حين يستفيق شعب الطوارق، ذات حساب سياسي واقتصادي متشابك دوليا، ضمن صراع المصالح الإستراتيجية بين القوى الوازنة دوليا،ويخرج من صفحات التاريخ، إلى الواقع اليومي للجغرافية، سيهتز المغرب الكبير، ويُصاب بما يشبه الزلزال المدمر.. لأن عصب اقتصاديات عدة، وثروات حاسمة، ستصبح في خطر حقيقي ملموس.. بل إن استراتيجيات كاملة ستتبدل، في ما يشبه الانقلاب.. والانقلاب العسكري قد وقع فعلا في ما لي، بسبب حرب الشمال مع تنظيمات الطوارق الماليين.. لقد عادت، قضية الطوارق لتتفجر هذه الأيام في الجنوب المغاربي، من خلال الحرب الطاحنة التي تدور في إقليم بشمال دولة مالي، اسمه ?أزَوَادْ? أو ?أَزَوَاغْ?.. ولعل خطورة الإقليم ذاك، أنه الشساعة الجغرافية الحرة لتحرك تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي، وأنَّه أشبه بقندهار جديدة في كل الشمال الإفريقي، حيث تقام هناك معسكرات التدريب الجديدة لهذا التنظيم المتطرف، مثلما أن كل من يختطف من الأجانب في كل الشساعة الممتدة للصحراء المغاربية وصولا حتى تخوم السودان، يتم نقلهم إلى هذا الإقليم الشمالي لمالي ويحتجزون هناك، ويتم التفاوض من أجل الحصول على فدية لإطلاق سراحهم. بل إن المختطفين الأروبيين الذين اختطفوا في تندوف من داخل مخيمات البوليزاريو وبتواطؤ من عناصر هذه الجماعة، قد نقلوا إلى هانك أيضا.. ومنذ يناير الأخير، عاد اسم إقليم أزواغ للبروز في وسائل الإعلام الدولية، بسبب المواجهات المسلحة، التي تحدث هناك، بين قوات الجيش والدرك الماليين، وخليط من المسلحين فيهم عناصر القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذين بايعوا بن لادن والظواهري منذ 5 سنوات، وفيهم أتباع حركة محلية تُعرف ب «?حركة أنصار الدين»?، وزعيمها خريج المدرسة الوهابية السعودية، وهي أشبه بطالبان الساحل الإفريقي.. ثم طرف ثالث محلي، أقْدَمُ في المواجهة، اسمه ?الجبهة الوطنية لتحرير أَزَوَاغْ?، وهي جبهة يسارية قومية، ظلت تحارب النظام المالي منذ إنشاء الدولة ومنحها استقلالها عن فرنسا في بداية الستينات من القرن الماضي. حيث ظلت هذه الحركة تطالب بتحقيق التنمية بإقليمها الشمالي كجزء من بلاد الطوارق، المقصيين من كل برامج التنمية المحلية، بل والذين يعانون من إقصاء عنصري من أبناء قبائل الجنوب المالي، المنتمية إثنيا لقبائل منطقة الساحل. وكان أحد زعماء هذه الحركة قد اعتقل في المغرب في سنة 1962 وسلم للزعيم التاريخي لمالي موديبو كيتا. لكن الجديد الذي حدث في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات هو أن قوات هذا الفصيل اليساري للطوارق الماليين قد أصبحت تابعة للقذافي ونظامه.. إن المواجهات المسلحة التي وقعت خلال الاسابيع الأخيرة بالشمال المالي، بإقليم أزواغ، بدميوتها المقززة، خاصة الإعدامات بالجملة وعمليات الذبح والنحر الهمجية، التي اكتشفت جتث ضحاياها بالعشرات، حيث كان القتل بالرصاص إعداما يطال عناصر الجيش فيما الذبح يطال المدنيين، مما دفع بالآلاف من الطوارق الماليين للهرب صوب الجزائر وموريتانيا والنيجر، في حركة نزوح غير مسبوقة منذ الستينات من القرن 20. وبدأت تتشكل هناك، مخيمات كبرى أشبه بمخيمات دارفور السودانية.. وبسبب ضخامة أعداد النازحين،فإن