«الآن وقت العظام. وقت البياض في الجسد. وقت المنسحب على مهل من اللحم. الذي يُرمى وينزوي، شاهدا وحده أنه كان، أنه لم يكن. وقتُ غبار العدم. وقت العدم بلا غبار. المُنسحبُ بخفة من يد الوقت، من طيف المكان، من ظل الملاك...». (وديع سعادة، من قصيدة «نص الغياب») «إنه شيء في داخلي أحاول أن أفهمه، ولكني لا أفهمه»، هكذا قال المفكر الفرنسي الراحل جاك ديريدا، وهو يتحدث (قبل رحيله) عن الموت الذي سيصادفه أو سيأخذه ذات لحظة. عبرت هذه الجملة السيمولاكرية ذهني وأنا أجاهد النفس والجسد للكتابة عن صديقنا الراحل الباحث في العلوم السياسية والناقد السينمائي محمد سكري. عند غياب وفقدان الصديق ينتهي شيء ما في هذا العالم. ينتهي شيء ما ويبدأ شيء ما. تماما كما في قاعة السينما حين تنطفئ الأضواء وتسلط أشعة الكاميرا على الشاشة البيضاء. تبدأ حكايتان: حكاية الفيلم التي كانت في ذهن المخرج وصارت الآن أطيافا في الشاشة، وحكاية الفيلم التي تنسج في ذهن المتفرج بسبب المسافة بين العين والشاشة. حكايتان تستدعيان الحضور والغياب معا. حكايتان تتضامان في محل انفعال الحالم... ومحمد سكري كان حالما كبيرا بالأفلام. كان حالما في الحضور وسيظل حالما في الغياب. والحالم في هذا الوضع يكون كمن يخفي جزءا مما يعلم. إنه تماما كما في بيت أبي العلاء المعري حين قال: «ولدي سر ليس يمكن ذكره/ يخفى على البُصراء وهو نهار». وهنا بالضبط تذكرت جملة أخرى لجاك ديريدا وردت في نص كتبه عن الكاتب الفرنسي موريس بلانشو بعد موته، أوردها مع تحريف في الاسم: «كيف يمكن ألا نرتعش في لحظة النطق، هنا بالذات، وفي هذه اللحظة، بهذا الاسم: محمد سكري؟». كيف يمكن لنظرة واحدة أن تلتقط جسدا آخر يغادرنا؟ كيف يمكن القبض على ذاكرته البصرية؟ ولكن هل بالفعل ترك محمد سكري أصدقاءه وقاعات السينما هنا وهناك وراح؟ لا أستطيع أن أجزم في هذا الرواح، ولكني أدرك أن حالمنا الكبير بالأفلام دخل أخيرا إلى كهف الصورة الأولى في تاريخ البشر وعلاقته بالكون تاركا وراءه النسخ والأطياف. لم تكن عيناه تشبعان في النهار كما في الليل، في المسرح كما في السينما، في الرقص كما في الموسيقى، في الشعر كما في الرواية، في التأمل كما في التحليل... «في الليل عيناه إلى النجوم في النهار عيناه إلى الشمس أبدا عيناه لا تشبعان»، على حد غسق الشاعر فؤاد رفقة. وكان (وسيظل) متعويا (نسبة إلى المتعة) في كل علاقاته القريبة والبعيدة، الدافئة والحارة، وفي القراءة كما في الكتابة... كان (وسيظل) شديد الالتصاق بحبه الأول والأخير: المسرح وجارته السينما. أينما حل وارتحل عيناه تتشوقان للمزيد من الصور، وشفتاه لا تنبسان إلا بما يسري فيه من ارتعاش أثناء البصر والنظر. هل هي مأدبة الصور؟ يجيبك مندهشا منتشيا بشعر أدونيس: «إنها المأدبة! تحت سماء تنسكب رحيقا في كؤوس كمثل رؤوس الموتى. وما أعمق الوحدة بين الدم والسماء.». وما هي القاعة السينمائية الأولى التي انعكست على شاشتها الصور يا صديقي يا محمد سكري؟ يندهش للسؤال، وتعلو شفتاه تلك الابتسامة التي تضفي على محياه مرح الحياة، ويجيب قائلا: «هي كهف أفلاطون في الجمهورية». ولم أكد أستوعب عمق الجواب حتى أضاف لي عمقا آخر: «وفي الكهف «لا قوة لي، غيرَ هذا الضوء الذي يهبط علي من مجراته»...». الضوء يُرعشه ولا يخيفه.. والموت كذلك، كالحياة، تُرعشه ولا تخيفه.. خبرها كثيرا في المسرح والسينما، وكان لا يحب ويهوى منها إلا تلك التي تتزيا بالشعر... وهو بهذا المعنى يعود إلى اليقظة الأولى للصورة حين كانت في أبهى طراوتها الشعرية... يعود إليها في بحثه الدائم عنها في أفلام مخرجيه المفضلين (فيدريكو فيلليني، إنغمار برغمان، أندراي تاركوفسكي، أكيرا كيروسوا، و...)... وعاد إليها في كتابته لسيناريو فيلم «موشومة» مع صديقه المخرج السينمائي لحسن زينون. وعليَّ أن أقول الآن، وقبل أن تخفُت حدة الضوء، إن المفكر عبد الكبير الخطيبي كان معهما اسما مغربيا جريحا. وَجْدُ الكلام يغشى وَجْدَ المكان. وفي طريقهما إلى ال «موشومة» أعادا، بطريقتهما، كتابة ذاكرة الوشم وذاكرة الجسد وذاكرة الرغبة. هل قدر المبدعين هو كتابة العدم والغياب؟ أن يبنوا وجودا مكسوا بالغياب والعدم؟ ولكن ليس في الوراء، بل في الأمام. ورأيتك يا محمد عينا تشع بالامتلاء والفراغ، بالوجود والعدم... ترغب في الحضور والغياب، حائرا بين رعب الجمال ودهشة القبح... هكذا، هكذا رأيتك وكأنك تتحدث بلسان شاعرنا الجميل وديع سعادة: «وماذا أقول للارتباك إن تحدثتُ إليه؟ وكيف أُربكُ الارتباك وهو مُربكي. وإنْ بالوهم، اخترقتُ الفراغَ وأربكتُه، فهل يمكن حقا أن أساويه بالامتلاء؟ لقد اقتربت الأرض. اقتربت الأرض مني كثيرا. الأرض اقتربت من الفراغ...».