في الحقيقة يُسبِّب لي مصطلح «الدياسبورا» نوعا من القلق والإرباك. إذ أن هذا المصطلح (ذا الأصل النباتي والذي يعني تشظي البُذور وتطايُرَها) شُحِن، من بداياته، بحمولة ظلت لصيقة له ومُلازمة له، وأتصور أنكم تعرفون جيدا أنه ارتبط باليهودي التائه وكل أدبيات الضياع وما فيها من حزن ويأس وسلبية (كما يقول قاموس لاروس)، ثم امتد إلى قوميات أخرى أصيبت في روحها ومن بينها الأرمنية والإرلندية والكردية. لستُ ضدّ المصطلح وإنما لا أرتاح أن أكون ضمن ممثليه، أو على الأقل، فيما يخصّني، لقد «جمع الله بين الشتيتين بعد ظنّا كلّ الظن ألاّ تلاقيا». كنا في السابق نُناقِشُ مسائل أخرى تخصنا نحن المتواجدين في بلاد غير مغربنا الجميل. وكانت التسمية اللصيقة لنا هي الهجرة، ولها السبب قررت الدولة الكريمة إنشاء وزارة وصية وجهاز آخر مستقل عن الوزارة ويشتغل بإمكانات تفوق إمكانيات الوزارة، والله أعلم. ولكن الهجرة أيضا لا تعبر، هي الأخرى، عنّي، ما دُمت بدأت صراحة في تقديم شهادتي، إذ أني ومَنْ هُمْ على شاكلتي من المبدعين، لم يدخلوا في إطار صفقات مع دول، وبالتالي لم يدخلوا في لُعَب أرقام وقوانين، كما أني أختلف عن «عمي» (عماروش) الذي سُفِّر أو هُجِّرَ إلى هولندا بعد أن فحصوا أسنانه وعضلاته كما يُفعلُ، عادةً، مع البقر عندنا، ومع الخيول الأصيلة والعريقة السلالة عند هواتها ومالكيها. وإذا شئتم أن أكون أكثر صراحة معكم في هذا اللقاء، فإن الكُتُب، وبالأخص الروايات، هي التي سفّرتني من هذا البلد إلى باريس حيث أتواجد. جاءت رواية «في الحي اللاتيني: (أقصد قراءتي لها!) في لحظة نفسية مناسبة لي، معززة بترسانة هائلة من روايات فرنسية مترجمة إلى العربية، لترسم لي الطريق إلى هذه الباريس، المضيئة، عاصمة الأنوار، ورمز الثورة، الثورات، ثم جاء اللعين أرثر رامبو ونعله الريحي، وحياته البوهيمية في المتاجرة بالعبيد في أرجاء اليمن، وأنا أقول في نفسي: «كما وجد الشاعرُ الذي هربتْ منه قريحتُهُ الشعرية حرية النخاسة في يمننا السعيد والمبارك، يمكن لي أن أجد وأمارس حريتي في عاصمة النور والجن والملائكة!» ولكن الكتب في صدقها تكذِبُ، أيضا. أو أنها لا تستطيع أن تُلمَّ بالأمر من كل جوانبه. فحين وجدت نفسي وجها لوجه مع موظف ولاية الأمن في باريس من أجل استخراج بطاقة الإقامة المؤقنة تغير الأمر. لم تعد باريس هي باريس. اختفت الأنوار دفعة واحدة، وحين سألت الموظف، وكان من سحنة سوداء (الفرنسيون من الأصول الأجنبية أكثر تشددا في تطبيق قوانين الجمهورية الفرنسية من غيرهم!) عن فولتير ورامبو وكل تراث الحرية، هزّ رأسه، ازدراءاً، وهو يقول: «سيدي تنقصك وثيقة» (سأقرأ لاحقا، إدانة متكررة من منظمة العفو الدولية للإدارة الفرنسية، التي لخصتها بعبارة: الإدارة الفرنسية تساوي هذه الجملة «سيدي أو سيدتي تنقصك وثيقة!»). لم تُغْوِني أبدا حكايات العديد من أفراد العائلة المهاجرين والمتناثرين في أوروبا(ألمانياوهولندا وبلجيكا وإسبانيا وفرنسا)، إذ أن حكاياتهم لم تكن تتعدى تكديس الأموال وتشييد منازل تظل مغلقة طول السنة في طنجة وتطوان. كنت أريدني أن أضيع، أن أكون في موضع خارج التغطية والمساءلة والمسؤولية. حرا طليقا كما أرادني الله وسيدنا عمر(متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!). ولم يكن بلدي هو همي أبدا. «سأخونك يا وطني»، قلتها مع الشاعر محمد الماغوط، وفهمتها على طريقتي. وبالفعل ساعدني الحي اللاتيني على إنجاز شيء من هذه الحرية، بالصخب الذي أدركت منه بعض الشيء، في مقهى كلوني ولوبوتي كلوني، ثم مقاهي لوفلور ودو ماغو وليب حيث اختطف