ليس النقد الأدبي سوى كيان معرفي يتكون داخل المجال الثقافي مثل بقية الكيانات التي تتخذ صفة العلم والأدب والفن والفلسفة والأخلاق والقوانين. ومن ثم لا يوجد النقد الأدبي إلا وهو يمارس حوارا مع بقية الكيانات ، متخذا بعضها موضوعا له وبعضها الآخر أدوات للإنجاز وظيفته الثقافية عامة ووظيفته الخاصة ككيان متميز أو يسعى إلى التميز .. فهو بالنظر إلى فعله وانفعاله وتفاعله مع بقية الكيانات المكونة للمجال الثقافي مجبر على التبدل والبحث مما يفضي به إلى التعدد بتعدد العلاقات التي ينخرط فيها وبتنوع الأسئلة التي يواجه بها ، وهي عادة أسئلة تتوافق مع متغيرات المجال الثقافي . لذا يحمل النقد الأدبي معه دائما مشكلات تتجه به نحو اللاجدوى ، أو الموت أو التغير .يكون معها ملزما بمراجعة نفسه أي ممارسة نقده الذاتي بصورة نقد النقد نفسه وتبعا ينتج مسارا يصاحبها تنظير مناسب أو منهج ، سعيا إلى الإجابة عن الأسئلة المطروحة عليه.والتي تبقى متعلقة بموضوعه ( الأدب) والمرجعيات التي تمده بالأدوات . والأهداف التي تستجيب إلى الحاجات الاجتماعية الأيديولوجية التي تحرك المجتمع عامة أوالفئات صاحبة المصلحة في المجال الثقافي . إذن ، يوجد النقد الأدبي بالضرورة في علاقات ضرورية: علاقة مع الكيان الأدبي كعلاقة أولى كثيرا ما يتماهى معها .. علاقة بالنظريات الأدبية التي يحاورها لتمتين العلاقة الأولى. علاقة بتاريخ الأدب والأفكار الأدبية التي تمكنه من التصنيف وتحديد السياقات. علاقة بالعلوم الإنسانية التي تفسح أمامه الدخول إلى موضوعاته وصفا وتأويلا .. هكذا فالنقد الأدبي ممارسة تتقاطع وتتلاقى تلك المكونات بل مكونات أخرى ممكنة :علمية ودينية وتقنية تواصلية ، يتعين أخذها بعين الاعتبار لمعرفة النقد والمشكلات التي يواجهها والأسئلة المراد الإجابة عنها التي تحقق له نقده الذاتي .. إن الأمر لا يقف عند حدود الفهم . بل يذهب إلى أبعد من الفهم ليصل مستوى الاختبار باعتبار أن نقد النقد لذاته عمل يراعي شروط العلم وشروط الاختبار السائدة في العلوم الإنسانية تحديدا.وهي شروط البحث الإبيستيمولوجي . لكن إخضاع النقد لهذه الإبيستيمولوجية الخاصة تبقى جدواها نسبية ولا تستوفي الحاجة المطلوبة من النقد ونقده . إذا لم نضع النقد في مجاله الثقافي الاجتماعي الذي يتكون ويعمل فيه ويؤثر ويتأثر ؛ أي أن فهم وتحليل المجال الثقافي يتخذ أولوية تبرر وتشرح واقع النقد وتستدعي الحاجة إلى طرح الأسئلة النوعية الملائمة له. إن المجال الثقافي المغربي هو الذي يرسم معالم النقد وحركته ويعطيه القيمة والدور والوظيفة و يمده بالموضوعات ( النصوص والقضايا ) وأيضا قد يشوش عليه أو يهمشه ويحاصره بالقيم الضابطة المحفزة ،أو القيم الزائفة والمعرقلة . ونحن لكي نفهم واقع الممارسة النقدية ملزمون بالكشف عن طبيعة المجال الثقافي المغربي التي هي طبيعة «الهجانة» . وهجانتها حصيلة تعايش تناقضات واختيارات متنافية تمنع الالتقاء حول مشترك جامع ، لأن المجال الثقافي يخدم سلطة مادية سياسية واجتماعية تحمي وجودها بترك المتناقضات في مستوى التعارض دون أن يهيمن بعضها على بعض : الأمر الذي ينجم عنه التباس في الهوية حيث تتحرك بوجوه متعارضة هي سلطة التناقضات : لغويا وسياسيا واقتصاديا فتجعل المجال الثقافي