* يجمع دارسو القصة القصيرة، وقبلهم كتابها المهرة، أن هذا الفن القائم على قواعد التكثيف والقول اللمّاح، والبياضات الناطقة وتبئير الشخصية أو الحدث أو الفضاء في لحظة جوهرية ولقطة مفارقة،أو إشكالية؛ فن يبرز فيه الكاتب قدراته، ويصنع فنه من كيفية الربط والتحبيك والإبراز والتوجيه والتحوير لهذه العناصر، وفي قلبها تفكيك المنظور بغية إعادة توليده، وذلك بكيفية لعبية محض، وبوصف الفن لعبا، صناعة تهدف إلى إنشاء المنظور من زاوية اللعب به، إنسانا وشيئا وفضاء. هذا من ناحية عامة، لكن ماذا حين تذهب هذه النزعة إلى حدود قصوى، وتغامر بجعل اللعب نفسه الذي هو طريقة وأداة، موضوعها ورؤيتها، وفنيتها؟ * هذا ما يقع في قلب الرهان الذي رشح له القاص والروائي المغربي مجموعته القصصية «هيا نلعب»* لأحمد المديني ، وهي تبدو منشغلة بطبيعة العلاقة بين الكتابة واللعب، سواء في تشييدها المرح لمحكياتها، الحافل أغلبها بالهزلي، وبالفانتازيا، والغروتيسك، أو في ما تصدر عنه من تصورات لدور اللعب في تحرير الكتابة من ضوابط جمالية وإتيقية، لا تعد، تحد من انطلاقها الجمالي، ومن جموحها الإبداعي. وقد أظهر المؤلف هذا الانشغال بدءا بالاستهلال الذي حمل عنوانا دالا « نكهة أولى». فالكتابة، من منظور الكاتب، قوة عاتية، ودفق جارف، تجتاحه كالسيل العرم، فلا يقوى على ملاحقتها إذ تقتحمه وتتخطاه بغير «جهد اللعب الفني.. «(ص11). بالتالي، يكون اللجوء إلى اللعب، ترتيبا هشا ومؤقتا، لعلاقة عصية، بله وقصية مع الكتابة، هذا الكيان ذو النسغ الحي، الهلامي، الحامل لأسماء متعددة، ولصفات لا متناهية :» (...) هي الآمرة الناهية المارقة المتمردة الشاخصة المحتجبة الشاردة اللحمية الرخوية الغضروفية السديمية الهلامية الطيفية الشجرية العاتية الجبارة الآتية الهاربة المقتحمة، نسغ الحياة منها يولد نسغي ما يكف ينفلت وهو جسد هام بي في وبجسدها، ولا يقبض إن قبض في النهاية سوى على سؤال بدئه: ما الكتابة؟»(ص11). * تخلص الكتابة في هذه المجموعة لمبدأ اللعب، باستثمار واضح لإمكاناته وتشكلاته الجمالية، تبغي تنويع عوالمها القصصية و»تطريف» محكياتها، و»تعجيب» وقائعها. فالمجموعة، لا تبدي «جدية» في بناء محكياتها، ولا تذعن لمستلزمات «الإيهام الواقعي»، أو لاقتضاءاته الجمالية والإتيقية، كي تقنعنا بجدية حكائيتها وصوابها، وبحقيقتها الموثقة، إيهاما، بوقائع مشهودة وإثباتات صائبة. إنها توثق، بالأحرى، صلتها بالجنوح، وبالوهم، بالتمويه والإخفاء، وبالمراوحة الفالتة بين مستويات» الواقع» والخيال، وباجتراح وضعيات مفارقة، حافلة بالفنتازي، ب»البورلسك»، و الغروتيسك. * يكون اللجوء إلى اللعب في بعض قصص المجموعة ، محاولة من «موضوع اللعب» للإفلات من وضعية ضاغطة، وقاهرة، تجثم