لم كل هذا الإصرار الروسي ? الصيني، على حماية جرائم نظام الأسد؟. حتى وآلة القمع، شغالة، تحصد الأرواح وضمنهم صف طويل من الأطفال، كحطاب غاب.. ويكاد العزل من الشعب السوري، أن يكونوا، أشبه بشجرة صفصاف عالية وقد تحامتها ريح من الشرق مع ريح من الغرب دفعة واحدة، فيما ساطور الحطاب ينزل ضربا على كل غصن حي فيها، يتحرك. بل، لقد جاء فيتو موسكو وبكين، كي يشحذ النظام السوري ساطور جريمتة أكثر وينزل ضربا، بجنون من يسعى لاجتثات الغابة بليل، والضمير العالمي يتفرج في ما يشبه انتظار نهاية شريط القتل. لم هذا الإصرار الروسي ? الصيني، إذن، على حماية كل هذه الجريمة التي تصنف في خانة الجرائم ضد الإنسانية؟. إن السبب راجع إلى صراع نفوذ، جيو- ستراتيجي، بين قوى عالمية وازنة، يجعل موسكو وبكين، بمنطق صراع الجبابرة، لن تسلم بسرعة في منفذها الوحيد، الذي تبقى لها على البحر الأبيض المتوسط. وحين خرج الداهية كيسنجر، من وراء سنوات شيخوخته، كي يعلن أن العالم أمام خطر حرب عالمية ثالثة، فلأنه مدرك من موقعه كخبير استراتيجي وكواحد من كبار مهندسي خرائط المصالح الأمريكية في العالم، أن لحظة الصراع في تلك البقعة الواسعة من الشرق الأوسط، قد بلغت مرحلة جديدة من الحسم بين قوى عالمية وازنة. حتى وموسكو (عكس الصين) منخورة القوى سياسيا وأمنيا، ويحكمها منطق المافيا أكثر من منطق الدولة. وهذا أمر يدركه النظام السوري الحالي جيدا، كونه يمتلك تراكما في المكر السياسي لم يكن يتوفر مثلا في نظام القدافي. حتى ومأساة نظام الأسد الحقيقية، حتى لا نقول بلادته السياسية، هي في أنه نظام يصر على الإنغلاق. مما يحوله إلى نظام غير مندمج في الدورة الإقتصادية الكبرى للشرق الأوسط الجديد، على كافة المستويات الإنتاجية. بما فيها الإنتاج الرمزي السلوكي لدولة التعدد والحريات والديمقراطية. بالتالي، فإن النتيجة الكارثية على نظام الحزب الوحيد ذاك، الطائفي والإنغلاقي، أنه يمارس ليس فقط بلوكاجا سياسيا واقتصاديا داخليا، بل إنه عنصر تعطيل في دورة الإنتاج الإقتصادي الأكبر، ذات الملامح المتكاملة، في ما يسميه الخبير الآخر في الأمن القومي الأمريكي، على عهد الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر، البولوني الأصل، زبيغينو بريجينسكي، بالخريطة الجيو- ستراتيجية الأوارسية الجديدة، التي تعني الدمج والتلاحم والتكامل بين قارتي أروبا وآسيا. والنتيجة المنطقية، بالتالي، هي إلحاحية تغيير نظام الأسد من الداخل، بسبب مخاطر التدخل عسكريا من الخارج. لأن نتيجته المباشرة، هي تكرار التجربة العراقية على الحدود مع إسرائيل، مما سيخدم حسابات إيران كثيرا، وهذا ما لا يدخل، لا في حساب واشنطن ولا في حساب أروبا. بهذا المعنى، فإن كلام خبير سياسي أمريكي آخر، هو الباحث والعالم اللساني، الشهير، نعوم تشومسكي وزميله في كراسي البحث بجامعة ماساشوسيتس ببوسطن، جلبير الأشقر، يكتسب دلالة فارقة. حين أكدا في كتابهما المشترك «السلطان الخطير»، الذي كان موضوعه تيمة الإرهاب ومعناها بعد أحداث 11 شتنبر 2001 