بيني وبين محمد أكثر من رابط و صلة، وهي صلات وروابط تجعل حديثي عنه ممتنعا ابتداء ومجروحا استئنافا، فهو ممتنع ابتداء لأنه حديث عن صديق، والحديث عن صديق هو بالضرورة حديث عن الصداقة، ومن أصعب الأشياء الحديث عن الصداقة، فما الصداقة؟ سؤال قديم شغل تاريخ الفكر كله من أرسطو إلى دريدا، ما الصداقة؟ هذا السر، هذه الخيمياء التي تجمع بين عالمين لا شيء يؤهلهما ابتداء للتلاقي، هذا الرابط الغريب الذي يجمع بين يتيمين من يتامى الله في لحظة عبور ما. وما الصديق؟ هذا الكائن المفارق، هذا الغريب القريب، هذا الذي قال عنه دولوز يوما: Je me m?fie de lui comme de la peste. هذا الصفي الذي تدفعني غريزة ما للائتلاف معه على ما بيننا من اختلاف، الصديق هذا الذي لا أستطيع أن أتعقله، بل أقصى ما أستطيعه هو أن أحيل عليه استعارة، إذ الصديق لا يقال عبارة بل إشارة، ولعله لهذا كان إدراكه لا يتأتى إلا تلميحا، لهذا فإن من يقول الصديق هو الفن، كما في أغنية: Voir un ami pleurer لبريل، أو أغنية براسنس: Les copains d?abord ولكن ليس أبدا العقل، على أهمية ما قاله كانط أو أرسطو عن الصديق تعقلا. ثم إن شهادتي عن محمد مجروحة استئنافا لأنه هو بعينه وليس أي صديق، محمد هذا الذي عرفته قبل أن أعرفه، وقرأت له تلميذا، قبل أن ألاقيه ويصفو الود بيننا ونصير أصدقاء، ندامى وقرينين على فارق السن الذي بيننا، حتى صار الناس من زملائنا في العمل _إذ كان رئيسي في العمل لمدة_ يشيرون إلينا بالبنان، فيقولون الشاعر وصاحبه أو تابعه الغاوي، إذ الشعراء يتبعهم الغاوون، وصرنا منعوتين عندهم، قائلين تصاحبا على السكر والشعر والزندقة، كانوا اثنين محمد ويسين، ثم صاروا ثلاثة، ولعلهم أربعة بوجمعة أو خمسة الملياني، وسادسهم ربهم، رجما بالغيب، «قل ربي أعلم بعدتهم». ولأن شهادتي هي على ما ذكرت في الجرح والامتناع تقدم فإني لن أقوم ولن أحكم من هو محمد، بل الأجدى أن أصف وأرسم. ولأن محمدا ثانيا لا يحب اللغو الكثير أو بلغته لا يحب «المهارز»، فإني أصوغ قولي في حروف وشذرات علي أستطيع بالقليل أن أترجم ما أوده وهو كثير. الألف: محمد شاعر، أعظم بها من صفة، عاشق للشعر كلف به، بل هو قد بلغ به حب الشعر أنه لم يكتب فيما كتب إلا الشعر أو عن الشعر. والشعر عند محمد أمر خطير، إما أن يقوم بشرائطه أو لا يقوم أصلا. فللشعر هيبة، وليس لأي متخرس أن يلوي لسانه به كما اتفق. ولهذا ربما، وإمعانا في هذا الحب، ألزم نفسه لزوما عجيبا منذ فترة، وهو ألا يكتب نثرا إلا بإيقاع الشعر، وليس هذا استعراضا لبراعة ما، كما قد يفهم، بل هو عندي جواب عملي على دعاة تحويل الشعر إلى قل ما شئت، جواب عملي على من يدعو اليوم، إما عجزا أو جهلا، إلى إلحاق الشعر بالنثر ومسح الفروق بينهما.. وهو بذلك يذكرني بقول جميل لشاعر كبير، جاء جوابا على أحد المتشاعرين ممن قدم له نفسه بزهو بالغ قائلا: «أنا شاعر أكتب قصيدة النثر»، فما كان من شاعرنا الكبير إلا أن أجاب «المتشاعرَ» أمر حسن أن تكتب قصيدة النثر، ولكن متى تنوي كتابة قصيدة الشعر؟». الباء: محمد يحب محل الانفعال الأنثوي، غير أنه ليس حبا من جنس من يحب معه الطيب والصلاة، بل هو حب خالص، حب نظري لا يتعلق بأي محل انفعالي مخصوص، وكأن حبه للأنوثة أسمى من أن يختزل في محل انفعالي واحد. الجيم: محمد يحب الخمر، دون الماء الذي هو عنده كما عند جرير شراب الحمير. الخمر هذا السر الآخر، هذه الغواية الشيطانية في الدنيا والوعد الإلهي في الآخرة، هذا البهاء الأقصى. ومن يحب الخمر