محمد برادة أستاذاً. محمد برادة قاصّاً. محمد برادة ناقداً. محمد برادة مترجماً. محمد برادة مناضلاً نقابياً و حزبيّاً. محمد برادة رئيساً لاتحاد كتاب المغرب. محمد برادة روائيّاً. محمد برادة مُتخفياً وراء حمّاد. محمد برادة متنكراً في هيئة فيصل السبتي. محمد برادة إنساناً. أخيراً لا آخراً: محمد برادة السي محمد tout court.فأيّ سرّ فيك يا السي محمد هذا الذي يجعلك، في الآن ذاته، متعدد الصفات و الأحوال ؟ هي إذن صور متعددة ما يتردد الآن في خاطري عن محمد برادة. أو هي بالأحرى صورة واحدة ذات أبعاد و ظلال متعددة تقول الشخص نفسه الذي عرفتُه أول مرة في 1967 و عمري أنا لم يبلغ بعد تسع عشرة سنة، بينما عمره هو يقارب آنذاك تسعة و عشرين عاماً، و الذي سيظل مَنْ كانه و عمره الآن، أمدّ الله فيه، يناهز أربعة و سبعين عاماً. سأقول إنّ لكلٍّ بَرّادَهُ ! فهناك، من جانب أول، برادة الذي لم يعد منذ زمان مِلْكَ ذاته الشخصية إِذْ صار مِلْكاً عموميّاًُ يَدّعيه لنفسه الحقل الثقافي و الأدبي المغربيُّ المعاصر، و الذي لا يُنكر فضلَه بل أفضالَه سوى بعضِ المارقين الجاحدين الذين، بعد أن تكوّنوا و تخلّقوا تحت جناحيه الودودين العطوفين، تطاوسوا و تشامخوا عليه فجأةً، قتلاً غادراً للأب الرمزي الثاوي في وجدانهم. هو فعلاً مِلْكٌ مشاع يتباهى به حقلنا الثقافي بكل جدارة، فهو الأستاذ الجامعي الذي يعترف اليوم معظم الفاعلين في الأدب المغربي المعاصر، إبداعاً و نقداً، أولائك الذين تخرجوا من كلية آداب فاس أو كلية آداب الرباط ، يعترفون بأنهم سليلون طبيعيون لتنشئته و تكوينه. و هو بدون منازع الدينامو المِحراك الذي دأب منذ ستينات القرن الفارط على تنشيط محافل المؤسسة الثقافية و تحفيزها إلى تغيير بنياتها و أساليب تدبيرها لشؤون الأدب و الفكر، خاصة من خلال رئاسته الطويلة لاتحاد كتاب المغرب الذي عرف في عهده دينامية قوية يزهو بها من بين اتحادات الكتاب و الأدباء العرب. و هو الذي مدّ جسور التواصل مع الأنتلجنسيا المشرقية، حيث يرجع له الفضل أولاً ثم لتلامذته من بعده في لفت انتباه الكُتّاب و الناشرين المصريين و اللبنانيين و السوريين و سواهم إلى ما ينتجه المغربُ الثقافي في حقول الإبداع السردي و النقد الأدبي و العلوم الإنسانية. و هو الذي يعترف له تاريخ الأفكار في بلدنا، و كذا في المشرق العربي، بأنه عَرَّفَ القرّاءَ المعرّبين، الذين تعوزهم اللغاتُ الأوربية، على مناهج مقاربة الأدب و أنساق تأويله المعاصرة، و ذلك من خلال أبحاثه النظرية و دراساته التحليلية و ترجماته. و هو الذي قدم و لايزال المثال النموذجي للمثقف الذي لا ينفك يكيف رؤيته للأشياء مع التطورات المتسارعة التي يعرفها العالم المعاصر، و ذلك من خلال انفتاحه الطوعي على «الآخر» الثقافي و الفكري الذي لا مندوحة للنخبة و لذوي القرار المغاربة و العرب من التفاعل معه تجنباً للعزلة و التقوقع. باستطاعتي أن أستدل على أنّ تصوره للإبداع الأدبي حصراً قد خضع لتحول جذري. ذلك أن الفرق بين نصوصه السردية الأولى في الستينات و نصوصِه السردية الأخيرة مثلاً هو على قدّ الفرق بين حيطان الرباط حيث وُلِدَ، و دروبِ فاس حيث قضى طفولته،و حارات القاهرة حيث شرع وعيه الأدبي و السياسي يتشكل، و حانات و متاحف باريس السبعينية حيث شحذ موهبته و أرهف حساسيته، و خًلْوَاتِ بروكسيل حيث حط الرحال أخيراً ليزاول هبوطاً حفريّاً إلى قاع قيعان ذاته. فبين نصوص صوّر فيها نثرية العالم و هموم «الجيل الموتور»، و نصوصٍ يُرخي فيها