وصل إلى المغرب قادما من فرنسا، يوم 24 يناير 2012 مدحت بوريكات أحد قدماء نزلاء تازمامارت والنقطة الثابتة 3، وذلك للإدلاء بشهادته أمام قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالرباط حول مصير المختطف الحسين المانوزي.. الذي تعرض لاختطاف مدبر بعناية فائقة من داخل التراب التونسي، ولم يظهر له أي خبر منذ ذلك الحين الى أن تحدث بلاغ بوزارة الأنباء المغربية يوم 13 يوليوز 1975 عن حادث الفرار من المعتقل السري بالرباط (النقطة الثابتة الثالثة). وقد نتج عن هذا الفرار، حينذاك، حصار للعائلة من طرف فرق الأمن، الى أذيع خبر اعتقاله من جديد من طرف إحدى فرق الأمن بعد مطاردة عنيفة. والى الآن لازال مصير الحسين المانوزي مجهولا رغم المحاولات المتكررة التي ما فتئت عائلته تقوم بها لمعرفة مصيره بكل الوسائل القانونية وتجاه كل الجهات المسؤولة.. في هذا الحوار، يروي مدحت بوريكات تفاصيل لقائه مع الحسين المانوزي.. وظروف المعتقل والتخطيط للهروب.. والتصفيات التي تعرض لها المعتقلون والحراس على يد الجينرال الدليمي.. حين تم إرجاعكم إلى النقطة الثابتة 3، ما الذي استرعى انتباهك حينها؟ أول ما لاحظته أن الشلاط كان في وضع سيء جدا. عذبوه كثيرا وكسروا عظامه من شدة الضرب. كانوا يتناوبون على تعذيبه، ويصلون الليل بالنهار لإلحاق الأذى به.. وفي صباح يوم، كانت الحركة غير عادية في المعتقل، جاؤوا بالكراسي ووضعوا محولا كهربائيا ثم أشعلوا أضواءا كاشفة تنير الساحة. توجسنا من ذلك، وبدأنا نضرب أخماسا في أسداس. تساءلت بيني وبين نفسي: هل سيقدمون مسرحية أو عرضا معينا. كان الإعداد على أشده في الساحة التي ملأها الضيوف في العاشرة ليلا. وفي تلك الأثناء كان الشلاط يُعذب. ثم جاء الدليمي ومدير الأمن، وجنرالات وكولونيالات وعمداء شرطة وجلسوا على الكراسي، عندئذ جاء الحراس وفتحوا الزنزانة وحملوني إليهم معصب العينين، لكنني كنت مع ذلك أرى ما يجري. جلست فوق العتبة، وكان يستنطقني الحسين جميل. قال لي: «هل أنت بوريكات»، أجبته: «نعم»، وقال لي: «هل هربتم من المعتقل؟». قلت له: «نعم» وقال لي من أين مررتم، فأخبرته بكل شيء. ثم جاؤوا بالحارس رشيد الذي كان مرعوبا جدا، وصرخ في وجهي: «قل لهم الحقيقة»، وطبعا أخبرتهم بكل ما وقع، وكيف هاجم العسكريون الحراس وجردوهم من سلاحهم ثم كبلوهم وحشروهم في الزنازن وأغلقوا عليهم الأبواب. كان الحارس رشيد مكبلا هو الآخر، لأنهم ظنوا أن الحراس تواطأوا معنا على الهروب.. لقد عذبوا الشلاط كثيرا، وما زلت أذكر صراخه إلى الآن، كما عذبوا معتقلين آخرين طيلة الليل. وفي الصباح، أتى المسؤولون الأمنيين وتواصلت الحركة في الساحة، كما لاحظنا أن مهمة حراستنا أوكلت لرجال الدرك، لكن ما لم يكن يخطر على البال هو اعتقال والدتي وأختي اللتين حلا ضيفتين على المعتقل الذي كنا محبوسين داخله. غضب أخي علي