حين بلغني نبأ رحيله دونت، في صفحتي على الفيسبوك، الكلمة التالية: «علي ابتداء من اليوم أن أتمرن على التجوال بين الكتب والأفلام والمنتديات... بلا محمد سكري». ربما لأجل ذلك سألني الصديق فاضل يوسف، ونحن تتهيأ لدخول القاعة: - هل سيأتي سكري؟ بعد كلمة الفيسبوك، تعثرت في حلقي باقي الكلمات، كما يحدث لي عادة حين أدعى إلى الحديث في ذكرى فقدان شخص أكاد أزعم أنني أعرفه. ولذلك اعتذرت للأصدقاء الذين طلبوا مني أن ألقي كلمة تأبينه في مقبرة الغفران، وكذلك كان الحال حين دعاني بعض زملائي في وسائل الإعلام. ربما لأجل ذلك نقول، في مثل هذه المقامات، بأنه كلما اتسعت زوايا النظر، خانتنا العبارات. بالمقابل، كنت أعوض عن ذلك بقراءة ما كان يكتب عنه. وقد سعدت بتلك الكتابات لدرجة أنني تمنيت في كثير مما كتب عنه، لو أنني كنت كاتبه. ولذلك أشكر منظمي هذا اللقاء الذين ألحوا علي لتكون هذه الكلمة. في لقائي الأخير بمحمد سكري، وقد تم خلال زيارة قمت بها إلى عيادة الأزهر بالرباط رفقة الأصدقاء، وجدته سعيدا بلقاء الأحبة، بالإجابة عن الهاتف، بالأصداء التي يتوصل بها عقب ظهوره قبل يوم واحد على فراش المرض في نشرة الأخبار. وحين سألناه عن تطورات وضعه الصحي، أجاب: ما يؤلمني ليست الإصابة بذلك المرض، لكنه الألم الألم الألم ! تواصل الحديث بيننا عن المسرح والسينما والجامعة. جددنا له التهنئة بجائزة السيناريو التي نالها رفقة لحسن زينون عن فيلم «الموشومة». ثم شرع في الحديث عن مشروعه الثاني: سيناريو جديد يتصور أن تكون بدايته المشهد التالي: شخص ما ممدد على سرير (لم يذكر محمد إن كان سرير عشب أم ألم). يتحول الشخص في هيئة طيف، وينهض محلقا فوق المدينة. حين كنت أنصت إليه يحاول شرح حركة التحليق برفع الذراعين، تبادر إلى ذهني كافكا. ثم توارى ليرتسم مكانه اسم فيلليني، لا فقط لأن سكري كان ككل رجال السينما عاشقا لهذا المخرج، وللمنعطفات التي أرستها أفلامه. ولكن أيضا لأن مشهد سكري ذكرني مباشرة بالمشهد الأول من فيلم «الحياة الحلوةla dolce vita» لفيلليني، حيث يبدو تمثال عملاق للمسيح، وقد رفع ذراعيه مشدودا إلى الطائرة المروحية التي تنقله في سماء روما. ثم وأنا أواصل الإنصات، تساءلت: ...وسكري ذاته، ألم يكن يتحرك في الحياة كما لو كان أشبه بطيف. لا تعرف بالضبط متى يأتى إليك ومتى ينسحب. متى يكون في كل حالاته، ومتى يكتئب، فقط لأنه رجل بلا صخب؟ ! مثلا، إنني لا أعرف متى كان لقاؤنا الأول. لا أستعيد التاريخ دقيقا. ربما تم ذلك في نهاية السبعينات. فقط أتذكر أننا كنا، ذات حماس مفرط، لا نزال نثق في أن ينهض المسرح المغربي من عطبه الذاتي، وفي قدرتنا على أن نخلص هذا المسرح من هشاشة الذات المسرحية، ومن ارتياب السلطات تجاه سلطة المسرح. يومها، كان محمد، الرفيق الملازم للباحث والمبدع الجليل سالم اكويندي، يتحرك بخطو هامس، وبشعر كثيف مرسل إلى كل الجهات. وسيما كان، مرح