بثقلها على النفس و بكلكلها على الجسد. فتجترح الكتابة حينه، فضاء نصيا تخييليا، لعبيا، يكسر طوقا مضروبا على الذات، يكاد يشل قدرتها على الفعل. قد يتمثل هذا الطوق في حصار مصدره الطبيعة، في شكل قيظ خانق أو حرارة مفرطة، أو يكون انتظارا مجدبا لشيء طال انتظاره عبثا. ففي قصة «القيظ»، يبدو الراوي مختنقا بحر شديد، مشلول الحركة، نهبا للملل والتعب. يشرع فجأة في كسر الجمود الذي آل إليه، بالاسترسال في تداعيات لعبية، واستيهامية تصله بزمن الطفولة، حين كان يلاحق بفمه العطشان، قطرات متساقطة من سقف حمام، يلتقطها بتلذذ يماثل التلذذ الذي أصبح يلتقط به الحلمات الغضة عند كبره: « أعرف، نعرف جميعا أن الحائط أو السقف يسيلان بالرطوبة، والسقف بالذات، ما أكثر ما رأيته مغطى بتلك الحبيبات، الكويرات، تتدلى من فوق في شكل الحلمات التي عرفت حين كبرت، وبدأت أخرج عن طوري وأمصها مهووسا بالنهود كأني أتذكر ثديين حرمت منهما صغيرا (...)» (ص30). و قد أمعن الراوي في تكسير لحظة الجمود واليباب تلك، من خلال استيهام آخر، يتلاعب كاريكاتوريا بهيأة مقدمة النشرة الجوية في التلفزيون، بجسدها الذي صار ينتفخ ويتضخم، وبشفتيها « اللتين ظهرتا كفخذ على فخذ بينهما انفراج خفيف يصدر عنه صفير قريب من بحات خافتة» (ص33)، ثم بإبرازها جسدا عاريا، يتقطر ماء، فيما تتسارع حولها ألسنة غفل، تلعق قطرات الماء المتساقطة من جسدها المحموم. إنه مشهد لعبي، وشبقي، تنتفض فيه الحواس المعطوبة، وتجنح فيه الاستيهامات الفائرة إلى تخيل مشاهد غروتيسكية فاضحة، وغير قابلة للتصديق. ثمة وضعية أخرى تعرضها قصة « اسم الغائب»، تماثل السابقة، يصير فيها اللعب، أيضا، منفذا شائقا، للإفلات من حالة مجدبة، حالة الانتظار الممض لفصل الخريف؛ وهو الفصل الذي يضرب معه سارد القصة موعدا أثيرا كل سنة، ويتعقب بشغف ووله علاماته الأولى المنطبعة بخفوت في الألوان والروائح. لم يأت خريف هذه السنة، في موعده المنتظر. لذا صار الراوي قلقا، وغاضبا، يراوح مكانه، كالمعتوه، بحثا عن علامات قدومه المتأخر. قد يتخذ انتظار فصل الخريف، إذن، بعدا دراماتيكيا . غير أن القصة لا تحول هذا الانتظار إلى مناحة ذاتية، أو إلى غنائية بائسة، بل تصوغه لعبيا، وتجعله أقرب إلى الهوس والوسوسة والعته والبله. وهي كلها مظاهر لعبية، تجعل العلاقة بالخريف، علاقة مختلة، وجانحة، ومرتبكة، وتجعل السارد الذي أضناه الانتظار، ذاتا معتوهة، وتالفة، وفاقدة لصوابها، بل ولمناطات وجودها. لا تقارب القصة، من هذه الزاوية، الانتظار من منظور فكري، تأملي، ، كما رسخت ذلك مأثورات أدبية، مسرحية وروائية، بل قاربته لعبيا، من منظور العته والبله الذي يصيب الذات، ويتلف أعصابها. * يتخذ اللعب في المجموعة أبعادا أخرى، جانحة بالغروتيسك والعجيب وبالفانتازيا الصراح. مثال ذلك، قصة «الرؤية الأخيرة»، التي صهرت شخصيتها الرئيس ( الحاج امبارك) بمستحضرات العجيب والخارق ( بدت حين ولادتها مكتملة التكوين، ناطقة،..)