يقف المعتقل و الناشط السياسي السابق و الحالي إزاء حركة 20 فبراير .. موقفا نقديا صارما مؤسس له بعمق فكري لا يغيب عنه استحضار السياقات و المداخل المؤطرة لهذه الدينامية الاحتجاجية المغربية القحة .. صبير حاول في هذه الورقة التي أمد بها «الاتحاد الاشتراكي» أن يضع الحركة .. وجهها و سلوكها السياسي و الاحتجاجي أمام المرآة ، لعل تلك المرآة تكون عاكسة للحقائق و مسهلة لإعادة النظر في أخطاء البدايات .. في السياق.. لا تقترن الثورة بالدموية والعنف إلا ابتذالا،ذلك أن أعظم ما تحصل عن الثورات الفارقة في التاريخ البشري ليس بقدر ما نصبته الانتفاضات المدنية أو المسلحة، المواكبة لها من مشانق أو ما مارسته من إذلال ومهانة وسفكته من دماء في حق الكائن الإنساني وباسمه . فتلكم انزلاقات وترسبات همجية كثيرا ما أخفيت بإتقان في غمرة خطابات التمجيد والنزعة الانتصارية وشيطنة الآخرين ? بل أعظم ما تحصل عنها ، هو ما رسمته من «قطائع» نوعية في شرط الوجود البشري..هو في المحصلة تتويج نوعي/كيفي لمسار طويل من التراكمات المؤسسة ،والذي غالبا ما ارتبط عضويا بلحظة لتكثيف التاريخ, حيث يشحذ المجتمع كل عدده القيمية والفكرية والمصالحية لواجهة التدافع، التناحري أحيانا،حيث يدفع باستعداداته المهيمنة الجديدة المنتصرة لفكرة «الإنصاف» . بيد أن هكذا ثورات ، ليست مجرد تعبير عن حنق اجتماعي مزمن أو ظرفي طارئ ،بقدر ما هي تتويج لمسار مؤسس من التفكير في الذات والمجتمع ،ونقد عميق متواتر وخصب لهما ،يمتد من مساحة الإبداع الأدبي والفني إلى الحقل الشاسع للفلسفة في حراك فكري يضطلع به أناس جعلوا همهم فرادى أو مجتمعين كشف واقع الحال ووضع الأصبع على مكامن الأدواء توصيفا أو الذهاب ابعد من ذلك لاقتراح بدائل تختلف في جذريتها وصوابيتها باختلاف زوايا المقاربات المنهجية كما المصالح والنوازع الساكنة بواطن اللاشعور أكثر منها المصالح «الفجة» المتمثلة ميكانيكيا بين الشرط الاجتماعي والذات المفكرة. من هذا المنظور ، يتبدى لنا الحراك بهذا اليباب الممتد من الماء إلى الماء ،أقرب ل»انتفاضات» للضيم الاجتماعي الموغل في الأجسام المجتمعية إياها من فرط تعدد أوجه المهانة والإذلال، واستئساد الفردانية المسلحة بكل أسباب القوة والضبط والإكراه والردع و إرشاء النخب واستمالتها أو تدميرها حال استحالة القدرة على التطويع . غير أنها انتفاضات في الغالب الأعم من دون «استعدادات» نوعية، بقدر ما تعبر عن حالة مفارقة يهيكلها منطق «التغيير في المستقبل الماضي»،باستعادة أو إعادة الاعتبار لأحد طرفي جوابها التاريخي , وان بصورة منقحة وأقل تنويرا عن الحركة النهضوية الأصل - نهاية القرن 19 والربع الأول من القرن العشرين على سؤال التحديث والدمقرطة ،بين الاتجاهين «القومي»العروبي و»السلفي» الخلافوي. و بعد أن استنفد الاتجاه الأول،على اختلاف مشتقاته،سطوته ومعها كل عدته الإيديولوجية ،وبرهن بالقطع أن لا خير يرجى فيه ومنه ل»نهضة» مأمولة تقطع مع الاستبداد بالناس والأشياء وتمنحهم أفقا يقيسون به اعتبارهم ،وسط عالم محيط يضمن حدودا دنيا من كرامة العيش ومساحة واسعة من حرية الاحتجاج والمدافعة وأدواتهما،فإن هبة المجتمعات انوجدت مجردة من أي تأسيس للانخراط في العصر عدة فكرية وقيمية ونخبا ذات اتصال عضوي بنبض الناس ،إلا ما كان من قلة طافية في لجة جحافل من تجار البؤس الاجتماعي, حيث ريوع النفط تسند الشد الوثيق لتلابيب الماضي فتضمن التكييف الجيوسياسي لكل تحول ممكن،وتجوف المطمح الديمقراطي من كل أنساقه القيمية والمبدئية، اختزالا في الصناديق في صورة كاريكاتورية لا يتورع فيها طيف من محتمل فوز عن التصريح بمشروع ديكتاتورية «الشريعة» لكن بالتدرج(كذا).