يواصل أدغار موران وهو في التّاسعة والثّمانين من عمره إنتاج تفكير غنيّ وملتفت نحو المستقبل. إنّ هذا المقاوم القديم، الشّيوعيّ السّابق، عالم الاجتماع والفيلسوف، الّذي كان نيكولا سركوزي منذ بضع سنوات يستعير منه دون أن يدري تصوّر «سياسة حضاريّة»، قد أنتج للتّوّ تأليفا جديدا بعنوان «السّبيل»La Voie يقوم فيه بمعاينة قاسية ومقلقة في نفس الوقت لأدواء عصرنا، ويحاول أن يمنح بعض الدّروب للمستقبل. إليكم هذا الحوار الّذي أجرته معه مجلّة Rue89. - هل كانت لك اتّصالات بمسئولين من اليسار؟ - لقد تحصّلت على كتاب أرنو مونتبورغ Arnaud Montebourg. قال في إهدائه إنّه استلهم من بعض أفكاري. إذا كان كلامه صحيحا فأنا مسرور بذلك. كما أنّ سيغولين رويال قد ذبّت عنّي عندما وقع سوء التّفاهم بيني وبين سركوزي. فقد أظهرت نسخةً من الكتاب قائلة إنّ هذه هي السّياسة الحضاريّة الحقّ. ولكنّي لم أتلقّ أيّة علامة على تجديد في الفكر السّياسيّ. - تدافع في كتابك «السّبيل» عن الدّيمقراطيّة التّشاركيّة، وهي فكرة روايال.. - كانت على حقّ. توجد أمثلة في البرازيل حيث يقوم السّكّان بالتّحقيق في الميزانيات... لا بدّ حسب رأيي من أن توجد ديمقراطيّة قاعديّة، باعتبارها تتمّة للدّيمقراطيّة البرلمانيّة والمؤسّسيّة، يمكنها أن تراقب وحتّى تقرّر في شأن قضايا معيّنة مثل بناء طرف طريق سيّارة أو إنشاء مصنع مّا... أنا مؤيّد لوجود ديمقراطيّة تشاركيّة ولكنّي أعرف أنّها ليست حلاّ سحريّا. فالمخاطرة هي أن يكون الأهالي المعنيون أكثر من غيرهم مغيَّبين، أعني بهم الشّيوخ والنّساء والشّباب والمهاجرين... توجد مخاطرة أخرى هي أن تتسرّب أحزاب معيّنة إلى هذه الجمعيات. مثل هذا الميل الغريب عند التّروتسكيين إلى التّسلّل الدّائم. إنّهم يظنّون أنّهم يحسنون صنيعا ولكنّهم في الواقع يخرّبون كلّ شيء! أنظروا ما حدث للعولمة البديلة. في كثير من الأحيان أيضا، الزّاعقون هم الّذين يلعبون الأدوار الأكثر أهمّية بينما يصمت الكثيرون. ينتظرنا الكثير من العمل في مجال التّربية على الدّيمقراطيّة التّشاركيّة. إذا شغّلنا مضخّة تجديد المواطن فبإمكان الأمور أن تشهد تطوّرا. لا بدّ من إنشاء معاهد تدرَّس فيها للمواطنين القضايا السّياسيّة الكبرى. وبما أنّ هناك تجفيفا للدّيمقراطيّة فإنّ إحياء الدّيمقراطيّة أمر يُعتمد عليه. رغم ذلك، فإنّ الصّعوبة الكبرى هي خيبة الأمل. لقد آمنت الأجيال القديمة بالثّورة، بالشّيوعيّة، بالمجتمع المسمّى صناعيّا، بالرّخاء، بنهاية الأزمات. كان ريمون آرون يقول : «سينجز المجتمع الصّناعيّ أقلّ مجتمع سيّء ممكن.» كانت هناك آمال، الاشتراكيّة العربيّة، الثّورات... جميع هذه الآمال تهاوت. - رغم ذلك، مازال هذا الإيمان بالرّخاء والنّماء موجودا في البرازيل أو الصّين. - اليسار في أمريكا اللاّتينيّة موجود في شكل متعدّد. علينا أن نقول اليسارات. هناك لُولا Lula، وكيرشنار Kirchner، وباشلات Bachelet، وكورّيا Correa... وليس تشافيز Chavez، لن أقول عنه إنّه من اليسار. البرازيل، هذا البلد الكبير الّذي لديه طاقة اقتصاديّة كبرى، يضع مستقبله في التّنمية، وهو ما يمثّل خطرا على الأمازون، الخ. باختصار، هنا أيضا أُدخلت أنماطُ تفكير. ولُولا موزّع بين من يقولون إنّه يجب الحفاظ على الأمازون ومن