ما يقوله هذا الكتاب، يفترق عن نظرية الجندر. فهو يقرر بجزم أن العقول «قد خُلقت، وبدون مبالغة، في الرحم،وفي مأمن من جحافل المهندسين الاجتماعيين التي تنتظر بفارغ الصبر». لكن مخالفته لنظرية الجندر لاتضعه في مصاف الدراسات التقليدية التي تأسست على التقسيم النهائي بين الجنسين بناء على الفوارق التشريحية. فالكتاب، يركز على الفارق الجنسي في العقل، ولا يطابق بشكل نهائي بين جنس العقل وكلا الجنسين. فالعقل المؤنث مثلاً، ليس حكراً على المرأة، وإن مالت أغلبية أدمغة النساء لأن تحتوي عقلاً مؤنثاً. مثلما العقل المذكر ليس حكراً على الرجال، وإن كانت نسبة النساء اللواتي يحملن دماغاً مذكراً قليلة. لا يدرك الرجل أن المرأة من المحتمل أن تكون أكثر سماعاً لما يعتقد أنه يقول! والأمر هنا لا يتعلق بالحدس الذي توصف به النساء تقليدياً، بل بقدرتهن على التقاط فروقات دقيقة ومهمة من المعنى عبر نغمات الصوت أو كثافة التعبير. بالمثل، تعدّ أنوف النساء، بالإضافة إلى أذواقهن، أكثر حساسية من الرجال؛ هذه الحساسية المتفوقة تزداد مباشرة قبل مرحلة الإباضة، وذلك ما يجعل المرأة شديدة الحساسية بالنسبة إلى الرجل حينها، وهذه الملاحظة تدلل على أهمية التركيز الهرموني وتأثيره على النشاط الدماغي. في المجمل تكون الوظائف الدماغية بين الجنسين مختلفة. وهذا ما يحدد جنس كل منهما، حتى إن بدت هذه الوظائف منزاحة عن الوظائف التشريحية الظاهرة. قديماً، ساد الاعتقاد بأن صغر حجم دماغ الأنثى بالقياس إلى دماغ الرجل دليل على تواضع إمكانياتها العقلية، لكن الدراسات الحديثة أثبتت أنه ليس لحجم الدماغ أهمية تذكر، وركزت هذه الدراسات اهتمامها على وظائف الدماغ وأماكن توزعها. وإذا كان الاعتقاد القديم يستغل الفارق في الحجم ليحوله إلى فارق «طبقي» أو قيمي، فإن دراسة وظائف الدماغ تنأى عن فكرة المساواة بين الجنسين بالمعنى السطحي المباشر لصالح موضوعة الاختلاف. وقد تثير هذه الأبحاث حفيظة مَن يعتقدون أن الاختلاف هو صناعة ثقافية بحتة ولا علاقة لها ببنية الدماغ، وإن تعلقت بمستوى آخر من وعي التمايز التشريحي. بمعنى آخر؛ يفسر المتحمسون للجانب الاجتماعي من الجندر تفوق بعض الحواس عند المرأة بوضعها التاريخي الذي دفعها إلى تطوير ملكات معينة على حساب أخرى بغية الالتفاف على تدني المستوى الاجتماعي المفروض عليها،في الوقت الذي لا يبدو فيه الرجل بحاجة إلى تلك المهارات بحكم موقعه في المجتمع الذكوري، مع الإشارة إلى أن من يؤمنون بتفوق الذكر، ينظرون إلى هذه الحواس كحواس دنيا. الدراسات التشريحية لوظائف الدماغ،كما يعرضها الكتاب، تقول كلاماً آخر؛ فعلى سبيل المثال معظم الرجال المصابين بضرر في الجزء الجانبي الأيسر من الدماغ يفقدون تحكمهم باللغة، لأن المهارات اللغوية موجودة في نصف الكرة المخية الأيسر، لكن النساء اللواتي أُصبن بالضرر ذاته، حافظن على نسبة كبيرة من مهاراتهن، لأن ما يتعلق بالمهارات اللغوية موزع على الجانبين في الدماغ الأنثوي، بينما يتركز في الجانب الأيسر في الدماغ الذكوري. وبأخذ الجانب الأيسر فقط؛ يختص الدماغ الأنثوي بتركيز أشد لمراكز اللغة، بخلاف الدماغ الذكري الذي تتوزع فيه مراكز اللغة على مساحة أوسع، ما يجعل الإناث أكثر تفوقاً في الاختبارات الشفوية. وفي هذا الصدد، بوسعنا استرجاع ما يُلصق تقليدياً بالنساء من اتهامات بالثرثرة، لا لتفنيدها كتهمة بل لرؤية ما تنطوي عليه من شعور ذكوري بالنقص، يتجلى ببخس النساء قيمة ما يمتلكن، خصوصاً في حقل اللغة