، موصولين بوضعيات تكشف نرجسيتها الطاغية وولعها، حد الهوس، بالظهور والبروز أمام الجموع ( شبهه المفترض بالممثل المصري الشهير « يحيى الفخراني» ..) . والظاهر أن هذه الشخصية، بمواصفاتها تلك، تجسد ما يمكن وصفه ب « الشخصية الميدية» ، التي أضحى وجودها مقترنا بالنسغ الحي الذي تزرعه فيها عيون الآخرين( بما في ذلك «عين الكاميرا»)، تزهو بها وتتنفج. وقد أمعنت القصة في إظهار الوجود «البورلسكي» لهذه الشخصية الميدية، المهووسة بحب الظهور ، حين أحاطتها بوضعية فارقة، ضاجة بالمفارقات الهزلية، من خلال كشف انهجاسها بالظهور مع حاكم المدينة، وأخذ صورة مشتركة معه، سيبثها التلفزيون في نشرته المسائية. لن تتمكن الشخصية، لسوء حظها، من أخذ الصورة مع الحاكم، بسبب تعثرها وسقوطها لحظة فقط قبل التئام الجمع حول الحاكم لالتقاط الصورة معه. لذا، لن تفلح في نقل صورتها إلى آلالاف العيون التي تتابع نشرة الأخبار المسائية، مزهوة بقربها من حاكم المدينة. وبسبب ما ترتب عن عثرتها تلك، ستشرع أناها المتضخمة في الضمور، وسيتبدد وجودها الميدي فجأة كما تتبدد بسرعة الفقاعات المنتفخة بالهواء. يبدو المنحى اللعبي في القصة موصول الصلة بتقليد راسخ في السرديات الهزلية، ميسمها الهزل الطافح والقلب الساخر للوضعيات الاجتماعية الزائفة. من ثمة، تعيد قصة» الرؤية الأخيرة» الصلة بتقليد «الكوميديا الاجتماعية «، وبنزوعها إلى اجتراح مواقف مضحكة، وميلها الدائم إلى فضح الخواء والبلاهة الاجتماعية . * ثمة قصص في المجموعة، تنتظم ، بالتنويع، حول صور الكاتب ، تلتقطها أيضا في سياق وضعيات لعبية، تعكس كل واحدة منها، موقفا مخصوصا، يرتد انعكاسا على تصور بعينه للكتابة، وعلى علاقة الذات الكاتبة بها. نميز، في هذا السياق، بين ثلاث وضعيات موصولة بثلاث قصص: صورة الكاتب ( الشاعر) الذي خذلته الكتابة فجأة: قصة « جناح الشاعر»؛ صورة الكاتب الناهض بمهام النقد والفضح: قصة « لسان».؛ صورة الكاتب المشبوه : قصة « البحث عن جورج». تلتقط قصة ( جناح الشاعر) وضعية طريفة، طارئة وحرجة، ألمت بشاعر وجد نفسه، بغتة، وقد انحسر إبداعه ونضب معينه. وقد نحت القصة إلى التقاط هذه الوضعية المفاجئة من منظور وقعها على جسد الشاعر الذي صار عرضة لتحولات غريبة، فأصبح نهبا للفسولة والتفكك، فيما استحال جلده الغض، المعشوشب والمخضر، جلدا متيبسا، عقيما ومرقطا. أما أصابعه، فلم تعد تطاوعه، ولم تعد تقوى على الإمساك بالقلم للكتابة ، بل ولم يعد القلم يأتمر كما العادة بأمرها: « أمر الجندي ( القلم) بالمشي بانتظام