العنان لأهوائه التجريبية و نزواته اللهوانية، مروراً بنصوص استبطن فيها الذات الجمعية المكبلة بطابوهات الدوكسا السياسية و الأخلاقية ، يكون تَصَوّرٌ برادة للكتابة قد تعرّض فعلاً لرجّات عميقة. هذا بعضٌ مِن برّادة الآخرين. أمّا عن بَرّادِيَ أنا، برّاديَ الحميمِ الذي يسكن وجداني، فسأكون عاقّاً إنْ أنا أنكرتُ أفضاله و كفرتُ بأنعمه عليّ. قلتُ قبل حين إن أول لقاء لي به كان في 1967. و الواقع أنّ هذا العام بالذات كان ذا آثار مهمة و حاسمة في حياتي الشخصية. كنت قد اختصرت الطريق إلى شهادة الباكلوريا في الآداب الحديثة التي اجتزتُ امتحاناتها، كمترشح حرّ، بتفوق و أنا بعد تلميذ في ما كان يسمّى وقتئذ بالسنة الرابعة، مُوفراً على نفسي عامين كاملين. و في كلية الآداب بفاس، التي تسجلت بها، كان أستاذ مادة «فنون الأدب»، في ما كان يسمى آنذاك بالسنة التحضيرية، هو محمد برادة. كان، كما قلت سابقاً، دون سنّ الثلاثين، نحيفاً، شعر رأسه قصيراً أحرش، ذا شارب غاوٍ فتّان ليس من غير أن يُذَكِّرَ بشاربي كمال الشناوي و الممثل الأمريكي كلارك كيبل، علماً بأنّ كل واحد من الثلاثة كان زير نسوان. في العام 1967 ذاك، أشرف أستاذي محمد برادة على بحث نهاية السنة الذي أنجزته حول ديوان شارل بودلير Les Fleurs du mal.، والذي كانت ملاحظته عليه كالآتي: « بحث قيم ينم عن مجهود وإدراك ...يخيل إلي أنك كنت محايدا أكثر من اللازم، إذ اكتفيت بتحليل الموضوعات الجوهرية في الديوان، ولم تتجاوز ذلك إلى مناقشة بودلير على نحو ما فعل جون بول سارتر حيث اعتبره مسؤولا عن تلك الحياة التي اختارها مستسلما، وموثرا الهروب في الأحلام، والسفر وراء الكلمات، وتقبل الاضطهاد الخارجي... وكذلك فعلت عندما تحدثت عن مذهبه الفني. إنك لم تفصح عن تأييدك لرؤيته الشعرية والفنية وهذا من حقك ولم تناقشه على ضوء المفاهيم المستجدة. الدرجة: جيد جدا». وفيه أيضاً سيرعى ترجماتي الأولى التي سيُنشر بعضُها، بفضل وساطته لدى العزيز عبد الجبار السحيمي، شفاه الله، في الملحق الثقافي لجريدة «العلم»، إلى جانب مقالات و نصوص علال الفاسي و عبد الكريم غلاب و عبد المجيد بن جلون و محمد عزيز الحبابي و سواهِم، و التي سيُنشر بعضُها الآخر في مجلة «الرائد»، التي كان يصدرها سيناصر محمد الحبيب، إلى جانب دراسات عبد الله إبراهيم و محمد الحبابي و باهي محمد و غيرِهم. و هو الذي سينشر لاحقا في» آفاق»، مجلة اتحاد كتاب المغرب، أول دراسة نقدية لي بعنوان «ظاهرة الاستلاب في الأدب المغربي»، و ذلك على رغم أنف عبد الكريم غلاب، رئيس الاتحاد آنذاك، الذي اعترض على نشرها بدعوى تمجيدها لأدباء Souffles الكاتبين بالفرنسية على حساب الأدباء بالعربية. و في ذلك العام أيضاً، سأصبح بفضله عضواً في اتحاد كتاب المغرب، ربما لأنه توسّم فيّ خيراً، فأرجو ألاّ أكون، عزيزي حماد، قد خيبت ظنك. وفيه أيضا سيطلب مني أن أترجم إلى الفرنسية مسرحيته الوحيدة «المتهمون»، التي كانت ستصدر في مجلة اليونسكو نفس العام، سيدربني في إحدى مقاهي فاس على لعبة Ping-Pong الأسيوية التي كان يتقنها، و حين علّمني إياها حَارَ فِيَّ ! و في نهاية السنة الجامعية للعام 1967 دائماً ، و بعد أن أخبرته بأنني سأقضي عطلة الصيف في طنجة، وعدني باللقاء فيها، حيث أصبحتُ بكفالته المباركة و عنايته الميمونة عضواً نشيطاً في مؤسسة Romero الشريفة التي أطلعني فيها بكل عفوية و سخاء على أسرار و طقوس الطريقة الباخوسية و التي أعلنتُ ضدّها مؤخراً العصيان ! لكن من غير