الأمر قد جَعَلَ دولة، مثل الجزائر، التي تدرك حجم خطر الطوارق عليها، كونها تضم ما يقارب النصف من ما يمكن تسميته ب «شعب الطوارق» في جنوبها الشرقي باتجاه الحدود الليبية، وهي كثافة بشرية تعيش من منطقة الهكار حتى تمنراست وصولا حتى الحدود التونسية الجنوبية للجزائر. نقول إن الجزائر التي تدرك حجم الخطر الذي يشكله ملف الطوارق عليها، قد أعلنت حالة طوارىء كبرى في حدودها الجنوبية مع دولة مالي، وأنها بدأت تفكر جدياً في إغلاق تلك الحدود، لتنضاف بذلك الى حدودها المغلقة مع المغرب منذ 1994.. ورغم الاختلاف الكبير في السياقات، بين الملف المغربي الجزائري والملف الجزائري المالي، فإن النتيجة واحدة، وهي غَلقُ الحدود.. ليُطرح، جديا، السؤال: هل الحل الرسمي الجزائري، الجاهزُ دوماً، هو الانغلاق وإغلاق الحدود؟.. لقد بادرت الحكومة الجزائرية، على كل حال، كما كان منتظرا، كونها معنية عاليا بملف الطوارق، إلى العودة لإطلاق مبادرة للحوار والصلح بين الحكومة المالية، قبل الإطاحة بها في انقلاب عسكري منذ أربعة أيام، وممثلي الطوارق الماليين، بذات الخلفية التي تمت في مواجهات 1995-1991. وهي المواجهات التي كان للقذافي، حينها، ومخابراتُهُ بقيادة عبد الله السنوسي، المعتقل أخيراً بمطار نواكشوط قادماً من الدارالبيضاء، دورٌ بارزٌ فيها.. لأن مخطط القذافي، الإستراتيجي، كان هو السيطرة على كل بلاد الطوارق الشاسعة، الممتدة جنوباً من واغَادُوغُو ببوركينافاصو، حتى مدينة غدامس الليبية عند نقطة تلاقي الحدود الليبية التونسية الجزائرية، مروراً بتومبوكتو بمالي، وتمنراست والهكار بالجزائر وأغاديز بالنيجر.. وهي منطقة شاسعة جدا لها عمق استراتيجي حاسم في كل الشمال الإفريقي. بل، إن زعيم الجبهة الوطنية لتحرير أزَوَاغْ اليوم، محمد آغْ نَاجْمْ، هو ضابط سابق في الجيش الليبي، بسبب أن القذافي، كان قد استقدم من الثمانينات آلاف الطوارق، وأدمجهم في جيشه، لحمايته من أي خطر محتمل من باقي قبائل ليبيا، ومن أي خطر انقلاب عسكري ضده وضد عائلته وقبيلته القدادفة، من رفاق قيادة الثورة الذين أنجزوا معه الإنقلاب العسكري الشهير لسنة 1969 ضد الملك إدريس السنوسي. وكانوا بالتالي، نوعاً من حَرَسِهِ الخاص في الدولة، وعدد منهم بلغ مراتب عليا في المسؤولية الأمنية والعسكرية في نظام الزعيم الليبي المطاح به والمغتال بشكل مذل ومقزز. والطوارق أولئك هم من حارب معه بضراوة ضد ثوار 17 فبراير، وهم من استقدموا كل المرتزقة من إفريقيا ومن جبهة البوليزاريو الذين حاربوا معه ضد الثوار. مثلما أنهم هم من هرَّبُوا ابنه الساعدي وابنته عائشة وابنه محمد وزوجته صفية وباقي أفراد عائلته، وهربوا أيضا عبد الله السنوسي، رئيس مخابراته السابق ويده الدموية الضاربة ضد كل صوت معارض، قبل أن يعودوا محملين بأسلحة مختلفة إلى مواطنهم الأصلية، في ذلك المثلث الممتد بين تمنراست الجزائرية وتمبوكتو المالية وأغاديزْ بالنيجر.. وجزء كبير من ذلك السلاح يُباع، هناك، اليوم، لمن يدفع أكثر، سواء من مافيات المخدرات أو الهجرة السرية أو من تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي. الحقيقة، أنه لا يمكن فهم عمق المشكلة المتفجرة هناك، والتي تهدد جدياً الوحدة الترابية للجزائر ومالي والنيجر، دون فهم قصة الطوارق.. أي الرجال الزرق الملثمين، ذوي الأصول الأمازيغية الضاربة في القدم.. بل إن أسماء المناطق كلها حيث ينتشرون، هي أسماء أمازيغية، وضمنها اسم إقليم أزَوَاغْ الذي هي أقرب لكلمة ?