(هكذا صرح زعيم حزب النور السلفي بمصر وهو تصريح تجاريه وان بصيغ ملتبسة تصريحات الإخوان المسلمين خاصة لدى رفض الحديث عن المبادئ الدستورية الحاكمة في الشق المتعلق بحرية المعتقد). إن هذه الإشارة البانورامية ،ضرورية لتوطين هذا الحراك المعدي، في تاريخ وجغرافية مجال ظل مستباحا ل»الفيء» و»الغنيمة» و «الآرعاء» و»البيعة» على تعدد صور سلطه المهيمنة خلافة إسلامية كانت، أو دولة «قطرية» بما فيها الجمهوريات الوراثية،دونما إغفال لترتيبات وآدوار القوى الماسكة بزمام الأمر الدولي , مباشرة أو من خلال ادوار الوكالة والمناولة - ورهانات مصالحها الكبرى،التي لا تهتم إلا قليلا بمن يحكم من؟ ولا كيف يحكم؟ ،طالما يستطيع ضمان شكلانية اللعبة لاستقرار متحكم فيه، يسمح بتثمين المصالح والرساميل وحمايتها من كل مساس جوهري يقوضها أو يضعف مردوديتها وجدواها. - الحراك العشريني ما بين الاتصال والانفصال.. لا يخرج حراك 20فبراير، اتصالا عن هذا السياق والمناخ العام أعلاه ، لكنه انفصال ذو خصوصيات جوهرية، فالمغرب طيلة عقود عاش على إيقاع انتفاضات متواترة تكاد تتخذ صورة دورية مرتبطة بواقع المآزق السياسية والاجتماعية واختناقاتها لكنها ظلت أكثر التصاقا وان من حيث التوقيت بالشرط المعاشي(59-65- 72 -81 - 84...) ،قبل أن تغير من طبيعتها الوطنية صوب محليات وقطاعيات وفئويات ،وهو الوجه الذي اكتسبته أكثر تواترا ابتداء من عقد التسعينيات بتواز مع دخول الانفتاح السياسي المراقب على المعارضة التاريخية وإشراكها في بعض أوجه التدبير ،كما أن التطلعات العامة المأمولة - بغض النظر عن مشاريع الهامش - خارطة طريقها ممجوجة الطرق على مدى يفوق نصف القرن ،تقليبا لسؤال : التحديث والدمقرطة للحد الذي غدا تبنيه لغة رسمية لم يخل منها خطاب للملكية الجديدة إلا ما كان غداة «الانقلاب الأبيض» للحشد الأصولي الأكثر تنظيما، وامتداداته الأخطبوطية في قلب مركز القرار ذاته.(لقد أشرنا في حينه - عبر مقالة موجزة فايسبوكية - لدلالات خلو خطاب تنصيب المجلس الاقتصادي الاجتماعي - في غمار الحراك الدستوري- ولأول مرة من الإشارة للمشروع الحداثي الديمقراطي الذي شكل ما يشبه التعاقد الطوعي للملكية الجديدة مع المجتمع وقواه الوطنية غداة انتقال الملك، كما اشرنا بمقالة مماثلة لدلالات بيان المجلس العلمي الأعلى نهاية مارس 2011 والذي تضمن موقفا خطيرا بحقهم في الرقابة على الغير ،وهو بيان يجاري في الكثير من منطوقه بيان حركة الإصلاح والتجديد ،الذراع التبشيري لحزب العدالة والتنمية بتاريخ 12 مارس من نفس السنة ). إن هذه الخصوصية المشار إليها أعلاه ,سواء من حيث دينامية المجتمع وأصالة تعبيراته السياسية، هي التي يسرت من دون تشنجات الطابع ألاستباقي لخطاب 9مارس والمؤشر للقدرة على استيعاب جرعة مضافة لنفس الإصلاح السياسي والمؤسساتي ،ليتحول الرهان صوب مدى قدرة الفاعلين المهيكلين لمنح الإصلاحات المطلوبة ذلك العمق المطابق لانتظارات الكيان