الشهيد بنبركة. كنا نتعارك في المقهيين الأولين الرخيصين مع كل فلول اليسار العربي المنهك والمريض، وكُنتُ أهلك ميزانيتي المتواضعة في المقاهي الثلاث الأخيرة، ولكن استذكار جان بول سارتر وديبوفوار وكل الغوتا والانتجلنسيا الباريسية التي ترتاد هذه المقاهي، وأحيانا الفوز ببعض الغنائم الليلية المتأخرة كان يعزي النفس ويمنحها الأمل بعد الألم. وفي لحظة يأس شديدة، إذ البعاد عن الوطن لا يشفي النفس كلية، أقصد في لحظة كآبة شديدة، جاءت برتغالية التقيتُها في حانة يرتادها مُتعبو الدياسبورا البرتغاليين، لتحملني إلى البرتغال، أرض الكآبة، بامتياز. أرض بيسوا ولا طمأنينته. أرض الفادو الحزين وصَوْداد التي سارت بذكرها الركبان. على ضفة نهر التاج في لشبونة تذكرت والدي. فبكيتُ. كنت أقرأ كتابا للمارق سيغموند فرويد وهو يتحدث عن ضرورة قتل الأب. ألقيت بالكتاب، وأنا في حالة عصبية، في النهر، وأنا أصدح وأصدع حبي لوالدي بلسان عربي مبين. لم يفهم البرتغاليون المتواجدون صياحي، وربما قالوا في أنفسهم، أو فيما بينهم: ها هو كائن آخر، مُهاجر آخر، من الموروش، تقتله الكآبة والغربة. وعلى الرغم من هذا الإحساس بضرورة الاتصال بوالدي، جاءت إكراهات الغربة وإغواءاتها لتنسيني شأنه ولو إلى حين. حين التقيتُ بوالدي، بعد عشر سنوات، من البعاد (نسيت أن أقول إن الغربة تقتل الزمن، هو ربما شعور نفسي، لكن شائع لدى الغرباء)، وأردت أن أفسّر أمر هذا الفراق. هل هو غياب للحنين، للحنان، هل هو عقوق وهضم للحقوق، أم أشياء أخرى؟ لاحظ تدافعا لكلمات في فمي لا تريد أن تخرج. لكأنما كنت أريد أن أقول كل شيء دفعة واحدة ولا أستطيع. قال لي: لدي مسؤولية ما في ما حدث لك ولنا. كنت أول ولد ذكر لي فأحببتك، ربما أحببتك أكثر من إخوانك الآخرين، وشاء ربّي أن يفتتنني ويبتليني. ألم يبتل الله عز وجل سيدنا يعقوب بسبب حبه ومحاباته لسيدنا يوسف على إخوته؟! أتدري يا محمد، قال لي أبي محمد، كم كلف الأمر سيدنا يعقوب؟ قلت: لست أدري! أربعين سنة. وأنا كلفني الأمر عشر سنين! «المومن مُصاب»، كما يقول أبناء بلدي الطيبون، و»على قدر أهل العزم تأتي العزائم» لأول مرة أصارح والدي بحبي له. قلتها بالفصحى ولم أقلها بالأمازيغية، ربما حتى تكون أقل حميمية، من يدري؟ مرة قالت فاطمة المرنيسي، حفظها الله، إن الشاب المغربي يفضل أن يعلن حبه باللغة الفرنسية والإنجليزية... كنتُ سعيدا، وأنا أدندن ببيت: «قد يجمع الله بين الشتيتين ...» وقلت في نفسي: لا شتات بعد اليوم، لا دياسبورا بعد اليوم. بعد كل ما قلته، أزعم مع نفسي أنني مسافر، فقط. مسافر، شأنه شأن الآلاف من أولياء الله المغاربة الذي قضوا في مصر وهم عائدون من زيارة بيت الله وقبر نبيه العظيم، البعض منهم استعذب هواء مصر والبعض الآخر نساءها. مسافر شأنه شأن المغاربة الذي شدوا الرحال إلى ثالث مسجد تُشد الرجال إليه، فوجدوا أنفسهم يقيمون حيا للمغاربة في بيت المقدس. هذا الحي الذي سيبقى خاصرة في جسد الكيان الصهيوني حتى تحرير كل فلسطين. أنا مسافر أبدي، لأن المسافر مغمور برحمة الله ورحمانيته الدائمتين، «وإن كنتم مرضى أو على سفر». «فعدّة من أيام أخَر»، واليوم، عند الله، يُراوح ما بين الألف سنة وخمسين ألف سنة. أعرف أحمد لطف الله كاتبا وقاصا منذ مطلع التسعينيات، إلا أنه ظل مُقلا في نشر نصوصه، لإيمانه بكون الكتابة تستدعي مقاييس دقيقة ومتوافقة باعتبارها لباسا وقرينا لصاحبها. لذلك؛ ليس كل ما يُكتب يُنشر. من هذه الزاوية نلامس الصرامة المواكبة لاختيار النصوص الخمسة عشر، التي كتبت بين 1994 و 2010، بحسب الإضاءة (ص62) الواردة في مجموعة «رباب من بياض» (التنوخي، الرباط، ط1، 2011)، الموسومة بتنوع الموضوعات: الجسد، المرأة، الحب، الكتابة، الذاكرة، الموت، المحو، علاقة الإنسان المهمش بالسلطة، حالات ومواقف خاصة بالمبدع وهلم جرا. ربما مرد هذا التنوع يعود إلى اعتبار هذه المجموعة باكورة إنتاج الكاتب، مما يبرّر هذا الانتقاء الدقيق لنصوص مختلفة راكمها الكاتب طيلة عقد ونصف من الزمن. رغم هذا التنوع، هناك خيوط من الأفكار والتأملات التي تَنْسُجُ لُحمة هذه النصوص، ضمن رؤى إبداعية تمتح من جمالية الفنون، وبخاصة فني السينما والتصوير La peinture، اللذيْن تستعير طبيعَتَهُما اللغوية والتقنية رغبة في تكثيف ومضاعفة البعد الجمالي في النص القصصي، حيث يصبح السرد القَصصي موازيا في أدائه للسرد الفيلمي، فتجعلنا بعض النصوص نَشْعُر بمتعة تتبع الكاميرا وهي ترصد الأحداث على شاكلة الإخراج السينمائي، كما تحيل على ذلك بشكل جلي، العناوين المقطعِية التي تتخلل نص «شريط النسيان» (ص19) على وجه الخصوص: صورة صامتة، لقطات بانورامية بالصوت والصورة، لقطة أخيرة ثم جينيريك. بينما نجد الوصف القصصي يروم مطاَبقَةَ موصوفاتِه، استنادا إلى عرضها بتشخيصية الفنان التشكيلي، ويمكن التمثيل لهذا خاصة بنص «محنة البياض» (ص23)، إذ نجد أنفسنا أمام قصة تحاكي اللوحة في مستوى حضورها كصورة ذهنية لدى القارئ: «الآن فقط أدركت أن البياض وحده سر الحكاية بأكملها، بياض الورقة غواية لذيذة لافتضاض الذاكرة، وإلحاح سافر على مشوار يوغل في جسدها البض. هل كان جَسَدُها أبيضا؟ (...) أخذت أفكر: ألِلْجِلد الآدمي لون؟ هل يصْلُحُ ذاك البني الخفيف، ذاك الترابي، أن يَصْبَغ ذاك الجسد الباذخ؟ (ص23). (...) ... بياض واضح يحدّثني، حتى وهي تَضْحَكُ مِلْءَ فَمِها لم تُبْدِ غيرَ أسنانَ بيضاء، أما لسانُها الأحمرَ الذي يظهر ويختفي فقد انسجم لونه مع سَوادِ شَعرها... سوادٌ يعوم في بحْرِ البياض. ولطْخَةٌ حمراء صغيرة تُذْكي الجسَدَ وتدعوني باشتهاء إلى أن أمتص رحيقَهُ. (...) ... «رغم أنني سمراء أميل إلى السواد فإن قلبي أبيض». لم أثِق أبدا في هذه العبارة، فالقلوب كلها حمراء تجري فيها دماء الحياة بخيرها وشرها، لذلك فإنني أثقُ في الجلدِ أكثر مما أثقٌ في القلب» (ص24). إن ثقة الكاتب في الجِلْدِ هنا توازي ثقة التشكيلي في اللون، إذ تبقى هذه الإرهاصات التصويرية المصحوبة بالسؤال المحوري حولَ اللون، هي نفسُها التي تحرك اشتغال المُصَوِّر Le peintre وهو يتعامل ويتفاعل مع الموديل الناعم. إلا أن لغة الكاتب في هذه الحال تُشْحِنُ هذه الإرهاصات بطاقة تأملية عميقة، بقدر ما تمنحها المعاني والدَّلالات التواصلية التي يتلمسها القارئ بِقَدْرٍ من المتعة والوضوح. في مقابل اللون، يمكن مقاربة عنصري الخط والشكل (Ligne/forme) من خلال فن البورتريه البارز في نص «بالأبيض والأسود» (ص43) بخاصة، حيث يلْبِسُ السَّرد لغةً مُحاكيةً للغرافيك، كأن الأمرَ يتعلقُ بتشكيل الوجه عن طريق الرسم Dessin الذي يعتمدَ الخطَّ بالأساسِ في هندسةِ وتركيبِ ملامحِ وتقاسيمِ الوجه: « وجه يفيض عذوبةً ومرحاً، قسماتُهُ ترسُم علاماتِ الفِطنةِ والذكاء، تقاسيمُه رُسمت بريشة الجمال، خداها ممتدات بصرامةٍ ودقّةٍ وروعةٍ، يلتقيان في أعلى الوجهِ عند مَحْجَرَيْن مستديرَيْن بشكل مناسبٍ لمساحة الخدّيْن، لذلك كان حجْمُ عينَيْها متوسِّطا، لاهُما بالغائرتيْن ولا البارزتيْن، لا يفصِلُهما عن صفحة الوَجْهِ غيرَ مكانٍ ضيّق يسمَحُ لأهداب الجَفْنَيْن أن ترتعشا وتعبِّرَ عن أنوثة طافحة وأَلَقٍ تام. وينتهي الوجَهْ بذَقْنِ صغير لطيف يحمِل ابتسامة ثَغْرِها