قلت , منذ حوالي سنة , في حفل تكريم الأستاذ المرحوم أبي بكر القادري بأني أشعر بثقل المسؤولية في كيفية تقديم هذا الهرم ، وتساءلت آنذاك عن مدى قدرة العبارات مهما اتسعت حمولتها على استيعاب مسار هذا الرجل المتعدد، الأب، المربي ، السياسي، الباحث ، الأديب ... واليوم ماذا عساي أقول بعد كل ما ذكر أثناء الجنازة، وما ذكر الآن من رفقاء دربه ومن الذين عايشوه إلا أن أتساءل ثانية : هل نستطيع فعلا أن نوفيه حقه ؟ سألجم لساني عن الحديث عن سيرته وتعدد منجزاته وسأقتصر على شذرات تتعلق بمدرسة النهضة . لا أذكر بالتحديد اليوم الذي تعرفت فيه على المرحوم, فقد التحقت بمدرسة النهضة وعمري لا يزيد عن الخمس سنوات إلا قليلا ، عشت هناك تلميذة تتلمس بداية الطريق، وعدت إليها أستاذة لمدة خمس سنوات، ثم غادرتها جسميا ولم تغادر وجداني لأنها جزء مني، إلى أن عدت إليها مؤخرا مع ثلة من الخريجات والخريجين لنؤسس جمعية قدماء هذه المؤسسة المعلمة . كان المرحوم يشجعنا ونحن تلاميذ نحبو في ميدان الدرس، ليحدثنا حتى بين الحصة والحصة، أو يغطي غياب بعض الاساتذة في الاقسام العليا، ليغرس فينا حب المعرفة وشغف القراءة، وبذرة النضال . وأنا أستاذة اكتشفت جوا آخر, جوا أسريا مسؤولا, فالأستاذ أبو بكر القادري المدير كان يخلق جوا من التعاون والإحترام والمحبة، يشعرنا بأهمية عملنا وعطائنا ، يمنحنا الإحساس بضرورة وقيمة وجودنا ، فلم أشعر أبدا بسلطة الإدارة ولا بأية رقابة إلا روح المسؤولية والرقابة الذاتية التي يغذيها فينا . لقد كان يحثنا على الإهتمام بالقضايا العامة، بل كان يحاورني أحيانا أثناء «فترة الإستراحة» ، وهو الأستاذ الكبير وأنا المتخرجة المبتدئة في كثير من القضايا ربما لأن لسعة العمل السياسي والنضالي كانت قد أصابتني آنذاك. وعندما جمعتنا «الجمعية» وجدت أن خصاله وأفكاره ممتدة في كل واحدة وواحد منا، ولو بأشكال مختلفة، لقد رسخ في تلامذته ثقافة الحوار والإنفتاح ، علمنا أن لا نقبل الحيف أو الظلم أو الغبن ، وأن نواجه كل ذلك متسلحين بالمعرفة متمسكين بأخلاق الحوار وقبول الإختلاف والإعتراف بالآخر، متشبثين بكرامتنا . كنت أراه شامخا في مؤسسته وبعدها عرفت أن المؤسسة لم تكن إلا المنطلق، لأنه لم يكن المربي داخلها فقط, بل كانه في جل ربوع الوطن. فأيقنت أن غرسه قد أينع وأعطى ثماره في الأجيال التي رباها. لقد بدأ هذا الغرس في بداية حياته وتحديدا بعد الظهير البربري ، عندما اختار المقاومة في ميدان التعليم، وآمن أن الاستثمار البشري هو الطريق إلى بناء وطن الغد ، وأنه يبدأ من القضايا التربوية والثقافية لأنها المنطلق لبلورة المواقف والحفاظ على الهوية المغربية ، وأن التعليم ضرورة مجتمعية وآلية فعالة للتحرر والتقدم، فقضى فيه حوالي ربع قرن. أسس مدرسة النهضة وجعلها حصنا لمقاومة سياسة تسييد معالم الحضارة الفرنسية وتهميش كل ما يمثل الهوية الوطنية ، حارب الإستعمار عن طريق محاربة الجهل، والعمل على نشر الوعي بالذات الوطنية ، حاربه بسلاح العلم والمعرفة وهو سلاح بتار لا يهزم أبدا . ومن خلال هذه المؤسسة, أدخل التعليم المعرب إلى فضاءات كانت مسورة بالفرنسية، وجعله يخترق الحواجز ليصبح لغة العلوم، فتجاوز بذلك الموروث التقليدي الى تأسيس مدرسة مغربية حديثة من خلال عصرنة المواد وتحديث المناهج والطرق التربوية، وبث الفكر التنويري الوفي للجذور والهوية، والمنفتح على كل ما هو أساسي وكوني، فعند الاستاذ أبي بكر القادري تتقاطع الأصول مع التطور، الجذور مع الامتدادات، ولعل هذا ما جعله يولى مسألة تعليم الفتاة عناية كبيرة. ففند خرافة التمييز بين المرأة والرجل باعتماد التعليم المختلط- وبذلك فتح واجهة جديدة لمحاربة الجهل والتخلف وتهميش نصف المجتمع، وكل من زار المدرسة سيتذكر ولا