد ويحتكم منطقا الكمّ ضدّ الكيف. إنه أساس الترسيمات السائدة المعدّة سلفا للقطيع والدهماء الغوغاء والأجلاف. فحيثما تزعم الحضارة أنها تكوِّن أجيالا حرة وواعدة، فهي لا تعمل بفضل هذا النظام، في واقع الأمر إلا على صنع أناس طيّعين وأجساد خاضعة سياسيا ومجدية اقتصاديا. فرق شاسع إذن بين تصوّر شمسي للرغبة محرِّر وتصور ليلي قاتل.
فالتصور الأول لا يقوم ضد الثاني إلا لأنه يروم صنع أناس أكثر تحررا في علاقتهم بذاتها. ذلك أن الإنسان الحرّ عكس العبد تماما، هو من يحيى بلا أحكام قبلية، بلا أستاذ ولا وصيّ جبّار، بلا خوف ولا رعب مادام لا شيء يحكمه وله أن يخضع لمنطقه. الحرّ يروم توسيع قنوات توليد الرغبة خارج كل الطابوهات، ويسعى إلى بناء جنسانية هي غاية ذاتها لا تروم غير متعة الإغواء والإنفاق، داركا أن باستطاعته استهلاك طاقته الجنسية واستنفاد قدراته الجسمية على نحو متعوي خالص. والحال أن هذا كله طريقة في العيش على نحو فنّ الغندرة المنبوذ من لدن العبد مادام بحسبه مجرد تكبر وتعالٍ. فالغندور إذ يدعونا إلى التعاطي مع الأخلاق كنشاط فني، أي كمجال للمزيد من التأنق والتبختر سعيا وراء بناء ذات متفردة، هوسها الكيف قبل الكمّ، والجمالية لا الدناءة، فليس إلا لأنه من يدرك الحياة كلحظة تستوجب حسن الاستثمار خلافا للعبد الذي يعانيها كعبء. وبقدر ما يختار الغندور نهج المتعية أسلوبا يستشعر فيه الحياة من حيث هي ما يستوجب أن تعاش قبل فوات الأوان وحلول الموت، يركن العبد مستسلما للسكون، منتظرا لا الموت فحسب بل ما بعد الموت في رعب كئيب. الغندور إذن نموذج النظام الشبقي الشمسي بينما العبد نموذج النظام الليلي. الأوّل يحبّذ هيراقليطس ونهره الانسيابي، بينما الثاني مشدود لدائرة بارمنيدس الثابتة. ومادام الغندور يدرك أيما إدراك أننا لا نسبح في النهر مرتين، فحكمته في الحياة هي الاستثمار الجيد للوقت، بله والتحرر من كل العراقيل التي تحول دونما بناء المرء لذاته واللوذ بحياة سعيدة؛ فهو من ثمة من لا يضع شيئا يعلو عرشه الذي هو عرش الحرية على اعتبار أن»الإنسان الذي يعجز عن تخصيص ثلثي وقته لنفسه، ليس بإنسان حرّ»(4).وهي بنظري مدة تكفي لاستعادة المرء لذاته مخاصمتها ومصالحتها إذكاء للحواس ضدّ ما يطالها من بلادة جراء انغماسها في الخيوط العنكبوتية للترسيمات المهيمنة.
وبالمناسبة، إذا كان قياس الزمان اكتشافا، يعود الفضل فيه لأهل الدين والتجار، فليس إلا سعيا منهم وراء إخضاع كل إرادة حرة: الأوائل من أجل الصلاة والآخرون من أجل العمل والإنتاجية (5) ، فليس من السهل أن يستفرد الشخص مع هؤلاء لا بوقته ولا بجسده: كيف والاستيقاظ وكذا النوم، يتوقفان على الآذان لا بل ومسار اليوم كله، لأن كل شيء يجب تأجيله أمام مواقيت الصلاة. فهل بوسع الجسد أن يكون مع سيادة منطق الصف والتراتبية، حيث لا نساء فضلا عن قانون المسنين الذي بموجبه يحتل الكبار سنا الصفوف الأمامية؟.»فالسجود مثلا يستوجب الانبطاح الكلي للجسد، بحيث العظام السبعة ينبغي لها أن تبقى في تماس مع الأرض: الجبهة والكفّان والركبتان والأطراف الأخيرة للرجلين «(6).