لا يمكن أن يكون شخصا سيء الطوية أبدا. غير أن محمدا لا يحب من الخمر النبيذ، رغم صلة الاشتقاق في النسب (عنيبة) ورغم صلة اللون في اللقب (الحمري)، بل هو يفضل جعته الشقراء التي حف كأسها الحبب، فهي فضة ذهب. والغريب أن محمدا في الخمر لا يثمل أبدا، وهذا ما عاينته وحيرني مرارا. فالرجل لا يثمل، أقصى ما قد يحصل هو أن ينتشي، وكأني به لا يشرب ليسكر، بل ليصحو من خمرة أخرى غيرها كما قال شاعر قبله. الدال: محمد لا يحب العقار، ليس لأنه كتب نصا عن هذا في السابق جاء منه، بل أيضا لأنه لم يملك مسكنا، فلم تشفع سنوات العمل التي تربو على جيل ونصف لهذا الرجل أن يشتري دارا، بل حتى الفيلا الوظيفية التي كان يقطنها هرب منها بعد حلول التقاعد كمن يهرب من مكروه، وتركها خالية تأكلها السنون، وما إن توسطت لأحدهم فيها حتى أعطاني المفاتيح، قائلا، أسيدي ها السوارت فكيتيني، والحديث هنا هو عن فيلا بحديقة وليس عن شيء مما قد يفضل عن الحاج؛ بل إن الرجل قد بلغ به كرهه للعقار أن اقترح على حرمه الكريم أن يشتريا «كرافانا» بعد التقاعد، بدعوى أن لا حاجة لمنزل، وما أخال السيدة الكريمة خديجة إلا أن صاحت أي قدر هذا الذي يبتليها برجل بلغ به جنونه أن يختار كارافانا للإقامة في الهزيع الآخر من العمر بعد أن قطن الفيلات؟ على أن كون الرجل لا يحب العقار في نظري له مدلول أعمق، إذ أن هذا السلوك عندي يحمل تصورا عن الحياة والحرية، فمن يحب الحياة لا يحب قبورها، أو ليس العقار قبر الحياة؟ ومن ينظر إلى العالم من نافذة الشعر الفسيحة، لا يمكن أن يحسبه بلغة الأجور وصكوك المحافظات العقارية، فماذا عساني أن أملك أو أحفظ أنا الذي لا أملك حتى نفسي؟ أنا المملوك أصلا، أنا العابر في الزمن العابر الذي ليس لي منه سوى حقي في أن أقول كلمة وأمر كالتماعة في ليل الوجود الصامت راضيا مبتسما كأي عابر سبيل. الذال: محمد لا يحب السلطة، بل يحب حريته، لهذا فقد اشتهر عند من يعرفه بكونه «راسو قاسح»، حتى صار أبناؤه لمعاتبته على ذلك. وهو في سبيل هذه الحرية وبسبب من «قصوحية الراس» هذه، أبى أن يتسلق المناصب في الثقافة أو في السياسة، حتى في الزمن الذي كان فيه لهذين الأمرين قيمة وخطر ذات سبعينيات. بل بلغ عنده هذا العناد و»قصوحية الراس» الغريبين أن رفض طيلة حياته حتى أن يضع توقيع ناشر على أحد دواوينه، فهو لم ينشر إلا على نفقته، فما يرضى بأن يتسيد عليه أحد، حتى صرت أتفكه عليه والأصدقاء بقرابته الممكنة بين أصله الحمري وبين آل الأحمر في اليمن اللذين بلغ من عنادهم للسلطة أن شووا رئيسهم وضربوه بالنعال، مستدلا له في ذلك على بعض ما جاء في الأثر من كون أصل سكان بادية حمر من اليمن، وبأنهم كانوا قبائل تحيى على الإغارة والبطالة في سفوح بادية. الهاء: ولأن محمد يحب حريته ويحب الحياة فهو لا يحب أحاديث الموت ولا يحب أحاديث الموتى، وكأني به يريد أن يقول إن الموت ليست شيئا حتى نتحدث عنه، فما يهمني هو ذراتي وهي تحيى، أما حين تنحل، فلها أن تصير ما تريد، ترابا أو خرابا أو نبتة عليق تتفصد بين شقوق حجرة أو جدار؛ تهمني حياتي حين تكون معي، وأما بعد، حين تبلغ البرودة مني مبلغها، فليس شأني، وهذا عندي يجسد بأبهى ما يكون روح جدنا الأول نحن عشاق الحياة، ديموقريطس الساخر المبتسم، ضدا على خصمنا الآخر هيراقليطس الحزين المعتم. أ محمد يا صديقي يا سمي النبي، يا شمما في الوريد يا نخوة في الصحراء يا نخلة تعاند عطش الجذور بكبرياء في الجريد سنكون يوما يا صاحبي ما كناه دوما.... سنكون يوما ما نريد.