عاش كبيرا ومات كبيرا.. هو الهادئ الهادر، الصامت الصارخ، القريب البعيد، هو السهل الصعب.. كان كثيرا ما يستعين بالموسيقى على نواح داخلي مجهول.. عاش كبيرا ومات كبيرا.. آمن أن «الصورة كالمرأة لا تمنح نفسها إلا لعاشق..» ولفرط ما عاشر السينما والمسرح جسدا وروحا عن حب ووله رفض متعتهما السرية فأعلن جاهرا عشقه الأبدي لهما.. ولأنه ظل في مخيلة كل الذين عرفوه الناقد السينمائي الذكي المختلف، اللبق المتواضع، الأنيق والعميق، الطريف والإنساني، العاشق للفنون و المساهم بجدية وعمق في كل القضايا التي تطرح أمامه، الديمقراطي والحداثي والمنصت للجميع، لهذه الأسباب جاء رحيله فجيعة مفاجئة.. أمسية خالدة منفردة دافئة وافرة ذكرى وذاكرة، تلك التي جمعت أحبة وعشاقا أتوا من كل جهة من تراب المغرب الجميل، حاملين على أكتافهم سلاح الذكرى وسحر الكلمات ورمزية الوفاء لفعاليات ضحت بالغالي لتكرس حياتها فداء الثقافة والفن.. إنها أمسية أربعينية الراحل الحاضر الغائب الجميل الروح محمد سكري. كانت لمة عائلية حميمية بامتياز، لمة جمعت مساء يوم السبت 14 أبريل 2012 بالدار البيضاء كل من أحب روح محمد سكري المرحة، قوة أفكاره، عمق رؤاه، صدق تعبيراته، حياته وتجواله الدائم بين الممرات والأشخاص والدروب والكلمات والأجناس، تجواله الدائم بدون أقنعة. بمبادرة من عدد من منظمات المجتمع المدني، منها بالأخص: الإتلاف المغربي للثقافة والفنون، جمعية نقاد السينما بالمغرب، ومنتدى المواطنة، تحلق عدد من السينمائيين والحقوقيين والمسرحيين وفعاليات وطنية تنتمي لحقول الأدب والصحافة والفكر والتربية، لاستحضار بعض من شمائل هذا الرجل النادر في كل شيء، خصال أضحى بفضلها صديقا لعديد من الفعاليات الوطنية. افتتح اللقاء خليل الدامون واصفا محمد سكري بالنجم الكبير في سماء النقد السينمائي المغربي والعربي.. وتحدث عنه الحقوقي والجامعي المحجوب الهيبة بإسهاب، معتبرا أن الراحل محمد شكري من طينة المغاربة الذين جمعوا ما يصعب جمعه، و نبه إلى أن مسار 30 سنة من الصداقة والقرب منه في العمل بكلية الحقوق بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء جعلته يدرك أشياء كثيرة عن هذا المغربي الذي حمل قيما الشجاعة وحب الوطن والعلم والبحث والعمق والحرية وتعدد مجالات الكتابة والجموح نحو التمرد على المحافظة، داخل وسط جامعي أكاديمي يميل إلى الانضباط والتشبث والمحافظة. وبالمناسبة ذكر بمجالات التعامل بينهما علميا سواء في الحياة السياسية (ندوات مناقشة الدستور الجديد..) أو مساهمته في ندوة السينما والبيئة، ضمن أيام دراسية حول القانون والبيئة والسينما، عبر مداخلة من خمس محاور، منها: البيئة عالم ما بعد الحرب، العالم المخفي، كون الأضواء، البحر والرؤية، مستحضرا أفلام: «يلان» س سيسي، وفيلم«يرقص مع الذئاب» ك كوستنر، «عالج يمناك» ج ل كودار، الزرقة الكبرى« ل بوسون، فيلم »أبيس» ج كامرون. ونبه الهيبة أن م سكري ظل يحيل في معالجاته على رؤية فلسفية للبيئة تمتح من رؤية ميشيل سيير صاحب مؤلف»العقد الطبيعي«. وأنهى المحجوب الهيبة كلمته بالاعتراف للكاتب بقدراته في التحليل والمنهجية الأصيلة، وتعدد الاختصاصات: مسرح سينما سياسة. بينما توقف سعيد منتسب، الأديب والناقد والصحفي، في كلمته عن جمعية «منتدى المواطنة» على روح الراحل محمد شكري، التي جمعت عددا مهما الفعاليات في هذه الأمسية، واصفا تلك الروح بالقامة الشامخة والنهر الذي لازال يجري يمد أهله بعطاء لا ينضب. واعتبر أن جميع أصدقائه في حاجة لاستعادة ملامحه قطعة قطعة.. وفي إشارة جميلة إلى الأصول، قال سعيد منتسب أن «محمد سكري لم ينبث من أرض خلاء بل جاء من بلاد ملئ بالمسرح والسينما وقيم الثقافة والفن النبيلة، لتخليص الإنسان من الزيف والرداءة..» وبالمناسبة تساءل س منتسب : هل مات محمد سكري؟ واعتبر منتسب أنه لم يمت بل عبر إلى مكان آخر، يبادلنا بحب المشترك والجميل ويحاورنا في تفاصيل رحلة الحياة.. أما الناقد عمر بلخمار، فقد شدد في كلمة عن جمعية نقاد السينما، أن الراحل محمد سكري ظل من مؤسسي جمعية نقاد السينما بالمغرب الأساسيين، وأن رحيله فجأة صعب التعويض، وأن رحلة النقد عبر 20 سنة تجعل جميع النقاد مستحضرين دوما روحه كناقد ذكي، عميق، نشيط، حريص على استمرار النقد والجمعية في مزاولة مهامها الوطنية. من أعماله التي تشهد على تميزه «قمح» كممثل، «موشومة» كسيناريست، «هاملت» كمخرج مسرحي، وعدد كثير من الكتابات الفنية كناقد. بينما اعتبر الناقد والمسرحي والصحفي محمد بهجاجي في شهادة مؤثرة عن الراحل محمد سكري، أنه عجز لمدة طويلة عن الكتابة عن غيابه المفاجئ، مشددا أن علينا جميع التمرن على الكتابة بدون م سكري.. واستعاد مع يوسف فاضل وآخرين سؤال هل سيأتي محمد سكري الآن؟؟ وعاد محمد بهجاجي إلى عقود مضت حيث كان التعارف واللقاء الأول سنة 1982، واستحضر أيضا مصاحبته رحلة الحزن والمرض بالرباط برفقة حسن نجمي وادريس البعقيلي وزملاء آخرين.. مستحضرا شوقه لإتمام مشروع السيناريو الثاني، الذي بدأه ويستحضر فيه مشاهد من فيلم La dolce vita الصادر سنة 1960 للمخرج الإيطالي Federico Fellin . واعتبر محمد بهجاجي أن سكري اختار الحياة وانحاز إليها عبر انحيازه للحرية والتعدد في شتى مظاهر اليومي، حيث أخرج مسرحية «الفيل يا مالك الزمن»، ثم «هاملت» ثم مثل في «قمح» و«دولار»، وكتب مقالات كثيرة في مجالات السينما والمسرح والسياسة. واعتبر م بهجاجي م سكري صديق نادر لا يخون الصداقة والأصدقاء، كما لا يخون الحياة.. وأنهى كلمته بالقول: «نم قرير العين سنتذكرك إلى الأبد لأننا محتاجون لأن نحب الحياة مثل محمد سكري.» وبدوره تحدث المخرج لحسن زينون في شهادة متميزة، عن شجاعة الراحل، وموسوعيته، وإنسانيته، وقدرته الكبيرة على تحمل المعاناة، بالقدر المماثل لتذوقه للجميل. واستحضر المخرج لحسن زينون حوارات من مشاهد مبثوثة في سيناريو فيلم «موشومة»: «ذاتي انطفأت.. لا حب قد يشفيني مما أعاني..» الصحفي بوجمعة أشفري بدوره، اعتبر في كلمة بالمناسبة «كيف لا نرتعد بذكر اسمه.. كيف نقبض ذكراه وذاكرته؟»، وتابع أن « الضوء يسطو علي من مجرات محمد سكري، الضوء يرعشه ولا يخيفه..» وقال: «أنه عند غياب صديق ينتهي شيء ما.. ويبدأ شيء ما.. كما عند انتهاء فيلم سينمائي.» حيث تنطلق حكايتان، حلم وحلم. محمد سكري كان حالما كما لو أنه يخفي شيء ما.. وانتهت أمسية أربعينية الراحل محمد سكري بالإنصات إلى شهادة رفيقه الشاعر شفيق بوهو والناقد خالد الخضري، اختتمتها كلمة قصيرة من أسرة الراحل، خاصة شقيقته خديجة، وأفراد من عائلته رجاء وإلهام ومصطفى، مذكرين بمكانة الراحل داخل الأسرة كأب وكأخ وكصديق، دائم المساندة، ثم شاكرين هذا الحب الكبير لشخص شمل عطفه وحبه أطفال الأسرة والعائلة بالكامل.