فوق الورقة، فما رأى أي خطوة، ضغط على القلم بقوة فرآه هذه المرة يتحرك، لكن دون أن يترك أي أثر على ورق أبيض (...)» (ص73). تقوم القصة، من زاوية لعبية، بالتقاط الوضعية الحرجة لكاتب اعتاد إسلاس الكتابة لإرادته (الأقلام بالنسبة إليه جنود يأتمرون بأمره)، وقيادتها، طيعة ومذعنة، لرغبته. إنها تطوّح، في ما يبدو، بهذا الوهم الذي يتلبس الشاعر، وهم سلطته على الكتابة، في وقت غاضت قدرته على اجتراحها، وتبدد وهمه بامتلاكها الدائم. وهي، أي القصة، تنتدب لذلك، جسده الذي تتلاعب به التحولات الفانتازية المضحكة، وتستبيحه النتوءات الغريبة (ظهور طارئ لجناح في جنبه الأيمن). لقد صار الشاعر رهينة لعبية لوضعية انحسار ونضوب، تستخف بجسده الذي لم يعد ملكه، وتنزع عن ذاته المتورمة صفة الامتلاء ووهم الاكتفاء. : « تحرك في أرجاء الغرفة واخترق السقف صعدا نحو أعلى، نحو سماء مرصعة بالنجوم في ليل داجن وظل يصعد محلقا، ولم يخطر بباله أنه يمكن أن يسقط أو أنه لم يطر قط، فهو لا يملك سوى جناح واحد ... جناح بلا ريش.... مجرد تكوين.» (ص 78 ). تقارب قصة (لسان)، من جهتها، من منظور هزلي، وفنتازي، كذلك، صورة مغايرة للكاتب، صورة الكاتب، الناقد والفاضح، الذي لا يكف عن توجيه سهام نقد حاد ولاذع، لكل المظاهر التي تبدو له حافلة بالقماءة والابتذال. يحيل العنوان (اللسان) إلى الوظيفة (الكلامية- الكتابية) التي يختص بها الكاتب، والتي، من فرط اضطلاعه بها، صارت تضايق الغير، وتزعجه، بما في ذلك زوجته التي لم تعد تطيق «نقمته على العالم». لا يستطيع الكاتب، بالتالي، الكف عن « انتقاد العالم»، حتى وإن نأى بنفسه عن ذلك. لذا، نراه يشهر نقده، كل وقت وحين، ضد كل ما يثير حنقه ونفوره ويستنفر غيظه وغضبه: المرأة التي تجبر طفلها الصغير على التحدث غصبا بالفرنسية بدل العربية، الفساد داخل الإدارة، امتهان مرتادي المقاهي للنميمة الفجة والإشاعة المغرضة، البرلمانيون الذين فاضت سمنتهم، السياسيون المتكالبون على المواقع، سارقو ذاكرة الماضي والمنتفعين بماضي الانتهاكات الجسيمة، مدعو الكلام باسم الشعب...الخ. تلاعب القصة هذه الشخصية ذات اللسان الحرون، و تحفها بسياقات طريفة، يلتئم في صياغتها، أيضا، العجيب والخارق الهزليين (« تعجبت هنا كيف أكون في السماء وفي الأرض معا، أحس بوجودي هناك وهنا، ما أنا بقطب من أقطاب الصوفية لأتمتع بصفة الحلول . من عليائي وقعت...» (ص94)، لتنتهي بها، في منتهى سباق متخيل فنتازي، إلى حزّ لسانها من طرف الزوجة التي لم تعد تطيق سلاطة لسانه: « أسمعها ( زوجته) تقول بأنني هكذا أرتاح وأستطيع أن أقيم هنا بصمت وأمان، بلا صداع ولا حاجة للسان. وتضيف، وقد خفضت صوتها: وفي جميع الأحوال، هذا هو القانون الجديد للعهد الجديد. وأن تفهم، وهذا