الطبع، حذرا في إطلاق الكلمات والأحكام، ومدمنا على المشاهدة والقراءة. ثم تواصل اللقاء بيننا إلى أن صرنا قريبين، نتابع مسارات بعضنا البعض في الكتابة والحياة، ننقدها حينا ونشرب نخبها حينا آخر. وخلال كل المسارات، كنا تتبادل الود إزاء ما نكتب أو نفكر فيه، مع أننا دشنا العلاقة بالتوتر. كنت مثلا قاسيا عليه، في البداية، في انتقاد أسلوبه في الكتابة باللغة العربية، بعد أن لاحظت أنه يجنح إلى غموض غير مبرر. وكان يعيد ذلك إلى مخاض التنقل حديثا إلى الكتابة بالعربية، وإلى تمازج مركب بين مرجعيات موزعة بين النص القانوني، وسيميائيات المسرح، وعبث المسرح والفكر والحياة. وكان قاسيا بعد أن شاهد مسرحيتي «التوازن» على خشبة المسرح البلدي سنة 1979. بحيث لم يتردد يومها في القول إنها عمل مسطح، مع أن صديقنا المشترك اكويندي كان قد أفرد لها صفحتين في أسبوعية «الديمقراطية العمالية»، محتفيا باندراجها «في اتجاه مسرح عمالي مغربي». ومع ذلك، فالقسوة لم تكن سوى الوجه الآخر للمحبة التي جعلتنا ننسج معا صداقة عمرها أكثر من ثلاثين سنة، صداقة للفكرة والأمكنة والذكريات... تشكلت لدي فيها صورة سكري المتعدد، الطليق والمدمن على الحياة. كانت الحرية بالنسبة إليه عقيدة وجود. وبلا صخب كان لايتنازل عن الحق في التحليق حرا، مثل طائر لا يقيم في العش الواحد أو تحت سماء واحدة، لأنه كان يؤمن بالتعدد. يتجول بين الأمكنة والنساء والأجناس الأدبية والمناهج الدراسية بحرية. كان لا يخون الصداقة أو الأفكار أو الحياة. على مستوى الكتابة والإبداع، كانت إبداعاته تجسيدا لاختياراته. ألف للمسرح «فاملت»، أخرجت للمسرح «فاملت» و»الفيل يا ملك الزمان»... شخص الدور الرئيسي في الفيلم القصير «حبة» لمحمد منخار. ظهر في وصلة إشهارية. كتب سيناريو»الموشومة» رفقة زينون. مارس نقد المسرح والسينما وكتابة القصة والعمل الصحفي، إضافة إلى مهمته كأستاذ جامعي بكلية الحقوق بالدار البيضاء. هذا التعدد والحرية في التجوال جعل كتابته «خاترة»، عميقة لا تأبه بالعابر والظاهر والمسطح، لأنها نابعة من كيمياء مركبة المراجع والمشاهدات. ولذلك كان نقده وإبداعاته تسير دائما باتجاه مقاربة الموضوعات الإنسانية الكبرى: الألم، الوجود والعدم، الجمال والحب... أتذكر هنا فيلليني مرة ثانية. تقول «إيما» ل»مارشيلو» في الفيلم ذاته «la dolce vita»: «لو كنت تحبني بمقدار نصف ما أحبك، لكنت قد بدأت تفهم شيئا. أنت لا تستطيع أن تفهم الأمور لأنك لا تحب أحدا. إنك لا تعرف حتى ماذا يعني الحب. أناني فقط. لاتحب إلا نفسك». إن أجمل ما يمكن أن نهديه لروح محمد سكري أن نتمرن على جوهر الحياة، أن ننتبه إلى أن بيننا اليوم أصدقاء كثيرين مدمنين على الحرية والتعدد والاختلاف والحب والحياة. يستمتعون بلا صخب، يتألمون بلا صخب، ويرحلون بلا صخب... لكننا لا نكتشف أنهم رائعون حقيقة إلا حين يرحلون ! آنذاك تكون الكلمات متأخرة مثلما هي اليوم.