الفتان. وجهُها يَجْمع بين الطفولة والرُّشد...». لإغناء هذه الصيغة البصرية بخلفية سمعية، كان لابد من زرع بعد صوتي يقوم على معيار طبيعة الثيمات لترجمة صفة التوافق Coherence. من ثمة، فإن لغة النصوص القصصية في هذه الرباب لغة حِسِّيّة، تسعى إلى «جَسْدَنة» Corporalisation الأحداث وتمثيلها. يقول السارد في نص «فصوص لطائفية» (ص15): «أتحسس وجودَها، وأتلصَّص على رفيف أهدابها، وتَتَلَمَّسُ أصابعي الهائمة خِصْلَةً منفلتَةً من شَعْرها، وقد تراخَت وتبعْثَرَت على وَجْهِها النَّبيل». وهي كما نلْحَظُ لغَةٌ منسابةٌ تُلائم رومانسيّة المشهد باستعمال الهمس: «أتحسس، أتلصص، أتلمس»، وتنأى عن التنافر اللفظي الباعث على الضجيج والصراخ. ذلك أن الهمس سليل البياض. بناء على ماسبق، تميل النصوص القصصية - في مجملها- إلى محاكاة اللوحات التشكيلية والأفلام القصيرة، من خلال التوصيف الدقيق الذي تتدخل فيه تعبيرية العَيْن، استنادا إلى التمثيل Representation والتقطيع والتكبير والتفصيل والتجريد والشفافية والاسترجاع، بالمنوال الذي يُثيرُ القارئ ويدمجهُ ضمن إيقاع التفاعل الإيجابي مع المشاهد والأجواء والأحداث والمواقف، عبر لغة أنيقة تستشفُّ بَذْخها المعاصر من جَمال المُعجم التراثي الذي يعمل الكاتب على تكييفه ليُمسي أكثر سلاسَةً في سير الحكي. في ذات المنحى، وضمن هذا المد التصويري الذي يؤطر النص القصصي في هذا الكتاب، وجب التأكيد على أن هذا الميْلَ نابع من عِشْقِ صديقي المبدع والباحث أحمد لطف الله للفنون التشكيلية والبَصرية، العشق الواعي الذي لامَسْتُهُ عنده عن قرب، على الأقل منذ أن أقام في 1994 بمدينة مكناس التي واكب فيها كافة الأنشطة التشكيلية وقتئذ، إلى أن كَبُر لديه هذا الاهتمام الثقافي أكثر مع التحاقه بالدار البيضاء في 1996، حيث وفرة الأروقة والمعارض والكاتالوغات ومختلف اللقاءات الفنية... إنه الولع الذي قاده إلى إنجاز أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه حول تجليات الفنون التشكيلية في الرواية العربية ? نموذج التصوير La peinture، تحت إشراف أستاذنا حسن المنيعي بكلية آداب فاس، العام 2006. في هذا الأفق، صار من البدَهي أن يساهم بكتاباته في النقد الفني، وهو الباحث المحنك في مجال النقد الأدبي. عبر هذا المسار المُورق، المشفوع بروح المغامرة الفنية، اشتغلت نصوص «رباب من بياض» على الأبيض والأسود، على الضوء والعتمة، على الأمل والألم. بيد أن الغَلَبَة ظلت تميل لِكفَّة الأبيض الذي «يهزِمُ زُرقة البَحْر وكُل الألوان» (ص17)، كما هي الحقيقة الفيزيائية لألوان الطيف الضوئية التي يختزلها شعاع الأبيض الموصوف بقوة الكشف: «في البياض أستطيع الغوص بحرية تامة، أستطيع أن أتأمل الأبيض وقد حلّ في ورقة أو ثوب أو غيرهما، فأشعر بإنسانيتي تنجلي أمامي عارية بَضَّة، الأبيض يجعلني أتذكر كل شيء، الأبيض يستطيع أن يُدخلني حمام الطفولة، هنالك.. بعيدا في الذاكرة» (ص17). وفي الوقت نفسه، «يكشف الأبيض فقر الكتابة»، يضيف الكاتب، لأن «الصفحة البيضاء العذراء تقول كل شيء، وحينما تُسَوَّد تقول ما سَوّدَها فقط» (ص25). هذا التصور القائم على رمزية البياض المُشَكَّل بتوزيع نوراني، هو ما ينعش الكثافَة التصويرية والبَلاغية في هذه السيرة الضوئية. وبهذا التوجه، تنسجم الأضْمُومة مع نصوصها الموازية: لوحة الغلاف وصورة المؤلف الذي يعمل الآن على ترتيق بياضات روايته الشيقة التي نِلْتُ شرف قراءة بعض فصول مُسْوَدَّتِها. نص الكلمة التي ألقيتها في حفل توقيع مجموعة «رباب من بياض» للكاتب أحمد لطف الله، نظمه المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، 26 مارس 2012 * (تشكيلي وناقد فن) أفضل أن يطرح السؤال حول دفاتر التحملات بصيغة التالية: عن أي تلفزة يريد المغاربة التحدث بعد الدستور الجديد أو بعد مجيء الحراك العربي. إن أهمية دفاتر التحملات ليست في نظري سوى آلية من الحكامة الرشيدة التي لا أحد يمكن أن يرفضها، كطريقة إجرائية لتحقيق الشفافية والمحاسبة ومناهضة الفساد الإعلامي. أما عندما تتجاوز دفاتر التحملات دورها الطبيعي، وتتحول إلى رقابة تشريعية، تضع مضامينه المنتوجات الإعلامية، وتملأ الخانات الفارغة بطريقة موجهة ومتحكم فيها كالآذان مثلا أو النقل المباشر لصلوات الجمعة والأعياد الدينية، فإنها بذلك تزيع عن مقاصدها وتتحول إلى خطاب أحادي يمثل صوت الحزب الأغلبي. إن حضور اللغة الأجنبية لا يهدد اللغتين العربية والأمازيغية، بل إنه يمثل إضافة تنافسية لهذه اللغات، وكثير من البرامج الناجحة عربيا ليست سوى مجرد دبلجة أو تعريب ركيك لهذه البرامج الأجنبية. وقد كنا نستمتع في طفولتنا، ومازلنا كذلك بمشاهدة الأفلام الهندية بالرغم من عدم معرفتنا بهذه اللغة، فقد عودتنا هذه المشاهدة على الانفتاح على أذواق سحرية مغايرة وعلى قبول ثقافات مختلفة. أريد أن أقول، إن الحديث عن الحكم على المنتوج الإعلامي وتقويمه، يجب أن يخضع لمنطق الجودة والمتعة الجمالية المرتبطة بالترفيه والفرجة، وكذا بالمسؤولية الجادة، التي تؤدي إلى قبول هذا المنتوج وتلقيه من لدن الجمهور الواسع. إن الرهان الحقيقي على تلفزة مغربية بمواصفات إعلامية عصرية لا يقتصر على الإعلام، وعلى أوقات الآذان، هناك قنوات خاصة بالموضوعات الدينية، كقناة السادسة، لكن هذا لا يعني أنها أجود القنوات المغربية. في القطاع السمعي البصري، لا يتم تقويم الفرجة والفنون من خلال مبدأي الخير والشر، لقد قال القدماء العرب إن الفن، أو كما يقول الناقد الأصمعي عن الشعر، باعتباره أرقى الفنون العربية وديوانهم، إن الشعر إذا دخل في الخير، لان وضعف، ونحن نعرف أن الشاعر حسان بن ثابت صاحب قصيدة «البردة» قد توقف كشاعر، بعد هذه القصيدة، وانتهى معها شعر الدعوة الإسلامية، بحيث لا نجد بعده شاعرا كبيرا سار على نهجه. إن لنا في التجربة المصرية، عندما سيطر الدعاة السياسيون على القنوات الفضائية، بدلا من استمرار القنوات التفاعلية التي كانت موجودة قبل الثورة، يلاحظ هيمنة الخطاب الأحادي على الإعلام المصري، و خير مثال على ذلك قناة «الرحمة» التي يحتكر الحديث فيها أحد الدعاة كل أوقات البث مقدما دروسا في الإفتاء والتوجيه واحتكار الحقيقة الدينية والدنيوية، وحتى في قناة «الجزيرة»، نجد أن برنامج «الشريعة والحياة» أقل مشاهدة بالمقارنة مع البرامج الإخبارية والسياسية. إن المعيار لنجاح البرامج الإعلامية ليس لصيقا بمقدار بصمتها الدينية أو العقلانية، بل بمقدار استقلاليتها الموضوعية واحترافية طريقة انجازها. إن واجب الحداثيين الذين ساهموا في إطلاق الربيع المغربي، وفي إشعال الثوارت العربية، أن يقوموا في هذه الفترة بالذات بثورة ثقافية تساند الحراك السياسي. وهذه الثورة الثقافية هي الحلقة الضعيفة التي تحتاج إليها الانتفاضات العربية. بالنسبة للسياسات الكبرى، في فترات المنعطفات التاريخية وعندما يتعلق الأمر بقضايا الشأن العام كالتعليم والهوية الثقافية مثلا، فإن الحلول المقترحة لا يمكنها أن تكون إقصائية، بل إنها تعتمد على مبدأ التوافق الذي ينصت إلى أصوات الجماهير الصامتة التي كانت صانعة للربيع العربي دون أن تجني ثماره، لأن الأمر يتعلق بالتوافق على هوية مغربية وسيرورة قيد البناء والتشييد