أفضل لك ولهم. وقد سبقك العشرات وربما المئات لما حدث. ولذلك أغريناك بالسباق لتلتحق بالقوم ولتحقق رغبتك وانظر هناك لتفهم...» (ص98). يفقد السارد لسانه، إذن، في سياق جديد (العهد الجديد)، بما يوحي أن المطلوب منه هو الكف عن النقد والفضح ، بابتلاع لسانه، والانضمام طوعا أو عنوة، إلى سواد عموم بلا ألسن. من ثمة، تبدو القصة تشكيلا لعبيا، لواقع طارئ، لم يعد يقبل صورة الكاتب- الناقد، أو يطيق نشاز صوته وسطوة لسانه. تتردد هذه الصورة، صورة الكاتب- الناقد، على سبيل التنويع والمغايرة، في القصة التي تحمل عنوان « البحث عن جورج». تبلور هذه القصة، بدورها، وعبر محكيات طريفة ووقائع لعبية، ملامح كاتب امتزجت صورته بصورة شخص آخر ( اسمه جورج) غامض وخطير، تتعقب أجهزة الأمن أثره. لجأت القصة إلى دهاء لعبي كي تفرز من بين أعطافها، صورة الكاتب المشبوه. فقامت بتضعيف شخصية اسمها « أحمد المديني» ( الاسم ذاته الذي يحمله مؤلف الرواية)، بشخص أجنبي تتعقبه أجهزة الأمن (جورج). وأمعنت لذلك في استنفاذ لعبة الضعف هذه ، وتقليب إمكاناتها الجمالية واحتمالاتها الفانتازية، بله والكابوسية . سيصير أحمد المديني، إذن، أسير ضعفه، مرتابا في شخصه، مشكوكا في سيرته وانتمائه، سواء داخل مقر عمله، أو في الفضاءات العامة، أو أثناء حضوره لاستقبال نظمته عائلة رباطية، أو حتى في نشرات التلفزيون. وقد قادت القصة لعبة الضعف إلى منتهاها، ليس بقصد فك اشتباكاتها ومحو التباساتها، وإنما بالأحرى، لتأكيد التشابه العارض والتماثل الطارئ بين طرفي الضعف. ذاك ما يوحي به البلاغ الأمني الذي بثه التلفزيون عقب القبض على «جورج» «الحقيقي»: « (..) وبعد التحريات الدقيقة والملاحقات المضنية التي قامت بها قوات الأمن الباسلة في مناطق شاسعة من البلاد- كنت أرى في شاشة التلفاز صورة تشبهني وليست لي وألتحق بصوت المذيع وسط بلاغه العاجل، كما كتب في الإطار-... تم إلقاء القبض على الضنين جورج، بسبب الأعمال المنسوبة إليه، والذي كان ينتحل شخصية السيد أحمد المديني، المعروف لدينا بكتابة الخرافات والتلفيقات والحكاية الملغزة، هروبا من الواقع والالتزام الوطني الذي يدعونا جميعا للتعبئة من أجل المساهمة في مشاريع الإنماء وإعلاء كلمة البلاد، والحفاظ على... والموجود حاليا خارج التراب الوطني، وستقوم الجهات المعنية بعمل اللازم معه في الوقت المناسب، وبه الإعلام.» ص 21. انتهت لعبة الضعف، إذن، وبشكل انعكاسي، بإفراز صورة الكاتب- المشبوه، المعرض بدوره للمتابعة والملاحقة، لكون كتاباته ألغازا وخرافات وتلفيقات، أي لعبا جماليا- إتيقيا، جانحا و فانتازيا، لا يكترث ب»الواقع»، ولا يخدم قضايا البلد، و لا يساهم، من زاويته، في مشاريع إنمائه. ومن هذا المنظور، إذن، يمكن اعتبار