ماتت ابنته وزوجته وقتل ابنه الأصغر واغتيل ابنه البكر، وبقي وحيدا شامخا حتى فتح الأرض منذ أسبوع ونزل إليهم في الغياب.. شجر الأرز حزين، في لبنان. لأن شجرة سامقة منه قد هوت منذ أسبوع.. والأشجار تموت واقفة، دوما.. والرجل، حقيقة، يصعب على التصنيف، فهو: النائب، السفير، الوزير، الأستاذ الجامعي، الخبير في القانون الدولي والصحفي.. وهو في الأول والأخير، قبل ذلك كله وبعده: الإنسان. ذلك الأب الذي وقف أمام ما تبقى من جثة ابنه البكر، بعد اغتياله بسيارة مفخخة في بيروت، ليقول للبنانيين ولمن يراهن على اصطفافه في خندق الطائفية، ليقول كما المسيح عيسى، قبل الصلب: «لا أريد الإنتقام. لا أريد الثأر». أليس هنا فعلا، كما هو معلق في حيطان يومية النهار اللبنانية ببيروت، أنه «بين الظلمة والنور.. كلمة». إنه غسان جبران تويني، الصحفي اللبناني الألمعي، الذي عرف بأسلوبه النافذ في زاويته الأسبوعية الشهيرة بيومية «النهار اللبنانية» كل إثنين، الذي كان ينحت من خلاله جملا مفاتيح، هي اليوم مرجع تربوي، سياسي وسلوكي في بلاد جبران خليل جبران، والتي تحولت إلى عناوين لبعض من كتبه من قبيل: «اتركوا شعبي يعيش» (وهو كتاب صرخة)، «الجمهورية في إجازة»، «حوار مع الإستبداد» (وهو كتاب تحفة على مستوى التحليل واللغة والبناء النظري المفحم بمبادئ الإنسان الخالدة)، و «قبل أن يداهمنا اليأس» . شجر الأرز في لبنان حزين، إذن، لأن رجلا من قيمة غسان تويني قد غادر سماء البلاد، وذهب أخيرا ليعانق أبناءه الثلاثة وزوجته، الذين سبقوه إلى الموت، ودخلوا قبله تحت التراب، وتركوه وحيدا ينتظر. لقد فتح غسان تويني، الأسبوع الماضي، مع أول خيوط الفجر، الأرض وغاص في الغياب. وبرحيله، يغيب إلى الأبد معنى للرجولة أغنتها تجربة حياة فارقة في كل شئ، نجاحا وألما ومأساة. ومعنى للحياة ومعنى للإباء، من خلال الصبر والحلم على الشدائد والسجون والمنافي والإغتيالات، ليس فقط في جبل لبنان، بل في كل دنيا العرب. فمع غسان تويني، كان للصحافة معنى النبل، وللكلمة وزن الذهب، وكان حبر الصحفي من دمه. بل ، إن سيرة الرجل تقدم المثال السامي، على ما تفعله الحضارة بالإنسان، حين يتحرك الحر في الفكر والسلوك، وسط غابة التطرف. وحين يكون أمام وحوش كاسرة، مثل همجية إسرائيل وهمجية آل الأسد بسوريا. حينها يقدم الرجل المثال الجلي للحضارة حين تكون المبادئ ممارسة حياة. لهذا السبب، تقدم لنا حياة هذا الرجل، السامق في النخوة والكبرياء والمروءة والصبر الجميل، مادة للأسطورة، لا تليق بغير أنصاف الآلهة في حضارة الإغريق. إذ، ما الذي قد يتحمله قلب الرجل، أو قلب الفتى، بلغة الشاعر الجاهلي العميق، طرفة بن العبد، وهو يرى الموت يعتام الكرام من أهله ويصطفي أهل الفعل الفاحش المتشدد؟. وهو يرى الموت، يحصد الواحد منهم بعد الآخر؟. أولا ابنته نائلة التي نهشها السرطان وهي بعد يافعة طرية، بجدائل المدرسة. ثم زوجته الشاعرة نادية حمادة (من العائلة الوطنية اللبنانية الشهيرة، عائلة حمادة) بسبب السرطان مرة أخرى. ثم ابنه الاًصغر، مكرم غسان تويني، الذي سقط في حادثة سير فاجعة ببيروت ( والطريق تقتل هناك حين تلتبس بالتصفيات الطائفية). ثم ابنه البكر جبران غسان جبران تويني، الذي كان أمله الوحيد المتبقي من