ليست حكرا، على جهة محددة حتى ولو كانت لها أغلبية بالمقاعد الانتخابية. يجب كذلك أن توضح أننا نفهم احترام التعدد الثقافي ليس بطريقة سالبة، لقد آن الأون أن نتوجه بالنقد إلى النخب الفرنكفونية الكسولة التي يحلو لها الانتماء الى التأشيرة الفرنسية التي تسيء الى ثقافة التنوير الفرنسية، وتنحاز إلى مخلفات التوسع الاستعماري الذي تراجع نفوذه، في مرحلة ظهور أقطاب صاعدة. إننا نعتد بالفرنسية كغنيمة حرب، كما تعامل معها باسكون، وزكية داوود، والخطيبي في المغرب المتعدد، وجرمان عياش في كتاباته التاريخية ومحمد خير الدين في كتاباته الإبداعية. لقد تحولت دفاتر التحملات إلى حرب عصابات لغوية، لكي نغنم هذه الحرب جميعا، يجب أن نتوجه بالنقد المزدوج إلى تحرير اللغة العربية من قدسيتها المتعالية عن طريق تطويرها وتسهيل تفاعلها مع العالم والتطورات الحديثة، والتعاطي من جهة أخرى مع الفرنسية بعيدا عن مركزيتها المتضخمة المزعومة باعتبارها لغة الامبراطورية الدائمة. إن الاعتماد على الإنتاج المحلي في دفاتر التحملات والإبداع الخلاق للفاعلين المغاربة مع المنتوج الإعلامي سيقدم خدمة للتعدد الثقافي المغربي، خارج مواقف التحريم والتخوين اللغوي. وهكذا لا نلاحظ من خلال كناش التحملات استراتيجية ثقافية حقيقية، صحيح أن هناك حديثا عن التنوع اللغوي، وإعطاء الاسبقية للغتين الرسميتين العربية والأمازيغية دون إهمال للفرنسية عبر إعادة الترتيب لتواصل هذه اللغات، لكن رغم ذلك: هل هناك حضور للهاجس الثقافي، رغم للغات من علاقات وطيدة بالسؤال الثقافي. هل هناك حضور لمختلف المشاغل الثقافية عبر تكثيف البرامج الثقافية ذات البعد التعريفي والتحسيسي والنقدي لمختلف شؤون الحياة، هل هناك احتفاء بالقراء والمشاهدين بسن برامج للمسابقات الثقافية والترفيهية، والتي يكون من أهدافها، سواء المضمرة أو المعلنة، تحفيز الناس على التعاطي للثقافة في منتوجاتها المادية وعلى رأسها الكتاب، أو تجلياتها الفنية على صعيد المسرح والفنون التشكيلية والسينما والفن الفوتوغوافي. والبرامج الترفيهية، وبرامج المنوعات، حيث يحضر الهاجس الثقافي أولا وأخيرا. إن المغرب، وإن كان في حاجة إلى برامج سياسية حوارية كثيرة، كما يريد دفتر التحملات، إلا أن هذا الهدف ليس من الضروري أن يكون مباشرا، فنحن لسنا في حاجة إلى اطلالة السادة الوزراء يوميا علينا ليخطبوا فينا، فهؤلاءمنفذون لسياسة عمومية، فينبغي أن يطل علينا ناقدوهم من المعارضة، ومن الاكاديميين، ومن المثقفين، ومن الكتاب، والفاعلين الجمعويين، في صورة برامج أخرى غير مباشرة ثقافية وتثقيفية،لأنه من شأن كثرة هذه البرامج السياسية المباشرة أن تكون لها وظيفة عكسية تنفر المشاهدين والمستمعين، من السياسة والشأن السياسي، كما هو الحال أيام الحملات الانتخابية، حيث يكثر المتدخلون والخطباء السياسيون وحيث ينفر الناس إلى قنوات أخرى، هربا من الضجيج واللغط،لأن السياسة لها تجليات غير مباشرة. فالوردة عندما تنفتح، تعتبر سياسة، وعندما يصيب الجفاف الطبيعة، فهو سياسة أيضا، رغم ما يبدو من أن الأمر من صميم الطبيعة ولا دخل للناس فيه، ما أريد أن أزعمه هو التفكير مليا في استراتيجية ثقافية عبر إشراك المهنيين أولا، ثم إشراك الفاعلين الثقافيين من خلال مؤسساتهم الثقافية كاتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر وائتلاف الفنون الذي يحتوي على 17 جمعية، وإشراك الاقتصاديين المغاربة،لأن الإعلام الاقتصادي مهمش بدوره في الفضاء السمعي البصري. إن الديمقراطية، وتنزيل الدستور، حقيقة يبدأ بالتشاور مع المهنيين عبر مختلف مراتبهم