الذي طالما نُظر إليه كامتياز ذكوري. أيضاً ليست الاختلافات في الاستجابة العاطفية لدى الجنسين بمعزل عن وظائف الدماغ،فالوظائف العاطفية في الدماغ المذكر تستقر في الجانب الأيمن فقط من الدماغ، بينما تتوزع الاستجابات العاطفية في الدماغ المؤنث في الجانبين. وقد لوحظ إضافة إلى ذلك أن مركز تبادل الرسائل بين جانبي الدماغ لدى الإناث أكبر من نظيره لدى الذكور. فالذكور، يعانون من قلة تدفق المعلومات بين الجانب الأيمن الذي يحتوي على الاستجابة العاطفية والجانب الأيسر الذي يحتوي على المهارات اللغوية، ما يجعلهم أقل قدرة على التعبير عن مشاعرهم، وغالباً أقل سرعة في الاستجابة والتعبير قياساً إلى الإناث. وقد أظهرت الأبحاث أن الأشخاص الذين يتمتعون بارتباطات أكبر بين شقي الدماغ، يكونون أكثر لباقة وانطلاقاً،ما يعطي تفسيراً أبعد لمهارات النساء الشفوية، وفي الوقت نفسه يضع التأثير الاجتماعي في موقع الصحيح، إذ يكبح في المجتمعات المحافظة ميل الإناث الفطري إلى الانطلاق. يردّ مؤلفا الكتاب «آن موير ودافيد جيسل» تشكل هوية الدماغ، ومن ثم الاختلافات بين الدماغين الأنثوي والذكري، إلى فترة مبكرة من تاريخ الحمل. المسألة هنا لا تتوقف على الجينات التي تحدد جنس الجنين، بل تتعداها إلى نسبة الهورمونات الذكورية «الأندروجين» التي يتم إنتاجها في مرحلة حرجة هي مرحلة تشكل الدماغ، وهي تبدأ مع الأسبوع السادس؛ فإذا زادت نسبة الهورمون الذكري، سيكون الدماغ الناتج ذكرياً أو أقرب إلى الذكورة حتى إن كان الجنين أنثى، وإن قلت النسبة عن الطبيعي، فإن الدماغ سيكون أنثوياً، أو أقرب إلى الأنوثة، وإن كان الجنين ذكراً. وإذا نحينا التأثيرات البيئية والاجتماعية جانباً فإن تعديلاً هورمونياً آخر سيطرأ مع مرحلة البلوغ لدى الجنسين؛ إذ يشهد الذكور الذين امتلكوا دماغاً أقرب إلى الأنوثة فيضاً من الهورمونات الذكرية التي تعدل في تركيبتهم وتجعلهم أكثر ذكورة من قبل، لكن وظائف دماغهم ستبقى أقل ذكورة من أقرانهم الذين ولدوا أصلاً بدماغ مذكر تماماً. من هذا المنظار، سيكون سر العقل قد تقرر في الرحم، ومن المحتمل أن يخضع لتعديلات لاحقة كما يحدث في مرحلة البلوغ، أو بسبب التأثيرات البيئية والاجتماعية، لكن العوامل اللاحقة ليست جوهرية بنفس القدر، أو لن يقيض لها أن تعدل في الطريقة التي توزعت فيها وظائف الدماغ. يدرك مؤلفا الكتاب المحاذير التي تحيط بعملهما، خاصة من جهة دعاة المساواة بين الجنسين، لكن ذلك لا يثنيهما عن الجزم بأن علينا القبول بالدماغ كعضو جنسي أسوة بالاختلافات الجسمانية الأخرى، فللمساواة وجهها الحقوقي والاجتماعي، أما ما تبقى فهو تحت سطوة الاختلاف، والاختلاف هنا ينبغي ألا يؤخذ على محمل التمييز «الطبقي» لأن ما يتفوق به الدماغ المؤنث لا يلغي ما يتفوق به الدماغ المذكر، ولا نعدم حالات ليست بهذا الصفاء أصلاً ما يبقي العقل حالة فردية يصعب التكهن بها مسبقاً، وهي بهذا المعنى تحتمل الخنوثة أكثر من النقاء الجنسي. ومع أن الكتاب يبدو صادماً في البداية إلا أنه يضع الاختلاف في موضع الاختلاف فقط، دون مفاضلة أو تأبيد للفوارق على غرار ما كان يُبنى على الفوارق التشريحية الأخرى. من هنا قد تلاقي هذه الافتراضات الموجة النسوية الأخيرة التي تركز بدورها على فكرة الاختلاف، لكنها مع ذلك ينبغي أن تُقرأ في إطار الدراسات العلمية القابلة للتعديل مع الاكتشافات المتسارعة في هذا الحقل، بصرف النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع هذه الخلاصات.