أجل رعاية إرث العائلة الصحفي والسياسي والفكري، الذي اغتيل بشكل وحشي في أحد أيام دجنبر 2005، في بيروت، 24 ساعة فقط بعد عودته من منفى باريسي اضطراري. وكل الإتهامات الرسمية والشعبية في لبنان تذهب صوب دمشق الأسد، لأن قلم جبران تويني كان صارما في الدفاع عن حق لبنان في الحرية وفي استقلال القرار السياسي عن دمشق. وكان من أول من تجرأ وكتب أن التواجد العسكري السوري في لبنان هو شكل من أشكال الإحتلال، وأن كل احتلال إلى زوال. فما الذي سوف يتحمله قلب الرجل إذن، وهو يرى الموت يعتام أهله بكل تلك الوحشية؟. وحين كان الكثيرون ينتظرون أن يثور غسان تويني، أن يغرق في ألم الإنتقام، وأن يحول قلمه إلى أداة تصفية، فاجأ الجميع هناك، أن حمل صليبه، هو المسيحي الماروني اللبناني العربي، وصعد درب الحياة مسلحا بالأمل الراسخ في لبنان حر لكل اللبنانيين. لهذا السبب سينسى الكثيرون في ربى الشام، ولن تنسى أرض الحضارة هناك ابنها غسان تويني، لأنه قدم درسا آخر لمعنى الإنسان. المعنى الذي يسمو في لحظات المحنة. ولأن الشئ بالشئ يذكر، فإن الرجل هو الوحيد الذي نجح بحنكة ديبلوماسية رفيعة، وهو ممثل دائم لبلده لبنان في الأممالمتحدة، أن يستصدر القرار 425 الشهير لتحرير لبنان، كل لبنان، بما فيها مزارع شبعا بالجنوب، من الإحتلال الإسرائيلي وأيضا من جند الأسد. وليس يسيرا قط استصدار قرار مماثل ضد إسرائيل في مجلس الأمن. لكن غسان تويني استطاع ذلك. والده جبران تويني، مؤسس يومية «النهار» البيروتية الشهيرة في الثلاثينات من القرن 20، اختار لابنه اسم غسان بالضبط، نسبة إلى قبيلة غسان، العربية المسيحية، التي بقيت على دينها بعد مجيء الإسلام، وتعايشت مع من أسلموا من القبائل المحيطة بها، ومع باقي المسلمين، بل وحاربت معهم ضد ملوك الروم. هكذا، فاختيار الإسم، فيه ما فيه من رسالة. وعلينا هنا الإنتباه، أن هذا الهرم الراحل، الذي قضى 66 سنة في محراب الصحافة، هو الذي ظل يقول دوما، أنه رغم كل ما عبره من مسؤوليات وقام به من مهام وأدوار، فإن جبة الصحفي هي جبته الحقيقية الوحيدة. هذا الهرم الكبير، يشكل المنارة الثانية الأعلى في كل تاريخ الصحافة اللبنانية، بعد مؤسسها الأول، أحمد فارس الشدياق. ذلك الرجل المسيحي الماروني الآخر، الذي اعتنق البروتستانتية في ما بعد، قبل أن يعتنق الإسلام في بلاط العثمانيين وفي بلاط باي تونس في أواسط القرن 19 . وما يجمع بين هذين الهرمين، والذي يدعونا إلى تأمل خصوصية تاريخ الصحافة اللبنانية ضمن التاريخ العام للصحافة العربية، هو أنه ربما لا يعرف الكثيرون منا، أن للصحافة العربية منذ الميلاد الأول إثر حملة نابليون بونابارت على مصر وفلسطين سنوات 1798 و 1801، ومنذ الدور الذي لعبته البعثات التبشيرية الفرانسسكانية في الشام وأساسا في بيروت والجبل، في ذات السنوات تقريبا (كانا معا السبب في دخول المطبعة الحديثة، مطبعة غوتنبرغ الألماني، إلى بلاد العرب). أن للصحافة العربية منذ ذلك الميلاد الأول، رافدين أساسيين، هما: الإتجاه الليبرالي اللبناني، والإتجاه القومي العروبي في مصر.. وأن الآباء المؤسسين للتيارين هما: أحمد فارس الشدياق في جبل لبنان من خلال جريدته الشهيرة «الجوائب» التي صدرت أول ما صدرت بدعم عثماني في