قصة « البحث عن جورج»، تمثيلا لعبيا للوضعية التي تجعل الكتابة دوما محط ارتياب وموضع اتهام من طرف الساهرين على سلامة « المعنى العام». سنعيد اللقاء بصورة الكاتب موصولة بلعبة الضعف مرة أخرى، ضمن سياق مغاير، ووفق استراتيجية لعبية مختلفة، في القصة التي تنتهي بها المجموعة القصصية، قصة « البحث عن ميلودة». و بوسعنا أن نعتبر هذه القصة «بيانا» مواربا عن علاقة الكتابة باللعب، وتمثيلا صريحا للموقف الذي اعتمدته المجموعة شرطا «ليفاعة» الكتابة القصصية، و ل»سلامتها» الإبداعية: « و الكاتب لاعب في الأصل. وإذا لم يلعب جيدا، فلن يحسن الكتابة أبدا. سيبقى في الخلف، يرد أو يتلقف كرات خائبة» ص 130. يكشف محفل الكتابة علنا عن خياراته الإبداعية، والتي تعاكس صورة المؤلف، كما حاكتها وكرستها التمثلات الجماعية، و كما صاغها ورسخها « رأي عام» أدبي محافظ: « الشخص الذي يسرد هذه القصة هو من تقرؤون اسمه مؤلفا لها، أي بوضوح هو أحمد المديني، إنما المؤلف في نظر القراء والناس جميعا شخص وقور، متزن، صارم الملامح على الأغلب، وهو في هذه الأمة التي قدر لي الانتساب إليها يفترض فيه مجانبة الخطأ وتنكب طريق الزلل، والمشي بالقالة (..)» (ص 131). و»سيطلعنا» الكاتب على طريقته في تشغيل الإبدال اللعبي ، وتفعيل بعض مكوناته في قصة « البحث عن ميلودة». فهو لن يلبث أن يحيد عن حكي ابتدأ به قصته، مماثل للواقع ، كي ينغمر، من جديد، في استيلاد وضعيات فانتازية من أخرى « واقعية»، و يشرع في تضعيف ذاته، بتخييلها، بل وتخييل صديقه الناقد ذاته (عبد الفتاح الحجمري)، بتحويله، هو كذلك، إلى شخصية خيالية، واستقطابه ليقبل، بدوره، الانخراط في لعب شامل، لعب الكتابة، ولعب النقد في الآن معا (ص127). وتبعا لذلك، سيستثمر الكاتب سؤالا- لغزا، حير صديقه الناقد الذي اعتاد مجالسته في مقهى رباطي، رفقة شلة من أصدقائهما « قولو ليا فاين كتمشي الفكرة إذا كانت في راسك، ثم قلبت عليها وما لقيتهاش؟» (ص128)، كي يفتق حكيا لعبيا ، يروي من خلاله انفصاله الفانتازي عن جماعة أصدقائه للذهاب بحثا عن الفكرة التي ضاعت من صديقه الناقد. إذ في الوقت الذي مضت أناه اللعبية تبحث عن الفكرة الضائعة، ظلت أناه الأخرى،» الواقعية»، في المقهى، لم تبرحه ) ص131). وستكون الفكرة التي ضاعت من الناقد، والتي سيعثر عليها الكاتب في ورقة مدعوكة ملقاة على قارعة الطريق، هي أسئلة أعدها الناقد حول بعض ألغاز الكتابة عند المؤلف أحمد المديني، التي أشكلت عليه، ولم يحر جوابا شافيا عنها:» بادرت أقرأ الاسم المطبوع أعلاها يمينا فغذا هو عبد الفتاح الحجمري (...) وقرأت: بمجرد ما سأصل إلى مقهى الكموفل وألتقي بأحمد المديني، سأطرح عليه السؤالين التاليين: 1- هل تعني بشخصية «خاء» في روايتك « الهباء المنثور» خدعة أم خرافة أو خواء، أم ماذا يا أخي؟ 