النتائج الحتمية بعد هذا كله إذا ما أضفنا له كدّ العمل، هو فظاظة الشهوانية واخشوشان أعضاء الجسد، لا بل كذلك إصابة الأعضاء التناسلية بالعيّ، تركا لبقية الجسد حرا طليقا لغاية استخدامه كأداة للإنتاجية والعمل لا غير. ثمّة إذن ترسانة من الطقوس تعمل ضمنيا من أجل التطويع الكلي للكائن قد نورد منها فضلا عما سلف الختان، بحيث أنه بالرغم من عدم وروده في القرآن أقحم بالقوة كسنّة وغدا معيارا حاسما في الانتساب للأمة، وهو الشأن نفسه عند اليهود بينما الختان عند المسيحيين يتجاوز مجرد ترك بتر على الجسد، ليضحي مسألة خصاء عقلي. مع المسيحية لم يعد الختان شأنا ذا صلة بالواقع أكثر مما عاد وهو المهم مسألة طهارة القلب. وهي طهارة تستوجب تخليص الجسد من كل خطايا المتعة. من ثمة كان التعميد، لكن وكذلك التزهد اليومي اقتفاء لأثر حياة المسيح وآلامه .»فمع القديس «بول دي تارس»يحافظ المؤمن بقضيبه، هذا ما لا شكّ فيه، لكنه يفقد جسده كليا»(7).على هكذا منوال تسود غريزة الموت العالم بأسره ويكتمل فيزيقا وأد الجسد. فماذا يتبقى من هذا الذي ندعوه جسدا، حالما استحضرنا هذا التاريخ الطويل من إكراهات الصلب المتواترة منذ قصة الخلق؟ حيث الرغبة ظلت دوما قرينة بالمسّ الشيطاني وحيث الجنس مكث مظلما، لا نحياه إلا كلعنة وعبء. ماذا سيتبقى لنا كذوات حالما بقينا نعتبر المتعة واجبا اجتماعيا، بله وفي أفضل الأحوال عيدا لا نستطيع الاحتفاء به إلا بموجب صدور مرسوم إداري؟ لاشيء غير الفراغ، الذي استشعر خطورته آرطو. من ثمة ضرورة استحضار الفلسفة لا كنهج لبناء القضايا وطرح السؤال فحسب، بل أيضا كمنهج لإيجاد الحلول. حلول نحن أحوج ما نكون إليها، خلقا لإمكانات حياة جديدة، يغدو فيها نوع من «التعاقد المتعوي» ضروريا، حتى تضحى المتعة القاسم المشترك ما بين الناس على نحو قاعدة «الإمتاع والاستمتاع»تفاديا للكآبة والألم المجسد للشر المطلق بله للسلبية ذاتها. فأن لا يحيى المرء حياته على نحو أفضل جرم هو وحده المسؤول عنه .
الهوامش:
(1)Michel onfray,Le désir d?être un volcan,journal hédoniste1,éd.grasset,1996.p.396.
(2) ما معنى أن تكون أبيقوريا اليوم؟حوار مع ميشال أونفراي .ترجمة حسن أوزال.موقع الأوان .
(3)Platon,Apologie de socrate phedon (64b),trad.et notes par E.chambry Ed.garnier Flammarion
(4) Michel onfray,Le désir d?être un volcan,journal hédoniste1,éd.grasset,1996.p.76-77 .
(5)idem.p .398.
(6)Onfray Traité d?atheologie,physique de la metaphysique,éd.grasset 2005.p.114.
(7)idem.p.153-154.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.