إسطنبول، ورفاعة الطهطاوي في مصر، من خلال جريدة محمد علي الشهيرة «الوقائع المصرية». وأنه إذا كانت يومية «الأهرام» القاهرية، قد واصلت حمل مشعل التوجه القومي العروبي مصريا، منذ أكثر من 100 عام، فإن اليومية اللبنانية التي واصلت حمل مشعل التوجه الليبرالي في الصحافة العربية، ثقافيا، فلسفيا ومهنيا، هي يومية «النهار البيروتية»، منذ أكثر من 80 سنة، لعائلة تويني، الجد والأب والإبن. ولم يكن لبنان، بالتالي، الصغير جغرافيا (مثله مثل فلسطين)، هائلا حضاريا منذ الفنيقيين القدامى، إلا لأن فيه رجال فكر وأدب وإعلام من طينة غسان تويني وطلال سلمان في يومية «السفير»، والمقتولين غيلة: سمير قصير وجبران تويني. وقبلهما وبعدهما: جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، خليل حاوي، أدونيس، أمين معلوف وربيع جابر... ولائحة الشرف في الحضارة طويلة في هذا الباب. في بداية التسعينات من القرن العشرين، اكتشفت في أول زيارة لي إلى بيروت، ضمن دعوة لليونيسكو في إطار مشروعها الرائد والهائل الذي اختفى الآن للأسف «كتاب في جريدة»، اكتشفت مقهى جميلة في منعطف شارع، على ربوة صغيرة، تفضي إلى قصر الرئاسة ومقر رئاسة الحكومة، أصر أن يأخدني إليها الصديق الإماراتي، الشاعر ناصر الظاهري، الرئيس الأسبق لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات، إسمها «مقهى النهار اللبنانية» . وهي لم تكن مجرد مقهى عادية، بل لها ديزاين فاتن لمطعم صغير، لكن طبقها الأشهى كامن في أنها أشبه بمتحف غني لأرشيف تلك اليومية اللبنانية الرائدة، حيث الحيطان والممرات والمداخل، بدلا من أن تكون ملأى بصور نجوم الكرة أو الفن الهابط أو زعماء الطوائف، كانت مزينة بأعداد الصفحات الأولى ليومية «النهار» . وكان التاريخ يسيل من على الحيطان منذ أول عدد صدر في الثلاثينات من القرن الماضي. كنا في حضرة هيبة الكلمة النظيفة، فشبعت العين وشبع الفؤاد والفكر فينا أنا وصديقي الشاعر، أكثر من البطن. بل، في لحظة سهو، نبهني صاحبي أن أنتبه لرجلين داخلين، غفلا، كأيها الناس، لتناول سندويتش خفيف وكأس قهوة، وبدون حرس ولا بهرجة سلطة أو طاووسية ادعاء. لقد دخل رئيس الوزراء اللبناني، حينها، رفيق الحريري ووزيره في الإعلام غازي العريضي، وجلسا في طاولة فارغة وتناولا ما تناولاه بين الزبائن وأديا الفاتورة وخرجا كما دخلا عاديين تماما. كان ذلك درسا كبيرا لي، عمن يكون لبنان واللبنانيون. هم عنوان حضارة.. لأن الحضارة ليست شعارا أو خطابا في الناس.. الحضارة سلوك يومي في الحياة. من الدروس التي علمنا الراحل غسان تويني، تلك الجملة النافذة عن بله الجريح، المستباح من قبل إسرائيل جنوبا، ومن قبل غابة الأسد ومن حسابات الملا في إيران شرقا، والتي تقول: إن أزمة لبنان، (وقدره السيئ)، أن حروب الآخرين تجري على أرضه». لبنان الجريح هذا، الأبي أبدا، سيظل يذكر أكيد، لابنه غسان جبران تويني، ليس فقط مواقفه السياسية والديبلوماسية، وليس فقط إرثه الصحفي الهائل في مؤسسة يومية «النهار»، بل حرصه، تحت قصف القنابل وقصف الخطب الطائفية وحرب الإغتيالات، أن يحمي ويرعى متحف بيروت. فما همه موت الأبناء والزوجة، قدر ما همه أن لا تضيع ذاكرة الأرض والبلد والناس. وبعد ذلك، يسألون: لم لبنان، لبنان؟