2- لماذا تكثر في محادثتك وكتابتك الانتقال من موضوع إلى آخر، هل تقصد تضييعنا أم الاستخفاف بنا أم عاجبك راسك؟ وربما سألته سؤالا ثالثا يدور في رأسي من البارحة، وهو، ما هو؟ يا رب تفكرنا في الشهادة..» (ص134). لم تقتصر القصة، كما أشرنا، على تشخيص «كاتبها» وهو يلعب، بل استدرجت الناقد، بدوره، إلى الانخراط في لعب الكاتب، والتفاعل معه، فبدت أسئلته ماكرة وعابثة، لا من قبيل التي اعتاد طرحها نقد «جاد»، وفيٌّ لافتراضاته المنهجية الرصينة ولتطبيقاتها الصارمة. بصنيعه هذا، أضحى الناقد شأن الكاتب، لاعبا، تستدعي كتابته اللعبية نقدا لعبيا، تستحثه كي يواكب فانتازيتها، ويتفاعل مع «طيشها» البهيج: - (...) تفعل مثلي ؟ بمعنى ؟ - أن ألعب كما تحب أن تلعب، هل لديك مانع؟ - كلا، ولكن هل الناقد الجاد والرصين، صاحب الأسئلة والأسئلة يلعب؟ - على كل حال، أنا الآن ذاهب، وعندي سؤال سأسمعه أو أطرحه على أحد (..)» (ص 135). تنتهي القصة بالكاتب ( «الشخصية الهاربة») والناقد ( «الشخصية المتمردة»)، وهما يقبلان بحبور ظاهر على اللعب معا، رفقة فتاة صغيرة، ينشدان معها، بخفة الأطفال ومرحهم، أغنية للعشاق في حديقة عمومية تحمل اسم «حديقة العشاق». واعتبارا لهذه النهاية، تبدو قصة (البحث عن ميلودة)، انعكاسا لعنوان المجموعة (هيا نلعب !)، وترديدا لصداه الآمر، إذ هما يتضمنان معا دعوة صريحة للعب، كتابة ونقدا؛ دعوة تحرر، في الآن معا، الكتابة من سطوة الانضباط القسري لمقتضيات الكتابة «الجادة»، ولواجب مماثلة الواقع والإذعان لإرغامات «الدوكسا» الجماعية؛ كما تبرئ النقد كذلك، من زعم الصرامة المنهجية، وربقة المقاربات «الجادة» المتسمة بالجفاء، والمقيدة لحريته، والحادة من قدرته على التفاعل مع لعب الكتابة وشططها المرح. لقد صدرت مجموعة «هيا نلعب !» عن تصور للكتابة القصصية، يبوئ اللعب دورا أساسيا في تشكيل القصة، وتوسيع إبدالاتها، وتطعيمها بالإمكانات الجمالية الثرة التي يختزنها التخيل الحر والمرح للوضعيات والمواقف والسلوكات الغريبة والمفارقة. لكن المجموعة لم تقتصر على اعتبار اللعب شأنا داخليا صرفا، تستأثر به الكتابة وحدها ولا تتقاسمه مع غيرها. إذ اعتبرت، سواء من خلالها تشكيلاتها الحكائية أو من خلال خطاباتها الصريحة المتعلقة بذلك ، أن لعب الكتابة، لا يكتمل بغير لعب القراءة ( النقد)، وأن مرح الكاتب لا يستقيم بدون مرح القارئ . لذا حثت القراءة على ولوج المجال الرحب للعب، بغاية تحرير ذاتها، هي أيضا، من جمود المقاربات، ومن ضيق الرؤى، ومن أوهام إخضاع النصوص ( القصصية أو غيرها) إلى سلطة خطاباتها المنغلقة، المنكفئة على مزاعم الصواب و ادعاءات اليقين. * (2007- منشورات أحمد المديني)