أَزْكَّاغْ? عند أمازيغ الشمال بالمغرب والجزائر، والتي تعني الأحمر، كناية ربما عن الحُمْرة المميزة لأراضي ذلك الإقليم المالي الشاسع ولجاره إقليم الهكار في الجهة الجزائرية.. إن الطوارق، هؤلاء، أصحابُ ثقافةٍ اجتماعيةٍ خاصة، ومعنى اسمهم ?الطوارق? هو الرجال الأحرار، تماماً مثل معنى كلمة ?الأمازيغ?، وهم لا يزالون على هوى الحضارات الأموسِيَّة القديمة بإفريقيا، حيث المرأة هي صاحبة القرار واللقب والنسب، وهي تحكم فعليا. بل إن المثير ثقافيا، أن الرجال عندهم، هُم المحجبون وليس النساء. وأن أولئك الرجال، ممنوع وعيب أن يخرجوا على الحياة بدون لثام. بل والعيب الأكبر، أن يظهر فمهم للعموم، بل إنهم يأكلون حتى من تحت اللثام ولا يزيلونه قط،، تماماً مثلما تفعل منقبات السلفيين في بلاد الحجاز وفي أفغانستان وفي كل الشمال الإفريقي. والمرأة بالمقابِلِ، عند الطوارق، سافرةُ الوجْهِ والرَّأسِ.. ومنذ اعتنقواالديانة الاسلامية، بعد أن حملها إليهم أساساً فقهاء المغرب، من فاس ومراكش والسمارة، عبر الطريق القديمة للتجارة مع بلاد السودان، لنقل الذهب من هناك صوب أوربا، واستيراد السكر والأثواب والسلاح من تارودانت والصويرة وأكادير، فقد كانوا ولايزالون على المذهب المالكي السني المغربي، ودور الزوايا الدينية المغربية، هناك نافذ ومؤثر، خاصة الزاوية القادرية وتابعتها الزاويةالتيجانية، وازداد اليوم نفوذ متوالي للزاوية البوتشيشية في تلك الشساعات الجغرافية. ومن هنا يكتسبُ ذلك الخطاب الذي تَدْفَعُ به حركة المتمردين الطوارق، تُهمة تعاونهم مع تنظيم القاعدة في المغرب الاسلامي، الكثير من الحجية.. ليس فقط بسبب المذهب الديني المالكي السني للطوارق، ولكن بسبب الاختلاف الثقافي أساساً، خاصة في موضوع مكانة ودور المرأة.. لأن تنظيم القاعدة المتشدد لا يقبل بالمطلق أي دور قيادي للنساء وله معنى خاص للحريم، ولا يقبل قط أن تكون النساء حرات سافرات وصاحبات قرار وموقف ضمن العائلة والمجتمع. بل أكثر من ذلك، إن أولئك الطوارق، في أجزاء كبيرة منهم، هم مع مجيء الخبراء الغربيين لإنجاز مشاريع تنموية في بلادهم الشاسعة والغنية بالثروات، وليس من مصلحتهم أن يُخْتَطَفَ أولئك الخبراء، ويصبحوا موضوع فدية، كما تفعل القاعدة.. بالتالي فالمصالح متضاربة بين الطرفين. والأكثر إثارة من الناحية السياسية والإستراتيجية، هو أن بعض قيادات الطوارق الشباب اليوم يخاطبون مباشرة باريس ولندن وواشنطن، أي القوى الوازنة ضمن الحلف الأطلسي، من أجل دعهم بالسلاح المتقدم لمواجهة القاعدة، بل كما يصرحون علنا أنهم مستعدون لتنظيف كل الشمال الإفريقي من هذا التنظيم التابع للظواهري بعد أن كان مبايعا للراحل بن لادن. مما يعني أن نتيجة ذلك، هي تحولهم إلى قوة وازنة في المنطقة، لن تقف عند حدود تنقية تلك الشساعات الجغرافية من الجماعات المسلحة، بل إنهم سينتقلون إلى المطالب السياسية لهم كجماعة مستقلة لها ملامح «شعب» قائم الذات. إن المخاطر الأكبر لربما، هنا