بنيويورك وواشنطن، أن الموقف الأمريكي من سوريا، كان دوما موقفا انتهازيا. مقدمين الدليل عن كيف رحبت واشنطن بالتدخل السوري في لبنان سنة 1976، لأن المهمة حينها كانت ذبح الفلسطينيين واليسار اللبناني المتحالف معهم بزعامة كمال جنبلاط، الذي ليست مخابرات الأسد ببعيدة عن عملية اغتياله. بسبب أن التحالف بين منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات واليسار اللبناني بقيادة الزعيم الدرزي الرفيع والمتخلق كمال جنبلاط، قد بدأ يقلب المعادلات ميدانيا في مواجهة الكتائب في لبنان، مما كان سيقوي من التيار التقدمي الإشتراكي ليس في لبنان فقط بل في كل الشرق الأوسط، وسيهدد جديا إسرائيل. وكيف ستعمل واشنطن بعد ذلك على طرد القوات السورية من ذات البلد سنة 2004، بعد تبدل الحساب الإستراتيجي الأمريكي، لأن دمشق اصطفت ميدانيا مع إيران وحزب الله وجزء من المقاومة العراقية بعد إسقاط صدام حسين واحتلال العراق سنة 2003. مؤكدين أن التعامل مع سوريا أشبه بالتعامل السابق مع صربيا، مستشهدين بما قاله كبير مساعدي بيل كلنتون، ستروب تالبوث، من أن السبب الرئيسي للحرب على كوسوفو وقصف صربيا، راجع إلى كونها المعقل الأخير في أروبا، الرافض للإندماج في نظام السوق. وخلصا إلى القول أن النظام السوري، بهذا المعنى، أشبه بضرس خبيث تجب معالجته. كيف ذلك؟. لا جواب حاسما عند تشومسكي والأشقر. الحقيقة، أن صعوبة الجواب، كامنة في تعقد الحساب الجيوستراتيجي الأوراسي، الذي سبق ورسم خرائطه، بريجنسكي في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى ? The Grand Chessboard» الصادر سنة 1997. لقد قسم تلك الخريطة إلى جهات أربع. في الشمال روسيا من جبال الأورال غربا، حتى مضيق بيرينغ المطل على الألاسكا الأمريكية شرقا. وهي مسافة ضخمة تضم كل سبيريا وجمهوريات الإتحاد السوفياتي السابق. وفي الجزء الشرقي من تلك الخريطة، الصين بنفوذها الهندو ? صيني الممتد حتى أندونيسيا وماليزيا. وفي الغرب منها كامل أروبا من إنجلترا حتى حدود تركيا، أي الدول المنضوية كلها اليوم في الإتحاد الأروبي. بينما في الجنوب، ما يطلق عليه الشرق الأوسط الكبير، الذي يبتدأ من أفغانستان وينتهي عند السعودية، ويضم أيضا تركيا، إيران، باكستان، العراق، سوريا، لبنان وإسرائيل. ويكفي تأمل طبيعة أنظمة دول هذا الجزء الجنوبي من هذه الخريطة الجيو ? ستراتيجية الكبرى، لنجد أن أغلبها مندرجة في منطق نظام السوق، بالمعنى الذي قصده كبير مساعدي الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، ستورب تالبوث، ما عدا إيران وسوريا. ويكفي أيضا، استعادة كيفية حمل عدد من الأنظمة السياسية هناك، على الإندماج في منطق نظام السوق، هذا، ليفهم المرء، المحلل القارئ، البعد الإستراتيجي للسياسة الأمريكية والأروبية، هناك، التي تنتظم ضمن خيار الحلف الأطلنتي، من قبيل الإشتغال بأساليب متعددة على الملف الأفغاني، منذ احتلاله من قبل السوفيات، وتجنيد رفاق بن لادن باسم الجهاد الديني المقدس لإخراج الشيوعيين من أرض إسلامية، والدور