في خاطري تتدفق كل اللحظات امرأة نادرة رحلت استوت في رحاب خالقها كما اشتهت دائما أن تكون بسمتها اللامعة صوتها المنساب الخافت ورضاها المتواصل عنا، أشياء كالرذاذ تأتيني من بعيد، تحملني نسائمها إلى تلك الليالي، المتوارية في زمن الرجات واللوعة، ونحن نعود من تسكعنا في دروب شغبنا، نتأبط هم انخراطها الفتي في تأثيث الفضاء الجمعوي والثقافي في عمق شساعة المدينة، كانت تترصد خطونا، تترقب، تحيطنا بحدب حنانها تعشق صخب تجاذب أفكارنا، شباب رائق يجدل الكلام بصيغ تشد للأعالي، كانت جدلي بما كنا فيه، ترعانا كمالو كنا فراشات انفلتت من طوق حرير تتلهف خيوط السنا، يفاجئنا طيف حطوها ونحن نتسلل في حذر شديد إلى غرفة عزيزها محمد، بكرها الذي حد من وجع انتظار الخلفة، تركته يتسلطن كما يشاء في نصف البيت، يعزمنا دون سابق إنذار، يأوي كل من تخلف عن موعد العودة إلى بيت أهله أو تقطعت به السبل في أدخال مدينة موحشة كالدار البيضاء، كان يكفيه أن يرغب فتحضر كل ما فكر فيه، هكذا تدلل، أرسل شعره كما راق له وتزين بأحسن ما يغوي الشباب أن يتجمل به، انقطع عن الدراسة حين اكتفى بالبيان بصياغة الاسئلة وأصبح يبحث عن الجدوى وعمق المآل في زمن الحرائق وصخب السجال، استعان بطرز الكلام علىِ لوح غير محفوظ، انجر لعفن الهامش واستطاب الحديث عن شجن الفقراء، عشق الاصفار والانحدار الموغل في المنعرجات، استطاب الرشق بالكلمات وسدد غضبه في اتجاه كل الراجمات واتقن لعبة التخفي في ميازب زلات اللسان. اليوم لا يكف عن النحيب أتعبه أوار الوداع، في كل الزوايا يتراقص طيف يحيله على لوعة، هكذا استيقظ على فراغ، يتحسس المواقع ليتأكد من منهما رحل حياته الاخرى هوت في غفلة من صخب مجونه، من سيترصد عودته المثقلة بروائح المواخر، من يحمي نصيبه من فتات الموائد يرتب أشياءه الصغيرة التي تلازم صولته، ولاعة سيجارته، أوراقه المحلقة في فضاء وحدته وانشطار خواطره، تضاعف خوفه من لحظة ثاوية في زمن زاحف، فيتكوم محتميا بجوانحه يعاند واقعا يترصده كلما تزحزح عن كأسه المترعة، استطاب النحيب أو احتمى بزفراته من قسوة تمنعه من احتضان جلال حدبها، وهي تراوده على الانصياع لا يسعه الاقرار بأنها رحلت فالمسافة زمن بلا قعر ولا قرار. عزاؤك صديقي أنك منتصب في مرج مودة يحفك عطر رفقة ونسيم خلان، لن تجف كأسك ما دمت على هواك، يراعك ممتشق وأنفك نافر على عهد جلال وعزة أمي غزالة.