يتطلع المصريون، والأمة العربية والاسلامية، بعد ثورات التحرير التي أطلقت الحريات، وأذكت روح النهضة الشاملة لدى مختلف الفئات إلى الفئات إلى علماء الأمة ومفكريها المثقفين، كي يحددوا العلاقة بين المبادئ الكلية للشريعة الاسلامية السمحاء ومنظومة الحريات الاساسية التي أجمعت عليها المواثيق الدولية، وأسفرت عنها التجربة الحضارية للشعب المصري، تأصيلا لأسسها، وتأكيدا لثوابتها وتحديدا لشروطها التي تحمى حركة التطور وتفتح آفاق المستقبل. وهي حرية العقيدة وحرية الرأي والتعبير، وحرية البحث العلمي، وحرية الابداع الأدبي والفني، على أساس ثابت من رعاية مقاصد الشريعة الغراء، وإدراك روح التشريع الدستوري الحديث، ومقتضيات التقدم المعرفي الانساني، بما يجعل من الطاقة الروحية للأمة وقودا للنهضة، وحافزا للتقدم وسبيلا للرقي المادي والمعنوي في جهد موصول يتسق فيه الخطاب الثقافي الرشيد مع الخطاب الديني المستنير، ويتآلفان معا في نفس مستقبلي مثمر، تتحد فيه الأهداف والغايات التي يتوافق عليها الجميع. ومن هنا، فإن مجموعة العلماء الأزهريين والمثقفين المصريين الذين أصدروا وثيقة الأزهر الأولى برعاية من الأزهر الشريف، وأتبعوها ببيان دعم حراك الشعوب العربية الشقيقة نحو الحرية والديمقراطية قد واصلوا نشاطهم وتدارسوا فيما بينهم القواسم الفكرية المشتركة في منظومة الحريات والحقوق الانسانية، وانتهوا إلى إقرار جملة من المبادئ والضوابط الحاكمة لهذه الحريات، انطلاقا من متطلبات اللحظة التاريخية الراهنة، وحفاظا على جوهر التوافق المجتمعي ومراعاة للصالح العام في مرحلة التحول الديمقراطي، حتى تنتقل الأمة إلى بناء مؤسساتها الدستورية بسلام واعتدال وتوفيق من الله تعالى. وبما لا يسمح بانتشار بعض الدعوات المغرضة، التي تتذرع بحجة الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتدخل في الحريات العامة والخاصة, الأمر الذي لا يتناسب مع التطور الحضاري والاجتماعي لمصر الحديثة، في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى وحدة الكلمة والفهم الوسطي الصحيح للدين والذي هو رسالة الأزهر الدينية ومسؤوليته نحو المجتمع والوطن. أولا: حرية العقيدة: تعتبر حرية العقيدة، وما يرتبط بها من حق المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساواة التامة في الحقوق والواجبات حجر الزاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولة بثوابت النصوص الدينية القطعية وصريح الأصول الدستورية والقانونية، إذ يقول المولى عز وجل «»لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي«« ويقول «»فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»«، ويترتب عن ذلك تجريم أي مظهر للإكراه في الدين، أو الاضطهاد أو التمييز بسببه، فلكل فرد في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، دون أن يمس حق المجتمع في الحفاظ على العقائد السماوية، فللأديان الإلهية الثلاثة قداستها وللأفراد حرية إقامة شعائرها دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمتها قولا أو فعلا ودون إخلال بالنظام العام. ولما كان الوطن العربي مهبط الوحي السماوي وحاضن الأديان الإلهية - كان أشد التزاما برعاية قداستها واحترام شعائرها وصيانة حقوق المؤمنين بها في حرية وكرامة وإخاء. ويترتب عن حق حرية الاعتقاد التسليم بمشروعية التعدد ورعاية حق الاختلاف ووجوب مراعاة كل مواطن مشاعر الآخرين والمساواة بينهم على أساس متين من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص في جميع الحقوق والواجبات. كما يترتب أيضا على احترام حرية الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير ورفض التوجهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائد، بناء على ما استقر من نظم دستورية, بل بناء على ما استقر -قبل ذلك- بين علماء المسلمين من أحكام صريحة قاطعة قررتها الشريعة السمحاء في الأثر النبوي الشريف: «هلا شققت عن قبله» والتي قررها إمام أهل المدينةالمنورة الامام مالك والأئمة الآخرون بقوله:» »إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الايمان من وجه واحد، حمل على الايمان ولا يجوز حمله على الكفر وقد أعلى أئمة الاجتهاد والتشريع من شأن العقل في الاسلام، وتركوا لنا قاعدتهم الذهبية التي تقرر أنه: »إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل وأول النقل» تغليبا للمصلحة المعتبرة وإعمالا لمقاصد الشريعة» ثانيا: حرية الرأي والتعبير: حرية الرأي هي أم الحريات كلها وتتجلى في التعبير عن الرأي تعبيرا حرا بمختلف وسائل التعبير من كتابة وخطابة وإنتاج فني وتواصل رقمي، وهي مظهر الحريات الاجتماعية التي تتجاوز الأفراد لتشمل غيرهم مثل تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، كما تشمل حرية الصحافة والاعلام المسموع والمرئي والرقمي، وحرية الحصول على المعلومات اللازمة لإبداء الرأي، ولابد أن تكون مكفولة بالنصوص الدستورية لتسمو على القوانين العادية القابلة للتغيير. وقد استقرت المحكمة الدستورية العليا في مصر على توسيع مفهوم حرية التعبير ليشمل النقد البناء ولو كان حاد العبارة ونصت على أنه لا يجوز أن تكون حرية التعبير في القضايا العامة مقيدة بعدم التجاوز، بل يتعين التسامح فيها, لكن من الضروري أن ننبه الى وجوب احترام عقائد الأديان الإلهية الثلاثة وشعائرها لما في ذلك من خطورة على النسيج الوطني والأمن القومي. فليس من حق أحد أن يثير الفتن الطائفية أو النعرات المذهبية باسم حرية التعبير، وإن كان حق الاجتهاد بالرأي العام العلمي المقترن بالدليل، وفي الأوساط المتخصصة، والبعيد عن الإثارة مكفولا كما سبق القول في حرية البحث العلمي. ويعلن المجتمعون ان حرية الرأي والتعبير هي المظهر الحقيقي للديمقراطية، وينادون بتنشئة الأجيال الجديدة وتربيتها على ثقافة الحرية وحرية الاختلاف واحترام الآخرين، ويهيبون بالعاملين في مجال الخطاب الديني والثقافي والسياسي في وسائل الاعلام مراعاة هذا البعد المهم في ممارساتهم، وتوخي الحكمة في تكوين رأي عام يتسم بالتسامح وسعة الأفق ويحتكم للحوار ونبذ التعصب، وينبغي لتحقيق ذلك استحضار التقاليد الحضارية للفكر الاسلامي السمح الذي كان يقول فيه أكابر أئمة الاجتهاد» رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» ومن ثم فلا سبيل لتحصين حرية الرأي سوى بمقارعة الحجة بالحجة طبقا لآداب الحوار، وما استقرت عليه الأعراف الحضارية في المجتمعات الراقية. ثالثا: حرية البحث العلمي: يعد البحث العلمي الجاد في العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية وغيرها، قاطرة التقدم البشري، ووسيلة اكتشاف سنن الكون ومعرفة قوانينه لتسخيرها لخير الإنسانية، ولا يمكن لهذا البحث أن يتم ويؤتي ثماره النظرية والتطبيقية دون تكريس طاقة الأمة له وحشد إمكاناتها من أجله. ولقد أفاضت النصوص القرآنية الكريمة في الحث على النظر والتفكر و الاستنباط والقياس والتأمل في الظواهر الكونية والإنسانية لاكتشاف سننها وقوانينها. ومهدت الطريق لأكبر نهضة علمية في تاريخ الشرق، نزلت الى الواقع وأسعدت الإنسان شرقاوغربا، وقادها علماء الاسلام ونقلوا شعلتها لتضيء عصر النهضة الغربية كما هو معروف وثابت، وإذا كان التفكير في عمومه فريضة إسلامية في مختلف المعارف والفنون كما يقول