الذي لعبته المؤسسة العسكرية الباكساتنية التي انقلبت على المنهجية الديمقراطية في إسلام أباد، وأعدمت الزعيم التاريخي الإشتراكي الباكستاني المنتخب ديمقراطيا، ذو الفقار علي بوتو (نفس المصير ستلقاه ابنته بينازير بوتو في سياقات أخرى بذات الخلفية في الصراع السياسي الباكستاني). وصولا إلى احتلال كابول بعد أحداث 11 شتنبر 2001، وإسقاط طالبان، وإسقاط جماعة بن لادن، تلميذها السابق الذي اغتالته في عملية لا تزال ملتبسة وستظل لسنوات، وتثبيت نظام آخر مفروض أنه سيتعايش مع كل أطياف الأفغان في الغد القريب. ثم الطريقة الأخرى التي تم التعامل بها مع عراق صدام حسين، التي تختلف عن الطريقة الأفغانية، والدور الإيراني في ذلك، الذي حول اليوم بغداد إلى حديقة خلفية للمخابرات الإيرانية، التي لن تتورع في تقسيم العراق طائفيا. إن رهان القوى العالمية، على هذا الجزء الجنوبي من الخريطة الأوراسية، كما حددها بريجنسكي، المندرج في سياق التدافع بين هذه القوى العالمية الوازنة من حجم الصين والحلف الأطلنتي ثم في درجة أقل روسيا، راجع إلى أنها موقع استراتيجي ضمن خريطة أوراسية تضم 75 بالمئة من ساكنة العالم، أي ثلاثة أرباع البشرية، وهي بهذا المعنى سوق ضخمة هائلة للإستهلاك وللإنتاج. وأن حجم المتطلبات الخدماتية فيها هائل ويقدر ببلايين الدولارات. مثلما أنها تنتج ما يفوق 60 بالمئة من إجمالي الناتج القومي العالمي، أي أن ثلثي الثروة العالمية توجد في هذه الخريطة الشاسعة. وبها ثلاثة أرباع مصادر الطاقة بالعالم، وضمن هذه المصادر تحتل البلاد العربية (السعودية والعراق وقطر والكويت والإمارات) المراتب الأولى المتقدمة من حيث حجم احتياطي الطاقة بأراضيها على مستوى البترول والغاز. تليها إيران الطامحة لامتلاك مصدر قوة استراتيجي آخر هو الطاقة النووية السلمية والحربية، وعدد من الجمهوريات الإسلامية المستقلة من النظام السوفييتي السابق. مما يعكس القوة الإستراتيجية للجزء الجنوبي من تلك الخريطة الأوراسية التي حددها بريجنسكي. ومن هنا نستطيع إدراك حجم ما يمثله المنفذ الروسي والصيني على البحر الأبيض المتوسط، عبر البوابة السورية، وبدعم خلفي من إيران الخمينية. فهو هنا منفذ حاسم وحيوي لبترول وغاز القوقاز، المأمول أن يعبر في أراض أخرى بعيدة عن الإكراه التفاوضي مع تركيا القوية بتحالفها مع الحلف الأطلتني، والتي لها طموح تاريخي للعودة إلى لعب دورها الإستراتيجي كلاعب حاسم في المعابر بين أروبا وآسيا، وكلاعب يمتلك أوراقا قوية للتأثير على مستوى المياه ومصادرها وأيضا على مستوى الملف الكردي ثم أيضا على مستوى تصريف بترول وغاز القوقاز وبترول إيران باتجاه أروبا مباشرة دون العبور عبر مضيق هرمز أي مضيق الخليج العربي. أكثر من ذلك، فإن الحساب الروسي الصيني في ما يرتبط بسوريا وإيران، سيمنع عنها أي تقويض غربي (أمريكي وأروبي) لها، بصفتهما الجزئين الشمالي والشرقي من تلك الخريطة الأوراسية الشاسعة والحاسمة. ورهان موسكو هنا، وبكين أيضا، حتى وهما غير متفاهمين تماما كنظامين جارين، أو