شك ما كتب بالخط العريض والجميل على أحد جدران الساحة «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة». هكذا جعل رسالة المدرسة متكاملة: تعلم البنات والأبناء، وتلج المجتمع ككل، فتفتح أبوابها ليلا لدروس محاربة الأمية. وتتصل بالآباء والاولياء لتشعرهم بمسؤولياتهم وتتعاون معهم، وتنفتح على محيطها الفكري: بالمواسم الثقافية والندوات والمحاضرات ، والمعارض العلمية والرحلات الى مختلف مناطق المغرب ، وحفلات آخر السنة... و... كلها آليات للتواصل بين المتمدرسين وهيئة التدريس مع سكان المدينة والمثقفين والمفكرين. فالغرض من التعليم كما حدده الأستاذ أبوبكرالقادري في كتابه قصة النهضة : «هو تكوين المواطن الصالح المعتز بدينه ووطنه ، العارف بتراثه وحضارته، المدرك لمسؤوليته في الحياة, الباذل للجهد الذي يتطلبه منه كفرد عامل منتج في عالم منفتح متقدم» ص 278 . أيها الحضور الكريم قال الزجال مراد القادري أحد خريجي هذه المؤسسة عن المرحوم « حياة أبي بكر القادري هي حياة المغرب ، تأمل مساره في السياسة والتربية والتعليم يجعلك في قلب مسار هذا الوطن» فعلا أليس هو الذي اعتقلته السلطات الفرنسية لثاني مرة وسنه لا يتجاوز العشرين لأنه تقدم مع 10 من الوطنيين سنة 1934 من بينهم المرحومين علال الفاسي والهاشمي الفيلالي والمكي الناصري ، بمذكرة تضم مطالب الشعب المغربي في ميدان الحريات العامة : كحرية الصحافة، وإصلاح العدالة، والقضاء على الفساد . مطالب لازالت بعض الأمم تصارع لتحقيقها . أليس هو المهتم بالجانب الإعلامي، الذي أسس مجلة الإيمان ومجلة الرسالة «الأسبوعية» ، بالإضافة إلى إصداراته العلمية والتاريخية التي تقارب 50 مؤلفا . أليس هو المدافع عن القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينبة . أليس ... أليس ... إنه الرجل الذي يترجم قناعاته الى مواقف عملية تعكس قيمه وأهدافه . أتذكر عندما ذهبنا إليه في نهاية الثمانينات - نحن ممثلات أربعة أحزاب وطنية- حيث بدأنا نؤمن بضرورة توحيد جهودنا في بعض القضايا المشتركة لنستشيره في أول عمل تنسيقي لنا بإحياء سهرة فنية كبرى نرسل ريعها لمساندة أطفال فلسطين ، نستشيره كمسؤول في الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني في كيفية تحويل الأموال ، وجدنا فيه كالعادة المساند الأول في عملنا التنسيقي الوحدوي أولا ثم في مشروعنا الذي تابع كل مراحله. يعتبره الكثيرون رائدا من رواد الحركة الوطنية ، ونعتبره رائدا أيضا في المجال التربوي والسياسي ومجال البحث بشهادة الجميع الذين أسموه أيضا «المجاهد» فلا يقرن اسمه إلا بهذه الصفة الجليلة التي لم تمنح إلا للقلة القليلة في المغرب . لقد حقق الإجماع على احترامه وإكباره، لذا احتفى به الكثيرون، لكنه كان يجعل كل تكريم له تكريما للذاكرة الوطنية المغربية . وأخيرا ها نحن نلتقي اليوم باختلاف أجيالنا ومشاربنا، وتعدد انتماءاتنا ، صوتا واحدا لنؤبن أستاذا مجاهدا لم يكن ينحاز لغير الحق والمشروعية، صاحبه الكثيرون إلى مثواه الأخير لكنهم لم يواروا التراب إلا جسده ليرقد في راحة وأمان، أما فكره أما نضاله فسيظلان نبراسا للأجيال، ومثالا يحتذى، ومنارة ترشد إلى الطريق. بعض عزائنا - كتلامذته- أنه قال في لقاء نظمته «جمعية قدماء النهضة»: (أحمد الله أني أرى في حياتي أبنائي وبناتي الذين تربوا على يدي مبادئ الفضيلة والطهر والوفاء والتمسك بالعقيدة والوطنية ... إنى لأسعد اليوم وأنا أرى هذه الثمار تقدم لي باقة من الأزهار ، صادقة في تعبيرها، متعلقة بمقدسات وقيم هذا الوطن ) رحمك الله أبانا وأستاذنا المجاهد أبا بكر القادري، وجعل الجنة مثواك ، وألهم الصبر زوجتك وأبناءك وأحفادك ورفقاء دربك وكل محبيك . وعزاؤنا ما خلفته من علم ومعرفة وما غرسته فينا.