يقولون إنّه لا بدّ من استغلالها. كورّيا لا يريد استغلال منابع النّفط، وموراليس يعيد بناء مجتمع «الحياة الجيّدة»، بمعنى الحياة الجيّدة مع «الباشاماما» pachamama، أي الأرض الأمّ. هي محاولة للتّعايش بين الحضارات التّقليديّة والحضارات الغربيّة. العادات تنقل الصّلة بالطّبيعة، وهذا التّضامنَ في العائلة والجيرة والقرية، واحترامَ الأجيال الطّاعنة في السّنّ، وعيباها في الغالب هما التّسلّط العائليّ والمحافظة. أمّا الغرب فيجلب الدّيمقراطيّة وحقوق الرّجال والنّساء. إنّ العنصر الدّافع لشعبيّة لُولا هي «حافظة النّقود العائليّة» bolsa familia، هذه الحصّة المخصّصة للعائلة الفقيرة لتمكين الأطفال من الدّراسة وحتّى للنّفاذ إلى الاستهلاك. بدأت هذه الفكرة تُدرَس في المغرب وفي غيرها، فهي وسيلة لمقاومة الفقر. هذا أمر جيّد جدّا، إنّها قارّة حيّة جدّا. أمّا في الصّين، فما يحدث هو اتّحاد وثيق بين الرّأسماليّة الأشدّ إرعابا والاستبداد الأكثر شموليّة! ولكن هنا أيضا توجد خمائر، أيكولوجيّة ومن الحرّيّة... - كنّا نتحدّث عن خيبة الأمل. هل ترى أنّها خاصّة بالغرب أم أنّها كونيّة؟ - إنّها كونيّة. أعتقد أنّ فقدان الإيمان بتقدّم مّا باعتباره سبيلا تاريخيّا هو أحد العوامل الأكثر أهمّية لخيبة الأمل هذه. فهذا الإيمان الّذي صاغه كوندورساي Condorcet قد تمّ نقله إلى العالم بأسره. إلاّ أنّنا قد أضعنا المستقبل. فاليومُ القادمُ شكّ وخطر ورعب. حينما يكون الحاضر مرعوبا نرتدّ إلى الماضي، إلى الهويّة، إلى الدّين، من هنا كان استيقاظ الدّيانات الهائل. في لجنة تحكيم «عالم «Mondeالّتي أنتمي إليها، منحنا جائزة لإيرانيّة تفسّر بطريقة جيّدة كيف ساند قسم من أنتلّيجانسيا اليسار الخميني بعد سقوط الشّاه. كما أنّ قسما من الأجيال الجديدة في البلدان العربيّة الإسلاميّة تحوّل إلى الأصوليّة الدّينيّة. أنظروا إلى هذه الأزمة المهولة في تونس : فالنّظام فيها ثبّت نفسه باعتباره سورا واقيا ضدّ الأصوليّة وهكذا بررّ القمع. لقد نجح في تدمير القوى الدّيمقراطيّة الّتي كانت موجودة في البلاد. إنّنا نتأكّد بأنفسنا من وجود وضعيّة مأساويّة. أنتم تعلمون أنّني مع ستيفان أسّال وصديقنا كلود ألفانديري ديناصورات. كنّا أنا وكلود ألفانديري مقاومين ثمّ شيوعيين ثمّ انصرفنا عن الشّيوعيّة. وهو، رغم أنشطته البنكيّة، لم يفقد آماله. لقد عرفته بعد التّحرير. ومنذئذ، التقينا في مرّات كثيرة وتبيّنّنا أنّنا حافظنا على آمالنا، ولكنّنا فقدنا أوهامنا. البعض يتحوّل إلى الكلبيّة cynisme... أو ينتقل إلى اليمين أو إلى الدّينيّ. - هل أنت نفسك قد خاب أملك في أوباما؟ - كلاّ! أنا معجب بأوباما وأحترمه. فحالة التّقهقر الّتي يعيشها العالم أودت بسياسته المتعلّقة بإسرائيل وفي فلسطين، وببقيّة العالم، وأفغانستان إلى الفشل... إنّه ضحيّةٌ شيئا ما. يحزنني هذا الفشل ولكنّ أملي لم يخب. ما أخشاه هو انفلات ردّ فعل أسوأ من ردّ فعل بوش. فحين نرى هؤلاء المنتمين إلى «حفلة شاي Tea Party»، فإنّ ردّ فعل الجمهوريين أمر مقلق جدّا! إنّ تشخيص التّقهقر يجب أن يحثّنا على اقتراح مستقبل مّا. ليس برنامجا أو نموذجا لمجتمع... كلاّ! يجب اقتراح سبيل يمكنه أن يخلق سبلا أخرى وبإمكان هذا السّبيل أن يخلق التّحوّل. هذا هو الجانب