أن تتأثر بهذا الموقف الشخصي علاقاتي بأصدقائي، ومن بينهم السي محمد، و من غير أن تتغير كذلك رؤيتي للعالم و تصوّري للأشياء، و من ضمنها الأدب و النقد. أدعوكم إذن إلى أن تخمنوا معي مقدار الزهو و الخيلاء اللذين كنت أشعر بهما في 1967، بينما هو عام انتكاسة للأمة العربية وللقضية الفلسطينية! و هو كذلك العام الذي لا أنسى أننا، هو و أنا، دشّنّا فيه سلسلة طويلة من المراسلات التي ستمتد إلى غاية 1983، و التي ضمّنّاها ما هبّ و دبّ من هواجس و تساؤلات و آراء و تأملات حول موضوعات مختلفة، أنا من فاس و كذلك، في ما أذكر، من مدن إسبانية و فرنسية و سويسرية خلال العطل الصيفية، و هو من الرباط و الدارالبيضاء و مراكش و أغادير و طنجة و القاهرة، و خاصة من باريس خلال إقامته الأولى فيها بين 1970 و 1973. كانت أولى رسائله مؤرخة بيوم 26 ماي 1967، و قد ختمها بقوله : «أما أنا، فإنني أتخبط في حشد من المشاكل الصحية و المادية و الأدبية، و لا أدري كيف سأتغلب عليها. ادعُ لي ، إذا كنت ملحداً، لأن دعوات المؤمنين، على ما يظهر، لم تعد تجدي. متمنياتي لك بالتوفيق. و إلى اللقاء في قاعة الامتحانات». و كانت آخر رسائله مؤرخة بيوم 6 يناير 1983، و قد أنهاها بقوله : «أدعو الله لي و لك بالقدرة على الضحك و الإضحاك، و خير الضحك ما كان موضوعه الذات (ذاتَ المرء و أحوالَه). كما أدعو لشعبنا، رغم البؤس و كثرة السؤال، بالمواظبة على التفكه و الفكاهة (...) و عدمِ تشييئ العلائق و الخطاب. مع متمنياتي لك ولصباح ونوال والصغيرة الأخرى. إن ما أغراني بسرد هذه الأشياء، ذات الصلة المباشرة بي، لم يكن إطلاقاً هو دغدغة جانب نرجيسيّ خفيّ في شخصي المتواضع، و إنما هو الكشف عن بعض خصال و شمائل محمد برادة الإنسان كما خبَرتها شخصيّاً، منذ عرفته و إلى غاية الآن. فهو مثلاً متهالك على مباهج الدنيا، اعتقاداً راسخاً منه بأنّ الحياة غدّارة، و بأنّ ما أخذته منه، لاسيما فلذة كبده، أكثرُ ممّا تعطيه. لذلك، فهو مجبول على تمكين النفس المكلومة من استنباط كل مايسعفها على التحمل ، وخاصة منه قوة الإرادة وعدمَ الذل والخنوع. بل إنه كثيراً ما يقابل «تباريح الوقائع والجنون»** بالمداراة والمعايشة حيناً، و بعزة النفس و الإباء حيناً آخر، و بالطنز و الدعابة حيناً أخيراً. كما أنه ذو أريحية قوية تجعله يرتاح إلى كل ما هو نبيل، و إلى بذل العطاء للأصدقاء بتلقائية نادرة. و لهذا السبب، فهو كثيراً ما يواجه خيانة البعض له وغدرَهم به بالعفو و السماحة. لكنه بالمقابل مجادل مشاكس ذو مهارة عالية في المماحكة الفكرية و الخصومة السياسية البناءتين تجعله يأخذ الحق في الاختلاف بعين الاعتبار من غير تفريط في مبادئه أو تضحية بقيمه. و هو إلى جميع هذا لطيف المعشر ذو جاهزية غريزية للانفتاح على الآخرين من غير تحرج أو كلفة، لا يكون على تمام راحته إلا مع الخُلان في مجالس الأنس والألفة والسلوان، هناك حيث تتعطل الفرامل، فيجمح الخيالُ وينطلق اللسان وينشرح الصدر... فتحية لك عزيزي السي محمد، مع متمنياتي بمديد العمر مع الصحة و راحة البال حتى تبقى ابتسامتك العذبة مشعّة في الليل المغربي و العربي البهيم. * نص الكلمة / الشهادة التي أدليتُ بها في الشريط الوثائقي الذي أنجزته مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب حول محمد برّادة، بمناسبة منحها إياه جائزة فاس للإبداع، على هامش الدورة الرابعة لمهرجان فاس المتوسطي للكتاب المنعقد بين 21 و26 أبريل 2012. ** عنوان رواية جميلة لإدوار الخراط