مجالات بدائل متنازعة : مغرب الثقافات - مغرب الاستقال والتبعية -مغرب الأصالة والمعاصرة - مغرب المجتمع الديني والمدني - المغرب العربي والقومي والمغرب الأمازيغي الفرانكفوني- مغرب التعليم التقليدي والتعليم الأجنبي العصري - مغرب الأصالة والمعاصرة ومغرب التقليد والمقدسات ومغرب الحداثة المستوردة : مغرب العربات المجرورة بالدواب ومغرب االعربات الفاخرة وقطار فائق السرعة (نحو التبعية) ومجال ثقافي هكذا يخلق واقعا متشظيا وخطابات تشكيك ،وانتهازيات متلونة ( تحزبية وجمعوية ومؤسسات وهمية أوشبه مؤسسات. وعصابات فوق القانون وحلقيات وطوائف ولغات ومصطلحات فارغة ( الشفافية .القرب . القيمة المضافة . الإشارات القوية .الانفتاح والتسامح . الحداثة .إلخ ) هل يمكن للأدب والممارسة النقدية أن يكونا خارج هذه «الهجانة «؟؟ ثم أليس النقد الأدبي ممارسة تتغذى من فيض الممارسة النقدية المتاحة في المجال الثقافي ؟؟ إن النقد المرغوب فيه لا ينظر إلى الخلف ،ولا يتقصد المراحل السابقة لأنه، موضوعيا ، يهتم بالمستقبل عبر نقد المرحلة الحاضرة . أما ما سبق من نقد فقد قام بما كان ممكنا على يد فئة من النقاد الذين أسسوا لفكرة المنهج وربطوا الممارسة بأسئلة المرحلة وجسدوها في خطاب معارض يتبنى الحداثة الأدبية في لغة انطباعية وإنسانية عامة ؛ غلاب . أو بخطاب واقعي يجادل المواقف والنصوص ويتبنى إيديولوجية واقعية مشحونة برؤية تلتزم بقضايا الواقع ؛ برادة ? الشاوي العوفي ..أو بضوابط البحث الجامعي الأكاديمي؛ اليبوري _ المديني .. لكن الذي جاء بعده اختار مشايعة الهجانة بتهافت واضح على نظريات ومناهج جديدة أغلبها مما تعرف عليه النقد الفرنسي بعد الحرب العالمية وتبنى اجتهادات المدرسة الروسية والتشيكية ثم الإنجليزية والألمانية..فوجدها (النقاد المغرابة ) حقل تجارب وتجريب وتمارين ، فتنقل بعضهم بين هذا المنهج و ذاك وكانت الحصيلة دالة على فقدان الوعي النقدي الفاعل الذي يمكن النقد من القيام به اتجاه مطالب الأدب المغربي في حقله الثقافي : وكرسوا واقع الهجانة الذي يشجع على اجتراح مسالك وظواهر تعيد إنتاج ما يعرفه المجتمع وقد تعتمت أمامه الأفق : وصار لازما التساؤل عن مفهم النقد ثم التساؤل وعن حضور النص المغربي وعن هوية النقد وصلته بالمجال الثقافي وحاجات القارئ المغربي وصلة الناقد والناقد الآخر ؟؟؟ ويتبين أن هناك عوائق لابد من ذكرها وهي ماثلة في : - غياب البعد المؤسسي الذي يجعل الاختيارات المقبولة جماعيا ويعطي النقد وضعا منهجيا بقوة مدرسة أو اتجاه :فليس هناك كلية واحدة بالمغرب تتميز باختيار خاص بها في الدرس الأدبي أو في العلوم الإنسانية ، حيث يعمل كل جامعي ضمن منطق الهجانة من موقعه الشخصي الفردي. ؟ - ليس هناك دار للنشر تتبنى مشروعا أدبيا وثقافيا تخدمه وتدعمه بالنشر .. - وليس هناك جمعية تحتضن تيارا نقديا أو أدبيا ، إذ كل الجمعيات هي ارتباطات بين أفراد لهم مطامح شخصية وصغيرة وذات حساب ينازع حسابات مخالفة أو متوهمة..ليس هناك مجلة متخصصة في النقد ولا جمعية للنقد الأدبي .. ونتيجة ذلك يصبح الناقد بلا تميز ولاملامح ؛ مما يشجع الكثير من الكتاب باسم النقد بتحريف وتشويه الهدف الذي هو مبررالنقد ،حيث يوظفون الكتابة لأغراض منفعية زبونية لتلميع كتب الأصدقاء والصديقات ، وترويج أسماء كتاب ممن ترجى شفاعتهم في الداخل - ما أقلهم - أو في المشرق العربي .