هي أن خروج بعبع الطوارق من قمقه مجدداً في الجنوب الجزائري والليبي، وفي الشمال المالي وللنيجر، إنما يعيد إلى الواجهة غنى المنطقة بثروات وازنة، تُسيلُ لعاب القوى الدولية العظمى، من باريس حتى واشنطن.. فالأرض تلك مخزن هائل ليس فقط للبترول والغاز في الجهتين الجزائرية والليبية، بل إنها خزان مياه جوفية هائلة، وأساساً خزان كبير لليورانيوم الغني في إقليم أزواغْ بالتحديد، والذي اكتشف أول ما اكتشف سنة 1969، من قبل باحثين ألمان، قبل أن يصبح النفوذ الفرنسي هو الأقوى بسبب قوة التواجد السياسي والعسكري الفرنسي في دولة النيجر. ولقد حول ذلك الإكتشاف المنجمي الهائل المنطقة كلها إلى طريق حرير جديدة، تُسيلُ لُعابَ كُبريات الشركات العالمية.. وكل الاستثمارات الكبرى في الطرق الحديثة، الممتدة على آلاف الكلمترات، التي أنجزتها ليبيا القذافي والحكومات الجزائرية، المتعاقبة، في المثلث الممتد بين تمنراست الجزائرية وأغاديز بالنيجر وسبها الليبية، إنما هو محاولات لربح موقع قدمٍ في ما يُصنع هناك من قدر اقتصادي وسياسي جديد..ولعل أكثر ما يخشاه المرء هو أن يستفيق من سُباته، ذلك المشروع الفرنسي القديم ل» المجلس الجماعي للمناطق الصحراوية»، الذي ليس في نهاية المطاف سوى جغرافية بلاد الطوارق، الغنية بالبترول والغاز واليورانيوم العالي الجودة، والمياه الجوفية.. ومن هنا يكتسب الوجود الفرنسي الكبير في الملف الليبي اليوم، منذ سارع الرئيس ساركوزي لاستقبال قادة الثوار والإعتراف بهم، كأول دولة غربية تدعمهم وتعترف بهم وتنسق رمعهم، قوة مؤثرة وازنة. وألمانيا أروبيا ومتوسطيا تدرك معنى ذلك جيدا، على القدر نفسه الذي تدرك قوته ومعناه واشنطن ولندن. ولعل المفارقة اليوم، هي أن نقرأ في بعض الصحافة الجزائرية، معلومات عن دفاع رسمي جزائري، من خلال رعايتها للتفاوض بين متمردي الطوارق الماليين وحكومة باماكو قبل الإطاحة بها في انقلاب عسكري، عن شكل للحكم الذاتي لإقليم أزَوَاغْ، يضمن له حقوق التنمية المحلية، ويقيه من الإقصاء الأشبه بالإقصاء العنصري. فيكون مَكْرُ السياسة قد جعل القيادة الجزائرية تدافع عن فكرة حكم ذاتي في شمال مالي وتُحاربها بقوة في الآن ذاته في الصحراء الغربية للمغرب، الذي قدم مشروعا للحكم الذاتي في أقاليمه الجنوبية الصحراوية أمام مجلس الأمنأ اعتبر من قبل كل القوى الدولية الوازنة أنه مشروع جدي وذي مصداقية. وكل صاحب يقين مؤمن بالمصير المشترك لشعوب المغرب الكبير، لا يمكنه إلا أن لا يَقْبَلَ المخاطر الجدية للبلقنة المحيطة بدول هذا المغرب الكبير، سواء في المغرب أو في الجزائر.. والخطر جدي أكثر عند أشقاءنا الجزائريين، لأن ملف الطوارق التاريخي القديم، الأشبه بملف الأكراد في الشرق الأوسط بين تركيا والعراق وسوريا وإيران، يجعل نصف أراضي الطوارق بالجزائر وبها تقع أهم حقول البترول والغاز الجزائريين.. إن مخيمات اللاجئين الطوارق الماليين في الجنوب الجزائري والشرق الموريتاني، مقدمة مقلقة لحساب قادم، عبر بوابة الطوارق، الرجال الملثمين، جوابُهُ الوحيد الحاسم هو وحدة القرار المغاربي، سياسياً واقتصادياً وأمنياً وتكتلاً استراتيجياً.. فهل يفْعَلُها قادتنا المغاربيون، في لقائهم التونسي التاريخي المرتقب؟.. سنرى..