بصيغة أدق كفيلين متجاورين، قد يأتي يوم للتدافع والتواجه بينهما، رهانهما هو جعل دمشق نوعا من «تايوان الشرق»، أو أشبه أيضا بدور كوريا الجنوبية. أي أن تلعب ذات الدور الذي تلعبه تلك الدول المحسوبة على الحلف الأطلنتي في شرق الصين وروسيا (لكن، هل تايوان وكوريا الجنوبية، المتقدمتان جدا، هما سوريا، على مستوى الخدمات والدور الإقتصادي والنظام السياسي الديمقراطي؟. ذلك هو السؤال.). هذا كله، إنما يعكس وعيا استراتيجيا عن القادة الروس والصينيين، أن التفريط في سوريا وإيران، سيضعهما بين كماشتي نظام السوق القائم في أروبا والشرق الأوسط الكبير غربا، واليابان والهند وتايوان وكوريا الجنوبية شرقا. وبهذا المعنى يكتسب، ربما، كلام كيسنجر ملامح الرجحان والحجية. لكن، هل سينجح الحساب الروسي? الصيني ضمن صراع الجبابرة هذا، حتى وهو في خصومة مع رجل الشارع في سوريا وإيران؟ . أي، هل سينجح وهو يراهن على نظام سياسي بوليسي، منغلق، طائفي، مستبد وفاسد؟. بل أكثر من ذلك، هو نظام يفقد أية شرعية أخلاقية أمام الجرائم التي يرتكبها بسبب تكسير مواطني بلده لحاجز الخوف ونزولهم للموت من أجل الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية. لا أحد يعتقد في نجاح ذلك الحساب الروسي ? الصيني، وهنا التحدي الحقيقي المطروح على مسؤولي البلدين، الذين زار لأول مرة مسؤولان رفيعان من موسكودمشق هذا الأسبوع، والتقيا بشار الأسد (الذي كانت طريقة جلسته وطريقة ضمه لرجليه بشكل كاريكاتوري، أشبه بتلميذ خائب في امتحان أو من يحاول أن يستحلب طوق نجاة بتلهف، من خلال شكل شكل ضم الرجلين واليدين) وهما مدير المخابرات الروسية ووزير الخارجية.. والتحدي هنا، هو في محاولتهما أن يقنعا حاطب ليل مثل نظام الأسد، أن يترك فأس الضرب من يده، وأن يتصالح مع الشجرة وأغصانها.. لكن، هل هذا ممكن؟. يخشى في الحقيقة، أن يكون طبع الإستبداد قد غلب التطبع في دنيا الأسد. بدليل أنه منذ فيتو موسكو وبكين بمجلس الأمن، ضدا على المقترح العربي الذي تقدم به المغرب، والذي تم تقزيمه رغم كل شئ وأزيلت منه فقرات هامة في مقدمتها رحيل الأسد ومن معه، فقد حصدت آلة القتل في أسبوع واحد بهمجية غير مسبوقة، أكثر من 600 قتيل، ضمنهم أكثر من 70 طفلا. وتلك ورطة الروس والصينيين الحقيقية أمام شعوبهم، لأن كل قتيل يسقط في سوريا منذ ذلك الفيتو، يتحملون المسؤولية السياسية والأخلاقية فيه. مما يفتح الباب واسعة أمام البديل الآخر الجاهز عبر البوابة التركية، من خلال مسارب المناطق الآمنة الممنوع فيها الطيران والمخصصة للعمليات الإنسانية، لحماية العزل السوريين من بطش دبابات وطائرات الأسد. وما يقع من جريمة في حمص كمثال فقط، يقدم المبرر الكافي لذلك. مثلما أن منطق التاريخ، قد علمنا، كما كتب الشاعر السوري الكبير أدونيس في رسالته إلى بشار الأسد، أنه «مستحيل أن تسجن شعبا بكامله». وواضح أن الحل القادم، في أفق قد يطول، ليس أن يترك الحطاب فأسه القاتلة، بل أن يترك الغابة لترتاح أغصان الشجر، حتى تينع، حرة، مزهرة، نظرة بالحياة.