أو التردد على البعثات الثقافية الأجنبية قصد تقديم خدمات وتنشيط المناسبات النفعية .. وقد أدى هذا إلى تنمية الحساسيات الصامتة والفتاكة واعتماد منطق التجاهل والإقصاء المتبادل بين النقاد : منطق غير معلن يتستر بالنفاق وجعل النقد ممارسة شخصية وشغلا خاصا ..!! إذن ما هو هذا النقد الغارق في»الهجانة «والذي يجب عليه أن يمارس نقده الذاتي ؟؟؟ هل هو الدراسات الجامعية المنجزة لنيل الشواهد تحت الإشراف وتنشر كممارسة نقدية!! هل هو الدراسات الأكاديمية التي تعمل من أجل إثبات قدرة الدارس على توظيف ممارسته ممارسة علمية : صحة المنهج والنظرية!! أو التي تؤكد صلاحية البلاغة ومفاهيم الأسلوبية بتطبيقها على نصوص معتمدة ؟؟ هل هو الكتابات المدرسية والمؤلفات التي تنشر الدروس والمحاضرات ؟؟ هل هو التنظير الذي يتعالى على النصوص ويفكر في نصوص مفترضة اعتمادا على نظريات وجدت انطلاقا من مشكلات الأدب في سياقات غربية !! هل هو الكتابات الاحتفالية والتي تتزلف وتجامل الأصدقاء والصديقات بمراوغة نصوصهم؟؟ .....إلخ ثم نتساءل كيف نواجه نقديا وبالحوار ظواهر مثل : - ضعف المواكبة النقدية للنصوص المغربية ، - التنظير المفتعل الذي لا يرتبط بأسئلة المجال الثقافي المغربي وأسئلته الأدب الذي علينا أن ننتصر له بالرغم من واقع الهجانة والإنكار والاستخفاف ؟؟ - غياب الحوار الضروري بين مكونات المجال الثقافي ذات الصلة بالنقد وموضوعاته ؟؟ - كيف ننتقل بالممارسة النقدية القليلة التي تتميز بالنضج ،والوعي بنفسها (وتبقى مجرد مكون بين مكونات «الهجانة «السائدة في الحقل الثقافي ) إلى مستوى مؤسسي يضعها في المجال الثقافي مشروعا للحوار والجدل والتبني والاغتناء؟؟ نحن لا نستطيع أن ننكر اجتهادات عدد من الباحثين الجامعيين خصوصا الذين أنجزوا أعمالا مقنعة ، و يتميزوا بها كأفراد منشغلين بأسئلة الأنساق المعرفية التي يعملون على كشف فعاليتها في وصف النصوص وتأويلها ( م. مفتاح - س. بنكراد - ع. النوسي إلخ ) لكن كيف نجعل منها مشروعا للنقد كنقد يعبر عن اختيار مؤسس ينشط المجال النقدي الجماعي ؟؟ ثم لا نستطيع تجاهل أعمال جيل من النقاد الشباب الذين اقتحموا الممارسة النقدية بوعي دال على النضج ( ن. محقق - إ . الخضراوي - م. بوعزة - م. الدوهو - ع. التمارة _ ع . الأزدي إلخ) وهم في أشد الحاجة إلى من يحاورهم ويعزز بهم موقفا يخدم المجال الثقافي المغربي ضدا على «الهجانة « والضعف والتجاهل والممارسات الزبونية التي تبرر الهجانة واللاحوار .. إن النقد الأدبي يجد نفسه أمام الأسئلة التي طرحناها أعلاه وتستدعي الحوار ، لا بنقد النقد الذي سبق ، بل باشتغال على النقد الراهن الذي عرفه المجال الثقافي في العقدين الأخيرين ، في سبيل موصل إلى النقد الذي نجد فيه أدبنا المغربي يسألنا نحن ويمثلنا ويترجم حاجاتنا الثقافية المشتركة ..والنقد الذي ينطق بما يعتمل في عقولنا ووجداننا نحن بلغتنا ومعرفتنا، نقدا مؤسسا ثقافيا .... هامش : تم تقديم هذا العرض في الندوة التي نظمتها وزارة الثقافة حول موضوع : «»أما آن للنقد الأدبي بالمغرب أن يقوم بنقده الذاتي»». خلال ندوات المعرض الدولي للكتاب يوم 17 فبراير الماضي.