المجتهدون, فإن البحث العلمي النظري والتجريبي هو أداة هذا الفكر، وأهم شروطه أن تمتلك المؤسسات البحثية والعلماء المتخصصون حرية أكاديمية تامة في إجراء التجارب وفرض الفروض والاحتمالات واختبارها بالمعايير العلمية الدقيقة، ومن حق هذه المؤسسات أن تمتلك الخيال الخلاق والخبرة الكفيلة بالوصول الى نتائج جديدة تضيف للمعرفة الإنسانية، لا يوجههم في ذلك إلا أخلاقيات العلم ومناهجه وثوابته. وقد كان كبار العلماء المسلمين مثل الرازي وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم أقطاب المعرفة العلمية وروادها في الشرق والغرب قرونا عديدة، وآن الأوان للأمة العربية والاسلامية أن تعود الى سباق القوة وتدخل عصر المعرفة، فقد أصبح العلم مصدر القوة العسكرية والاقتصادية وسبب التقدم والتنمية والرخاء، وأصبح البحث العلمي الحر مناطا بنهضة التعليم وسيادة الفكر العلمي وازدهار مراكز الانتاج, إذ تخصص لها الميزانيات الضخمة، وتشكل لها فرق العمل وتقترح لها المشروعات الكبرى، وكل ذلك مما يتطلب ضمان أعلى سقف للبحث العلمي الإنساني. وقد أوشك الغرب أن يقبض بيديه على كل تقدم علمي وأن يحتكر مسيرة العلم لولا نهضة اليابان والصين والهند وجنوب شرقي آسيا التي قدمت نماذج مضيئة لقدرة الشرق على كسر هذا الاحتكار، ولدخول عصر العلم والمعرفة من أوسع الأبواب، وقد آن الأوان ليدخل المصريون والعرب والمسلمون ساحة المنافسة العلمية والحضارية، ولديهم ما يؤهلهم من الطاقات الروحية والمادية والبشرية وغيرها من شروط التقدم في عالم لا يحترم الضعفاء المتخلفين. رابعا: حرية الإبداع الأدبي والفني: ينقسم الإبداع الى إبداع علمي يتصل بالبحث العلمي كما سبق، وإبداع أدبي وفني يتمثل في أجناس الأدب المختلفة من شعر غنائي ودرامي، وسرد قصصي وروائي، ومسرح وسير ذاتية وفنون بصرية تشكيلية، وفنون سينمائية وتليفزيونية وموسيقية، وأشكال أخرى مستحدثة في كل هذه الفروع. والآداب والفنون تقوم في جملتها بتنمية الوعي بالواقع، وتنشيط الخيال وترقية الإحساس الجمالي وتثقيف الحواس الإنسانية وتوسيع مداركها وتعميق خبرة الانسان بالحياة والمجتمع، كما تقوم بنقد المجتمع أحيانا والاستشراف لما هو أرقى وأفضل منه، وكلها وظائف سامية تؤدي في حقيقة الأمر الى إثراء اللغة والثقافة وتنشيط الخيال وتنمية الفكر، مع مراعاة القيم الدينية العليا والفضائل الأخلاقية. ولقد تميزت اللغة العربية بثرائها الأدبي وبلاغتها المشهودة ، حتى جاء القرآن الكريم في الذروة من البلاغة والإعجاز، فزاد من جمالها وأبرز عبقريتها، وتغذت منه فنون الشعر والنثر والحكمة، وانطلقت مواهب الشعراء والكتاب من جميع الأجناس التي دانت بالإسلام ونطقت بالعربية تبدع في جميع الفنون بحرية على مر العصور دون حرج، بل إن كثيرا من العلماء القائمين على الثقافة العربية والاسلامية من شيوخ وأئمة كانوا هم من رواة الشعر والقصص بجميع أشكاله، على أن القاعدة الأساسية التي تحكم حدود حرية الإبداع هي قابلية المجتمع من ناحية، وقدرته على استيعاب عناصر التراث والتجديد في الإبداع الأدبي والفني من ناحية أخرى وعدم التعرض لها ما لم تمس المشاعر الدينية أو القيم الاخلاقية المستقرة، ويظل الإبداع الأدبي والفني من أهم مظاهر ازدهار منظومة الحريات الأساسية وأشدها فعالية في تحريك وعي المجتمع وإثراء وجدانه، وكلما ترسخت الحرية الرشيدة كان ذلك دليلا على تحضره، فالآداب والفنون مرآة لضمائر المجتمعات وتعبير صادر عن ثوابتهم ومتغيراتهم، وتعرض صورة لطموحاتهم في مستقبل أفضل، والله الموفق لما فيه الخير والسداد. تحريرا في مشيخة الأزهر: (14 من صفر سنة 1433 ه ) شيخ الأزهر أحمد الطيب