كثيرا، واستنكر هذا الأمر وأصبح في حالة هياج. ولم نكد نستفيق من الصدمة حتى سمعنا صوت الرصاص. وعرفنا أنه جرى تعذيب الحارس مولاي علي طيلة الليل، ثم حملوه في ما بعد إلى المراحيض، وهناك أجلسوه في وضعية سجود ووجهوا إليه رصاصة في الجمجمة (الرأس). كنا نشاهد ذلك مرعوبين، لأنهم فتحوا لنا الزنازن عن عمد ليجعلونا نرى. كان الجميع مهددا بالقتل. قتلوا أكثر من واحد في الزنازنة التي كان فيها المانوزي.. هل كان المانوزي داخل الزنزانة؟ لا. كان هناك آخرون. سمعنا طلقات من مسدس الدليمي شخصياً. كان يطلق النار بشكل عشوائي داخل عدد من الزنازن، كان يأمر الحارس بفتح الزنزانة ثم يطلق النار على من بداخلها. لم نكن نعلم من هم القتلى. وكان مستمرا في طلب فتح أبواب الزنازن وإطلاق النار وهو في الطريق إلينا، وحين قدم نحو زنزانتي، طلب من الحارس فتح الباب، لكن حسني بنسليمان الذي كان يتمتع ببنية جسمانية كبيرة انقض عليه وشل حركته ليمنعه من متابعة عملية التصفية. لم يكن يفصلني عن الموت إلا خطوة واحدة، كان يكفي الدليمي أن يضغط على زناد المسدس ليختفي النور من أمامي.. كم قتل الدليمي ذلك اليوم؟ أطلق حوالي 30 رصاصة بمسدسات مختلفة. قتل الحارس رشيد والشلاط في ذلك الصباح. وكانوا قد قبضوا على الشلاط في سوق عكراش عند «مول الشفنج» (كان يتوفر على 500 فرنك). واستمر مسلسل القتل في اليوم الموالي. في النهار القتل، وفي الليل الدفن. كان الحراس (ما بين 5 و6) يحفرون حفرة كبيرة على طول قامتهم، وبعدها يتم رش الجير الحي في قاع الحفرة ودفن 5 أو ست جثث مستقدمة من الزنازن ثم رش الجير مرة ثانية والمازوت وطمر الكل تحت التراب وتغطية المكان بالنعناع. وهل وصلكم أي خبر عن الحسين المانوزي؟ لا خبر على المانوزي. رأيت اعبابو والشلاط وامزيرق، ولم أشاهد الحسين وعقا. ولربما تمت تصفية اعبابو في الجهة الأخرى من الفيللا. فقد تم نقله هناك صباحا، وقبلها جاء موح وبدأ يتحدث إلى العسكريين المعتقلين، فطلب منه اعبابو أن يقابل مسؤول ما. وفعلا تم نقله إليه بعد الموافقة. وهكذا فتح الحراس الباب المؤدي إلى الجهة الأخرى ثم أعادوه الى المراحيض، وأنا أيضاً وأقفلوا علينا. قال لي اعبابو حينذاك: «لقد تحملت المسؤولة كاملة ولربما سوف يطلقون سراحكم، أما نحن فسوف تتم تصفيتنا».. وبعد ساعة عادوا لنقل اعبابو، أما الآخرون فقد تمت تصفيتهم. وقد سأل أخي علي بوريكات أحد الحراس يسمى جعفر، وهو من نواحي أحفير، فأخبره أنه مات رحمه الله، وقال له إننا سوف ننقله الى بلدته لدفنه. وقد أسر لي موح أو حارس آخر، أن أول حارس قتل بعد حادث الهروب كان هو أول شخص صادفه الدليمي أمامه حين قدم إلى المعتقل ففتح النار في وجهه دون الحديث إليه. كان أصل ذلك الحارس من آسفي واشتغل في الجديدة، ولم يكن يصل إلينا، لأنه يرفض فتح الزنازن. وكثيراً ما كان يشتغل في الجهة الأخرى، لأن الحراس الآخرين كانوا كلهم يتحدثون بالأمازيغية التي لا يفهمها.. وماذا وقع بعد تلك المجزرة؟ بعد حوالي 5 أيام هدأت الأمور نسبيا، فأخرجونا للاستحمام ثم قالوا لنا إننا سوف نغادر، فقد استقر موح بالمعتقل رفقة إخوته، وكان رجال الدرك هم المكلفون بالحراسة، وكانوا يمنعون الآخرين من التواصل معنا مباشرة. فقد سمعنا أن الملك أعطى الأمر لابن سليمان، بعد حادث الهروب، ليتكلف بما تبقى من المعتقلين والمعتقل.. وهل قاموا فعلا بنقلكم؟ نعم.. قبل نقلنا، قضينا في النقطة الثابتة 3 ما بين 8 و12 يوما، ثم نقلونا نحن الثلاثة إلى ناحية سيدي بو القنادل قرب ضيعة الجينرال المذبوح التي سلموها للجينرال مولاي حفيظ العلوي. عرفت بأنها ضيعة المذبوح بالرغم من العصابة الموضوعة على عيني. فقد سمعت القطار، كما أنني أعرف جيدا طريق القنيطرة. كانت الضيعة تضم 5 هكتارات من أشجار الليمون والأفوكا. وهناك تم استنطاق بايازيد وعلي من قبل مولاي حفيظ والدليمي وبنسليمان حول الهروب، وخلال نقلي طلبت من أحد الحراس ما يمكنني أن أبلل به ريقي، فقال لي انتظر سأحضر لك كوكاكولا وأتاي، وبعد حوالي 20 دقيقة من الانتظار ناولي الماء. ثم بعد ذلك، نقلونا إلى معتقل آخر بعدما عصبوا أعيننا، أدخلونا، أنا وعلى وبايازيد، ووضعونا في قيادة الدرك السويسي، وقد وضعوا الوالدة وأختي بالطابق الأول، وقد أفرغوا ثلاث مكاتب ليحشرونا فيها. هناك تم تعذيبنا بشكل كبير، خلال الليل يتم تكبيل أيادينا وأرجلنا وننام على وجوههنا، قضينا هناك 15 يوما، وفي ما بعد نقلونا إلى مكان آخر قرب «واحد الكانتينا». كانت والدتي وأختي في غرفة، ونحن في غرفة أخرى، وكان الدركيون يتعاملون معنا بشكل جيد، كونهم كانوا حديثي التخرج. وبعد أيام، تم نقل أختي لمكان آخر، بعدما تقدمت بشكاية في حق حارس كان يتعامل معها بدون احترام ويعنفها لفظيا وجسديا. وقد حدث أن تحدثنا إلى الوالدة بعدما غادر أحد الحراس إلى المقهى، حيث تركها حارس آخر تتحدث إليها بعد رفع ستار يفصل بيننا وبينها. وهناك قضينا حوالي 6 أشهر. لم يزركم في ذلك المعتقل أي مسؤول كبير؟ لا. في أحد الأيام أتت سيارة أمن (فاركونيت). وصل صوتها إلينا ولم نر أي شيء، ثم نقلونا إلى القيادة العامة للدرك (القيادة القديمة) أدخلونا إلى زنزانة كبيرة عبارة عن قاعة ليس فيها أية نافذة وتتوفر على كاميرات ومراحيض، كما أن الإنارة متواصلة، وقدموا لنا أفرشة عالية المستوى وأسره وثيرة وألحفة بيضاء وملابس جديدة وطنجرة ماء تستوعب (100 لتر). كما وفروا لنا سخانا لغلي الماء. صرنا نعيش غير معصوبي العين وأعطونا 300 فرنك شهريا نحن الثلاثة كي نقتني مانوده، كما منحونا السجائر. قضينا هناك سنوات، يحرسنا أربع دركيين على مدار الساعة. كم قضيتم من سنة هناك بالتحديد؟ ربما أكثر من 5 سنوات، لأننا غادرناه سنة 1981 إلى تازمامارت (أتذكر أننا كنا في تازمامارت حينما قدم الرئيس الفرنسي ميتران إلى المغرب). طوال هذه السنوات لم تسمعوا أي شيء عن المانوزي، ولم تسألوا عن مصيره؟ كنا مازلنا في القيادة العامة للدرك، حين جاءنا الخبر اليقين على لسان فايز محمد، وهو دركي (كان من المتخرجين الجدد)، وكان يرافق الحارس الذي يقدم لنا الأكل، ولا يحدث إلينا أبدا. قضى تقريبا حوالي أسبوع في الحراسة، وفي أحد الأيام أخرجوا بايزيد وعلي وأنا تأخرت في المغادرة، وأثناء ذلك دخل وقال لي: «هل تعرف المانوزي؟ و هل تعرفه بشكل جيد؟». أجبته: «أعرفه في السجن». قال لي: «هل شاركتم معه في الجريمة التي اقترفها؟». أجبته: «لم نشارك قط في أي جريمة، ولا أعلم عما تتحدث». فرد علي: «اخرج للفسحة... اخرج شم الهوا»... وبعدما غاب يومين، جاءني مرة أخرى، وقال لي: « هل تعرف المانوزي؟» قلت له: «نعم، كان رفقتنا بالمعتقل». فأخبرني أنه يعرف المانوزي لأنه كان من بين الدركيين الذين أوكلت لهم حراسة المعتقل بعد حادث الهروب. فسألته: «أين المانوزي؟» نظر إلي وقال لي: «مات الله يرحمو.. عذبوه بشكل كبير». وأضاف إن «المانوزي دفن في المكان الذي كنتم تتواجدون به في أحد المكاتب. فقد عذب حتى الموت». وماذا أيضا؟ لم تسأله عن التفاصيل؟ لا. بعد الهروب حكى لي بعض الحراس الذين شاركوا في المطاردة أن الحسين المانوزي اعتقل بعدما تم وضع الحواجز في كل مكان، وذلك لأن الملك قرر الاستقررار في ضيعة شقيقه مولاي عبد الله في عين عودة، وقال إنه لن يغادر المكان إلا بعد القبض على الجميع. مكث هناك ما يقارب 20 يوما أو شهرا. لم تتوصل بأي معلومة حول طريقة اعتقاله وتصفيته؟ كان شقيقي علي عاى علاقة جيدة مع الدركي فايز، الذي كان حديث الزواج وكان علي يتحدث إلى فايز عن بعض التفاصيل في الحياة الزوجي لخبرته، كونه متزوج من فرنسية، حيث قال له إن المانوزي توفي ونقل إلى PF3، ليس الدرك هم من ينقلون المعتقل إلى PF3 ، بل الحارس موح وإخوته. كما أخبره أنه هو من نزع الأصفاد عن عقا حين نقلوه إلى خيمة الملك في عين عودة. أدخله الدليمي إلى الحسن الثاني الذي تحدث إليه.. وما إن خرج عقا من الخيمة وكان الدركي يهم بوضع الاصفاد في يده، حتى قام الدليمي بإطلاق رصاصتين على رأسه وقال لهم: «هزوه من هنا».. والمانوزي، لم يخبركم الدركي عن من قام بتصفيته؟ تمت تصفيته قبل عقا وبرصاصة في الرأس. استقدموا عقا من الغابة بعد عملية المسح التي أجروها ونقلوه رأسا إلى الملك، ولم يقل لي الدرك إلى أين نقل عقا للدفن. هل نقل عقا إلى الملك كان يعني أن الملك بدأ يشك في الدليمي؟ لا أعتقد.. قبل ذلك كان والدي يشتغل مع الملك محمد الخامس، وقد حمل له تقريرا أن أوفقير كان يعد لشيء ما وأرفق تقريره بقائمة شهود. ماذا فعل محمد الخامس؟ دعا كل أولئك الضباط، ومن بينهم أوفقير، وأرسل رفقتهم قاضي إلى مكة أو المدينة ليقسموا بالله بأنهم لا يعدون لأي انقلاب..