المتفائل لمعاينة متشائمة! - أنت تقول إنّ خيبة الأمل هو فقدان الإيمان بالتّقدّم. هذا قريب من خيبة الأمل المرتبطة باقتراب المرء من موته الخاصّ... - أبدا لم يوجد هذا الاتّحاد في المصير بين الإنسانيّة كلّها، كلّ البشر يشتركون في التّعرّض لنفس التّهديدات القاتلة، لنفس معضلات الخلاص. وتُعتبر العولمة أسوأ الأمور وأفضلها بالنّسبة إلى ذلك. لقد اهتممت بمعضلة الموت في كتابي «الإنسان والموت». كان وراء هذا الاهتمام موت أمّي عندما كنت في العاشرة من عمري، كان حدثا فظيعا ولامعقولا، ثمّ كان موت أصدقائي المقرّبين رميا بالرّصاص أو مبعدين... الموت والحياة هما بطبيعة الحال عدوّان، غير أنّ الحياة تنجح في مقاومة الموت مستعينة بالموت. فنحن حين نأكل لحوم الحيوانات نميتها. كما أنّ خلايانا تموت دون توقّف وتعوّضها خلايا فتيّة. إنّ هذه الجدليّة الدّائمة بين الحياة والموت حيث ينتصر الموت في نهاية المطاف على الأفراد، وحتّى على الحياة عند فناء الشّمس، لا تقوم إلاّ بتوطيد فكرة أهمّيّة الحياة. بإمكاننا أن نكبح كروب الموت بحدّة الحياة، بحدّة قوى الحياة الّتي هي قوى حبّ وشعر وفنّ للتّشارك. لا يوجد ردّ آخر على الموت غير ذاك المتمثّل في القدرة على أن يحيى المرء حياته. ماعدا بالنّسبة إلى أولئك الّذين يؤمنون بحياة أخرى بعد الموت. - أنت تلحّ على فكرة التّحوّل، مع الحكاية الرّمزيّة عن الأسروع والفراشة. هل هي رواية مختلفة عن الحياة بعد الموت؟ - كلاّ. بعد الموت هناك إمّا البعث في المسيحيّة والإسلام، وإمّا التّناسخ. أمّا فكرتي فهي أنّ شيئا مّا يحدث على الأرض. ليس هناك فقط التّحوّلات الكثيرة في العالم الحيوانيّ، عند الضّفدعيات والحشرات، بل عند الإنسان أيضا. نحن أنفسنا، عندما نكون أجنّة، نتحوّل. ننتقل من حالة السّيولة إلى الهواء. تاريخيّا، عرفت البشريّة بأسرها التّحوّل، من مجتمع الصّيّادين في بضع مواقع من الكرة الأرضيّة إلى المدن الأولى، إلى الزّراعة والدّيانات الكبرى والأعمال الفنّيّة والتّقنيات والفلسفة... منذ ظهور الإمبراطوريات العظمى حدثت تحوّلات مذهلة. علينا اليوم أن نصل إلى تحوّل ما بعد - تاريخيّ، إلى حضارة كونيّة لا يمكننا أن نتوقّع شكلها. أنا إذن باق في كون دنيويّ لكي لا أقول أرضيّا. - أليس الصّراع في الشّرق الأوسط علامة على أدواء الحضارة الرّاهنة؟ - تماما. بل إنّه يضيف إليها فورته. تشكّلت أمّتان في نفس الإقليم، تشكّلت قوميّتان وكلّ منهما تنزع نحو ارتداء لون دينيّ أكثر فأكثر. كثيرون يتساءلون ماذا تساوي هذه القضيّة في مواجهة مآسي السّودان... لا ينبغي طرح القضّيّة بهذه الطّريقة لأنّها تهمّ الملايين من المسلمين واليهود والمسيحيين بسبب القدس. لقد فكّرت فيها على أنّها نوع من السّرطان، شيء مّا يفضي إلى انبثاثات [تغيّرات في مركز المرض métastases (المترجم)] : فمعاداة اليهوديّة في العالم الإسلاميّ تتغذّى من معاداة السّاميّة الغربيّة الّتي تخفّ قوّتها لمصلحة معاداة العروبة. لقد فاقمت هذه القضيّة من خطورة الوضع العالميّ. هي ليست العامل الوحيد للمانويّة وللأصوليّة، ولكنّها تمثّل انحطاطا شاملا. هذا أكيد. - إنّنا نسحب كلمتنا «تشاؤم»... - يجب الوصل بين تفاؤل وتشاؤم. هذا هو التّفكير المركّب، إنّه الجمع بين مفاهيم يدفع الواحد منها الآخر.