تحمل مسيرة الكرامة التي احتضنتها مدينة البيضاء يوم الأحد 27 ماي 2012 أكثر من دلالة على حيوية المجتمع المغربي، المجتمع السياسي، والمجتمع المدني سواء بسواء. والحقيقة أن الحدث بما رمز إليه وبالأجيال التي تدفقت ذلك اليوم المشهود بساحة النصر، يجعل هذا الحدث الاجتماعي، النقابي، شموليا في دلالاته الاستراتيجية وفي معاينه بالنسبة لتطور المد المطلبي في بلادنا، وقبل الاشارة إلى بعض من هذه الدلالات ينبغي أولا تجاوز تلك المعالجة الصحفية البسيطة التي تجعل البعض ينشغل فقط بالعدد المشارك، هل كان عشرات الآلاف أم مئات الآلاف، أما المعالجة الثانية التي يتوجب تجاوزها بكل وعي، فهي تلك التي تحصر الموضوع ودلالاته في التساؤل المحنط والبليد حول إذا كان الحدث ذو عمق اجتماعي خالص أم أنه يفيض عن المجال الاجتماعي إلى مجال المساءلة الجماهيرية السياسية للاختيارات والتوجهات المطبقة، فالمناضلون الحقيقيون يجري في عروقهم دم واحد لا يميزون فيه بين بويضات سياسية واجتماعية. والآن ماهي بعض الدلالات الأساسية لمسيرة الكرامة؟ أود أن أشير باقتضاب شديد إلى خمس دلالات تبدو لي شديدة التعبير والترميز والكثافة: الدلالة الأولى، ترمز المسيرة الوطنية السلمية إلى رفض أسلوب التعامل مع مطالب الشغيلة المشروعة من طرف الحكومة الحالية، وهو تعامل لا يخرج عن منطق التلهية والتسويف واجترار المبررات لتأجيل معالجة قضايا وموضوعات أصبحت متفجرة بفعل تقلص المعيش بالنسبة لعموم الشغيلة. الدلالة الثانية، تشكل المسيرة رفضا واعيا للخطاب المزدوج الذي يقول أصحابه ما لا يفعلون ويعدون بما لا يوفون، ويصرحون بأشياء لا يلتزمون بمقتضياتها، مستندين في كل هذه الممارسات إلى استعمال حربائي للغة السياسية في المؤسسات وفي الصحافة وفي كل منابر التعبير التي يستخدمونها. الدلالة الثالثة، تعبر المسيرة من خلال أصناف المشاركين الذي ضم جل أطباق اليسار، وحركة 20 فبراير وجزءا من المنظمات المدنية الحقوقية على حيوية المجتمع المغربي وعدم قابلية قواه الحية للذوبان في شمولية أو في نمط شمولي، بالشكل الذي راهنت عليه الحركات الأصولية بمختلف تلاوينها، فلقد أثبتت مسيرة البيضاء بوضوح وجود تيار عارم، وازن ومهيكل، متعدد في تركيبته الجيلية والمجالية، تيار مصر على مواجهة كل الانزلاقات والتجاوزات والتراجعات والميولات الشمولية. الدلالة الرابعة، أن هذه المسيرة الحاشدة تشكل إرهاصا أوليا وفاتحة عهد لفرز جديد في الخريطة السياسية وتأسيس التقاطب الحقيقي الموجود في المجتمع المدني، لذلك كنا نرى الوجوه فرحة، مسرورة بهذا اللقاء الجديد والعزائم متطلعة إلى المستقبل تحدوها الرغبة في تجديد العزم على التأسيس لفعل نضالي متجدد يصون حقوق المحرومين والمستضعفين في هذه البلاد، ويفتح أفق الأمل أمام الملايين من الشباب الذين ضاقت بهم سبل العيش ولم يجدوا لدى الحكومة الحالية غير خطاب التسويف والمراوغة، والأدهى من ذلك بدعاوي وتبريرات، يدعي أصحابها أنها مبدئية, في حين أنها تعبير عن عجز معلن. الدلالة الخامسة، لقد أثبتت المسيرة الوطنية وأكدت حجم الحضور النسائي في الميدان حينما يتعلق الأمر بمعارك اجتماعية ذات بعد وطني تقدمي, كما أثبتت اختزان النساء في بلادنا من مختلف الأعمار والأجيال والتشكيلات السياسية والنقابية والجمعوية، لطاقات نضالية هائلة، وقطعت مشاركتهن بشكل واضح مع منطق التعامل الدعوي القصير النفس الذي يتعامل به التيارات الأصولية مع قضايا النساء. بهذه الدلالات الخمس التي تحملها مسيرة الكرامة بالدار البيضاء، نستطيع التأكيد على بداية تبلور جدلية جديدة في الجانب الاجتماعي المطلبي، ستكون لها بدون شك تأثيراتها وتفاعلاتها وتراكماتها على واجهة العمل الجماعي المنظم وقد أرسلت المسيرة بهذه الدلالات، إشارات قوية على كون العد العكسي ضد التزييف والتضليل وبيع الوهم، قد بدأ، ولن توقفه الأباطيل مهما تفنن أصحابها في تنميقها وتلميعها، وبذلك تكون مسيرة النصر قد حققت انتصارا فعليا لقيم التقدم والحداثة والكرامة الاجتماعية.