الجمعي والموافق أيضا لما بلغته استعداداته في القدرة على تنزيلها وتفعيلها. كما وأنها بنفس القدر هي التي جعلت من الحراك العشريني في الأصل تأسيسا افتراضيا وميدانيا (بغض النظر عن الطابع الاحتيالي لصيغة النهج الديمقراطي من خلال «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان») منضبطا بوضع الملكية خارج أية مزايدة ( لقد كان الجواب الحركي العشريني واضحا وصارما من خلال الشبكة العنكبوتية على ما سمي حينه ب حركة «الشباب الملكي»، محددا للملكية البرلمانية سقفا مطلبيا على المستوى السياسي الدستوري. لقد أسلفنا حينه القول ،وقبل خطاب 9مارس، أن حراك شباب 20فبراير قد نجح قبل أن ينجز ،وكان باديا من تفاعلات «الشبكة العنكبوتية» أن كل الأطراف المجتمعية ومن كل الأجيال والاتجاهات والحساسيات قد انهمكت في شحذ أسلحتها لتكييف المولود المأمول وفق تطلعاتها ، وكان باديا أن أطرافا عدة قد استشعرت خطورة الحركة وتبينت عن حق محمولها الحداثي ونفسها الديمقراطي ،وكان لا بد من وجهة «تكتيكاتها» ،لجمها من الداخل . وعلى عكس التكتيكات الساذجة والمتهيبة للقوى الوطنية الديمقراطية,فإن الأطياف الأصولية من محازبي الشيعية السياسية إلى العدالة والتنمية مرورا بالسلفية والعدليين كانت حاضرة وبقوة للامساك بخيوط الشبكة العنكبوتية ومجموعاتها كما استمالة ترجماتها البشرية الميدانية، والسعي لتجيير تنزيلها ما شاءت لذلك سبيلا وبتقية «خلاقة»، من حيث «الاحتواء» وتدرج «الإفصاح» ،للحد الذي بدت معه الأرضية التأسيسية ذاتها «سكيزوفرينية» بين المطمح التحديثي الديمقراطي والمنزع «الفاشي»....هكذا أطلق العنان للتهجم على شخوص وأحزاب بعينها،في مشهد اختزالي مشخصن، دونما انتباه لتلبس الحسابات الانتخابية واستعداداتها ولعبة توزع الأدوار بين رجل خارج تصريحا ،ورجل داخل فعلا ومفعولا ،و»حلف مقدس» يزحف حثيثا لضبط الحراك على إيقاعه الخاص تجويفا من كل نفس تحديثي تتحول فيه الديمقراطية تبخيسا ،لمجرد»تعداد أصوات» لا روح له ولا خلفية مبدئية لمقولة «الشعب يريد» ... إن المتتبع الحصيف والمعايش الميداني ،سيتلمس بيسر تدرج السطوة العنكبوتية في تغاير المجموعات وتحولها إلى «ناطق رسمي» للحراك العشريني ،ولم يكن ذلك من غير فعل ميداني «من وراء ستار» استبعدت فيه و»شيطنت» فعاليات مستقلة وازنة في اصل المبادرة وتنزيلها الميداني ،وهو فعل شاركت فيه وبتواطؤ بئيس للأسف،من خلال ما سمي بمجالس الدعم، قوى محسوبة على اليسار، غير ذات علاقة أو مطمح بسقف الحراك والذي لم يكن تجاوزه خطابة لمجارييها من الجهة المقابلة - في حلف موضوعي -غير لعبة مزايدة تصب في أتون حراك آخر كان حداه المطلوبان :منطوق النص الدستوري وترجمته الانتخابية على الأرض من حيث «التمكين» حتى غذت 20فبراير فزاعة لإشهار التهديدات بكل مجمع انتخابي . فمن يذكر على سبيل المثال لا الحصر أن تحويل الحراك للبرنوصي ودرب السلطان ثم سيدي عثمان قد كان تلويحا للضغط من داخل الآلية السياسية الدستورية المحدثة و خدمة ل»الانقلاب الأبيض» إياه وبتزامن معه ؟،وسيكون من السذاجة بل والبلاهة، كما احتقار الذكاء السياسي لدى جماعة العدل والإحسان تصور أنها كانت ترمي المغامرة بذاتها عبر تصعيد غير محسوب ولا متحكم فيه. في تلغيم الحركة لقد كانت الحركة العشرينية تبدو فاعلا،والحال انه كان مفعولا بها وان القوى اليسارية،بكل أطيافها، ذاتها كانت مجرد «كومبارس» في خدمة لا مدركة لأجندة لا تتملك لا قوتها المتراصة ولا حتى الوعي برهانات خيوطها ...