وإشراك الفاعلين الثقافيين والاقتصاديين، لأن الاعلام العمومي، وإن كانت وزارة الاتصال وصية عنه، فإن منتوجه يتجاوز المهنيين والمعنيين مباشرة إلى المعنيين بطريقة غير مباشرة، وإلى مختلف المواطنين، خاصة وأن الدستور الحالي، قد دعا إلى إشراك المجتمع المدني، بل وكرم المجتمع المدني من أجل المساهمة والإسهام. إن الحكومة الحالية، مطالبة بتفعيل الدستور وتنزيله وفق روحه، ووفق الأفق الذي أتي به، وليس وفق تصورات ذاتية أو أجندات سياسية محددة، وفي هذا فليتنافس المتنافسون. تأسيسا على هذا السؤال تطرح أمامنا دفاتر التحملات التي وضعها وزير الاتصال، مصطفى الخلفي، سؤالا مركزيا آخر: هل فعلا سيقطع المغرب مع «تلفزيون الاحتواء» لصالح «تلفزيون التثقيف»؟ وهل صحيح أن تلك الدفاتر أعادت المواطن المغربي إلى الواجهة الثقافية؟ جوابا عن هذا السؤال، أكد مصطفى المسناوي، مستشار وزير الاتصال، أن دفاتر التحملات الخاصة بالقطب العمومي والدوزيم تولي أهمية للثقافة أكبر مما كان موجودا في السابق، وذلك يتمثل في إنشاء قناة خاصة بالثقافة، إذ ستصبح القناة الرابعة قناة ثقافية تبث برامجها على مدار الساعة، وستغطي جميع المجالات (المسرح، السينما، الفنون التشكيلية، الموسيقى، برامج الاكتشاف، تعليم اللغات الأجنبية.. إلخ). وأوضح المسناوي أن النقاش الدائر حول دفاتر التحملات لم ينتبه إلى مسألة مهمة، وهي «النظرة الجديدة» لقنوات الشركة الوطنية. فهي نظرة تكاملية، والعرض العمومي أصبح متكاملا ولا تتحكم فيه سياسة الأرخبيل أو «الجزر المعزولة». مضيفا أنه في أفق 2015 سينتهي البث التناظري لصالح البث الرقمي الذي سيكون معمما، وسيمكن المشاهدين من باقة قنوات يتعدى عددها 10 قنوات. إذن، فالدفاتر الجديدة- يقول المسناوي- حملت معها قناة مخصصة للثقافة، أي 10 بالمئة من مادة البث. إضافة إلى قناة «أفلام» التي أعيد تركيبها من جديد. وفضلا عن ذلك، فإن الثقافة تحتل مكانة مركزية في القنوات «الأولى» و«الثانية» و«الأمازيغية» التي ستبث برامج فنية وسينمائية. وذكر المسناوي أن دفاتر التحملات الجديدة تحاول أن تصحح النقص الحاصل في مفهوم الخدمة العمومية عبر إعادة الخدمة إلى المواطن بدل التعامل معها كمادة مربحة ومطلوبة إشهاريا. ومن جهته يذهب حمادي كيروم، ناقد سينمائي ومستشار للوزير مصطفى الخلفي، إلى أن الهاجس الذي حكم دفاتر التحملات الجديدة هو تخليص التلفزيون من ترسبات الماضي. وقال كيروم: « لما أخذنا مهمة إعداد دفاتر التحملات على عاتقنا، كنا على اطلاع بما يجري في القطاع السمعي البصري، انطلاقا من المرحلة التي كانت تسيطر فيها الداخلية على القطاع، مرورا بالمحاولات الخجولة للاستقلالية. إذ لم يكن هناك أي اهتمام بالثقافة. فحين كانت الداخلية تسيطر على القطاع، لم تكن هناك أي استقلالية، ولا تلفزيون عمومي. وكانت التلفزة مجرد أداة للمراقبة وإيصال خطابات قوية للسيطرة على العقول. وبالتالي لم يكن من الممكن الحديث عن الثقافة إلا انطلاقا من عقلية غونبليز «كلما ذكرت الثقافة تحسست مسدسي». أما خلال مرحلة محاولات الاستقلالية، فالسيطرة كانت بالكامل لمافيا أخرى: مافيا المصالح والمنافع، إذ أصبح المستشهرون «موالين الشكارة» هم الذين يسيرون التلفزيون، والنتيجة أن الثقافة أصبحت منفرة وتقلصت نسبة المشاهدين». وعن المرحلة الحالية التي تتميز بالثورة الرقمية»- يقول كيروم- أصبح التلفزيون هو «ثقافة من لاثقافة له». إذ اختفى الكتاب والمسرح والسينما والموسيقى والفنون التشكيلية، وأصبحنا نحس بأن «البؤس الثقافي وضع اليد على البلد». وفي ظل هذه الوضعية، حاولنا أن نغير مفهوم الثقافة نحو مفهوم جديد، لأن المطبخ مثلا أصبح الآن ثقافة. كما حاولنا أن نفعل الأهداف الأربعة (الإخبار، التثقيف، التربية، التسلية). تغيير مفهوم الثقافة هل هو أمر ممكن في التلفزيون؟ لقد لاحظ علماء متخصصون في اجتماع الثقافة -كما يوضح علي منظور في مقال له «حول الثقافة والتلفزيون»- أن المادة التي يقدمها التلفزيون لاتندرج إلا نادرا ضمن مجال الثقافة والمعرفة بالمعني الحرفي للكلمة، وأنها تميل، بعكس ذلك، إلى تسطيح وعي المشاهد انطلاقا من الأسفل، بمعنى أن البرامج التلفزية في عمومها لا تتوجه إلى النخبة المفكرة أو المثقفة في المجتمع، ولا إلى الفئات التي تتوفر على معدل ذكاء متوسط، بقدرما تتوجه إلى أدنى الفئات ثقافة ووعيا ومعرفة، وذلك انطلاق من مبدأ مضمر لا يتم التعبير عنه هو ضرورة أن يتمكن الجميع دون استثناء من متابعة برامج التلفزيون». وقال علي منظور إن «ثقافة التسطيح» ليست حكرا على المجتمعات المتخلفة، بل ينطبق هذا الأمر على المجتمعات المتقدمة أيضا. ذلك أن «المواد الثقافية المتلفزة، إن وجدت، تبرمج في وقت لا يحظى بما يعرف لدى المهتمين بلحظات المشاهدة القصوى أو ذروة المشاهدة. ولا بأس أن تقدم البرامج الثقافية في وقت متأخر من الليل، فلن ينزعج، أو يحتج، أحد. وبعكس ذلك، إذا برمجت المواد الثقافية في فترات مناسبة للمشاهدة وجدت كثيرا من المحتجين على سوء التقدير هذا الذي لا يراعي رغبة «عموم المشاهدين» في متابعة مواد خفيفة من قبيل الأفلام أو المسلسلات أو المنوعات الغنائية التي لا تتطلب أي مجهود ذهني خاص، وتجعل المشاهد على استعداد لنومة هنيئة مريحة». معنى ذلك، وهذا ما ينبغي الاعتراف به- يقول علي منظور- أن التلفزيون لا يمكنه أن يكون، بصورته الحالية، وبالميثولوجيا التي خلقت من حوله، أداة لنشر الثقافة والمعرفة. والدليل على ذلك أن واحدة من أهم القنوات العالمية التي جعلت نشر الثقافة هدفا لها، وهي قناة «آرتي» الفرنسية الألمانية، تحظى بنسبة مشاهدة في فرنسا، مثلا، لا تتعدى 5 بالمائة؛ وهي نسبة غير قابلة للمقارنة، بطبيعة الحال، مع النسب التي تحظى بها برامج المسابقات والمنوعات بالقنوات العمومية والخصوصية الفرنسية. ويؤكد علي منظور أن التهرب من «الثقافي» لا يعني بالضرورة نشر «اللاثقافي»، ومع ذلك, فإن متابعة نوعية «الثقافة» التي تبثها قنوات عديدة، غربية وعربية، يجعلنا نخلص إلى أن دورها ليس محايدا، وأنها، بعكس ما قد نعتقده، تبث نوعا من «الثقافة المضادة» ( عن وعي أو بدونه) أو «اللاثقافة» من خلال برامجها المتعددة وبأشكال وأنواع مختلفة. ويتابع «إن تركيز القنوات الغربية، الأمريكية والأروبية، مثلها في ذلك مثل فضائيات عربية عديدة، على المنوعات والمسابقات وبرامج «التوك شو»، وبرامج التسلية والترفيه بوجه عام، هو تعبير في حد ذاته عن تصور معين للثقافة يعتبر المشاهد في غيرما حاجة إلى تطوير معارفه وتهذيب ذوقه والرقي بمداركه، الشيء الذي يجعلنا في قلب الإيديولوجيا، وتوظيف التلفزة من أجل خلق كم مهمل من الكائنات الوديعة التي يسهل التحكم فيها عن بعد، حتى وهي تتوهم أنها تتحكم في التنقل عبر القنوات عبر جهاز تحكم تمسكه بين أناملها. بل إن بالإمكان القول، أكثر من ذلك، إن التلفزة قادرة ، والحالة هذه، على أن تساهم في انحطاط الذوق وتكوين عادات مشاهدة وعادات سلوكية متخلفة. ولكي نقتصر على ما تقدمه الفضائيات العربية نشير مثلا إلى الدور السلبي المتخلف الذي لعبته وتلعبه المسلسلات المكسيكية المدبلجة في النزول بوعي المشاهد وبذوقه إلى الحضيض، وفي خلق «ذوق جديد» يمكن أن نطلق عليه اسم «ذوق استحسان الرداءة».