إن تلغيم حركة 20 فبراير لقرصنتها، والحرص الشديد على تعويم شعاراتها والمزايدة في رفع أسقفها كانت غايته الإستراتيجية ، ومنذ البدء، تحييدها عن الحراك المجتمعي واستبعادها عنه والحيلولة دون ترجمتها لفاعل اقتراحي كما لو كانت مجرد كائن «غوغائي» لإخراجها من معادلة الصراع الذي نشأت أصلا لخوضه وترجمة أهداف بينة له سياسيا وقانونيا ومجتمعيا ،وجعلها مجرد ورقة ضغط واستعراض للقوة والابتزاز السياسي والهوياتي والمصالحي أيضا .. وهو ما لم ينتبه له للأسف إلا بعد فوات الأوان ليغدو مجرد «وعي شقي» ل»ثورة مغدورة»أخطأت لحظتها في الجواب على سؤال ظل يطرق أبواب المغرب منذ «هزيمة ايسلي» : دخول عصر الأحكام الديمقراطية،من بابها الحداثي الواسع،لا من نافذة «ردة سلفية» هي في الأصل مبعث تقهقره التاريخي واستعماره. أي أفق تبقى لروح العشرين؟ .. بصيص أمل بكثير تواضع و واقعية.. يبدو السعي ذات الآن للملمة الحراك ،بغاية استرجاع نفسه التحديثي الديمقراطي ،كما لو كان نوعا من اللعب في الوقت الميت ،إذ من العبث أن يتصور أي كان على قدر أدنى من «العقلانية» انه من القوة وإنضاج الشرط الاجتماعي لاستعادة لحظة تكثيف التحفز لدورة جديدة للإصلاح الدستوري تحت أي مسمى كان «خط نضال جماهيري» أو «خط نضال مؤسساتي» بل يصدق عليه المثل:»الصيف ضيعت اللبن». إن الممكن المأمول، في الشرط الراهن ،هو الحرص على روح 20فبراير المؤسسة وتحويلها لحالة ثورية دائمة بالمعنى البناء لا الغوغائي،لصياغة جبهة حداثية ديمقراطية دفاعية ،تحرص على المكتسبات وتتصدى لأي مساس بها ، وتحافظ على ضغط بناء واقتراحي بخصوص ملفات وقضايا بعينها وأهمها الفساد واقتصاد الريع والتنزيل السليم والتفعيل للقوانين التنظيمية المتعلقة بالمسألة الهوياتية ومحاربة التمييز النوعي وغيرها من القضايا الحيوية التي طرقها التغيير الدستوري الاخير ،بالقدر الذي تنضج ممكنات حركة ثقافية وحالة فكرية وفنية مؤسسة، بعيدا عن الحراك الطقوسي المستنزف وضعيف العائد من حيث إشاعة الوضوح والتوضيح الاجتماعي للرهانات في شتى أبعادها ، وما لم تستطع الحركة إياها أن تتحول لوعاء لإعادة اللحمة في إطار من النقد الذاتي والوضوح لكل مكونات الصف الحداثي الديمقراطي أفرادا وتنظيمات مدنية وسياسية، بعيدا عن «تدبير السياسة بالأحقاد»،(وهو ما تبدو بعض مؤشراته في تنطع الأقوال والتصريحات لمن يريد أن يستعيد لعبة شردمة الصف الديمقراطي الحداثي عبر المزايدات الجوفاء والاصطفافات المفتعلة والميكروسكوبية في آن)وإطارا لإطلاق مبادرات باتجاه إعادة الاعتبار واللحمة لإطارات الدفاع المدني واحياء لخصب الفكر والفن والثقافة وكل ما يمكن أن يعيد الحياة لأوصال الكيان الاجتماعي وقدرته على التملك الواعي لمصيره،وما لم تتملك القدرة أيضا على التوضيح الصارم لأسقفها السياسية والتخلص من كل أردان المزايدة المخربة،فإنها في أجدى الأحوال ستظل مبنى من دون معنى ،لكل الفصائل فيها وطر، وشبابها المستقل مجرد كومبارس تتناوب عليه الأجندات قرصنة وغدرا ، وهذا ما لا نتمناه ونرى في الشباب العائد لحضن الاعتناق الفعلي للفعالية الوطنية والمواطنة مأموله وضمانته.