ليست سيئةً نظريّة »الفن للفن«، التي لحقها الكثير من الحيف وسوء الفهم النافع، إذ بفضله تمّ استبعاد كلّ شبهة اتفاق مع نظرية »الفن للمجتمع« تنظيراً وتأليفاً. ثمة شحّة تأويل وفقر دلالة في صياغة »الفن للمجتمع« الأدبية. قولٌ مباشر لا يمت بعميق صلة إلى الأدب، يفضح أحادية ثقافة مُنظِّريه. بل ويُهين الشعب، الجهة التي يتوجَّه إليها، لأنه يفترض سطحية عقله التي تتجاوب مع المباشر، الكاره للتأويل والاستنتاج. أدب الواقعية الاشتراكية، وكأن الأدب الذاتي ليس اجتماعياً. وهل يوجد أدب اجتماعي، وآخر غير اجتماعي؟ يتشكّل العالم من فنون عدّة، واحدة منها الأدب، هناك فنّ إدارة المرأة، فنّ إدارة الشهرة، فنّ الاستقامة وفن التحايل. باختصار، فنّ إدارة الحياة هو جامع الفنون، لأنه الفنّ الإجمالي، لذا يقول أوسكار وايلد: »الحياة تُحاكي الفنّ أكثر مما يُحاكي الفنّ الحياة«. يقول تزفيتان تودوروف في كتابه »الأدب في خطر« (دار توبقال، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي): »لأنّ موضوع الأدب هو الوضع الإنساني نفسه، فالذي يقرأ الأدب ويفهمه سيصير لا متخصِّصاً في التحليل الأدبيّ، بل عارفاً بالكائن البشري«. فأيّ مدخل إلى فهم أشكال السلوك والأهواء البشرية أفضل من الاستغراق في أعمال الكتّاب العظام الذين كابدوا هذه المهمّة منذ ألوف السنين؟ أيّ عون أثمن يمكن أن يجده الطالب والعامل، والمشتغل بالعلاج النفسي، أو المؤرّخ، أو عالم الاجتماع؟ أن يكون الأساتذة هم شكسبير وسوفوكليس، دوستوفسكي وبروست؟ إذاً، التعرُّف إلى العالم من طريق الأدب مشروط بالفهم ولا تفترض عمقه للأسف نظرية »الفنّ للمجتمع«. فهو يتطلّب جدالاً مع النصوص، بخلاف ما تريده الأيديولوجيا وهو القبول التّام، والرضوخ دون شغب أو إثارة قلاقل في النظام المعرفي. هناك مشكلة أخرى، وهي أن إنتاجها، هو أدب الأيديولوجيا، وليس أيديولوجيا الأدب. تُقرأ التضحية في رواية »الأم« لمكسيم غوركي عاطفيةً ثانوية، نتيجة ردّ فعل مباشر، ولا تُقرأ أساسية، غايتها الديمومة وتكوين علاقات متكافئة بين الفرد والمجتمع، أساسها المنفعة، الأمر الذي يقتضي وجود نظام المصالح في التضحية المرفوض بشدّة من نظرية »الأدب للمجتمع«. لا مصلحة غير مصلحة الأيديولوجيا. الأدب في خدمة النظام الشمولي. يُخشى على الحقيقة من الأيديولوجيا، تلك التي استبعدها بودلير من مقولته، واختلف معه تودوروف تأويلاً: »الشعر، ليس موضوعه الحقيقة، لا موضوع له إلاّ ذاته. صيغ البرهنة على الحقيقة مغايرة، ولها موضع آخر. لا صلة للحقيقة بالأغنيات«. ويتابع تودوروف: »إن عمل الفنّان هو نوع معرفة العالم... يظل بودلير وفيّاً لكانط حين يكتب »الخيال سلطان الحقّ، الخيال أكثر الملكات علميةً، لأنه وحده يُدرك التماثُل الكونيّ«... ولهذا أيضاً يطالب بودلير الرسّامين والشعراء المعاصرين له أن يكونوا »حديثين«، وأن يُظهروا شعريتنا »في ربطات عنقنا وأحذيتنا الُمبَرنَقة«...«. يعي بودلير مصيبة الشعر الذي تحفّزه الأيديولوجيا والمستمد وجوده من كينونتها، مثلما يعي أن الفيزياء تُبرهن الحقائق العلمية، والشعر يشير إليها، والبرهنة على الحقائق شعراً، تكمن في الإشارة وليس في الإثبات، بحسب دولوز في كتابه »بروست والإشارات«، ما دفع تودوروف إلى تدارك خلافه مع بودلير، معتبراً الشاعر غير متناقض مع نفسه: »إذا كانت مهمّة الشعراء حقاً هي أن يكشفوا للناس عن قوانين العالم السرّية، فلن يعود بالإمكان القول إن لا صلة للحقيقة بالأغنيات... لكنّ هذه الحقيقة ليست من طبيعة الحقيقة ذاتها التي يطمح إليها العلم. بودلير يفكّر في إحدى هاتَين الحقيقتَين حين يتبنّاها، وفي الأخرى حين يرفضها«. وأبعد من هذا: »الفنّ هو الحقيقة ذاتها«. يخوض تودوروف عميقاً في فنّ الشعر بخلاف الفنون الأخرى؛ القصة، الرواية والمسرح، ليبرهن جدوى الأدب في الحياة، مستفيداً من قابلية الشعر احتواء الفلسفة، والتعبير بعبارات موجزة تتماشى وباطنيته. يُضاف إلى ذلك تاريخ الفلاسفة الذين اشتغلوا شعراً وعلى الشعر: نيتشه، هولدرلين، وهايدغر الذي يقول عن الشاعر ريلكه: »أعطى للفلسفة عمقاً أكثر من الفلاسفة أنفسهم«. فالحقيقة والمعرفة، مادتا فهم العالم يجولان بكينونة الشعر. يستشهد المؤلف بالفيلسوف، والمؤرّخ، والبلاغي الفذّ من نابولي، جامبستا فيكو، الذي يميّز بين اللغة العقلية واللغة الشعرية: »من المستحيل على الإنسان أن يكون في الوقت ذاته شاعراً وميتافزيقياً رفيعاً؛ يعترض على ذلك العقل الشعري؛ وفعلاً، بينما تفصل الميتافزيقا الفكر عن الحواس، فالمَلَكة الشعرية على العكس تريد غمره فيها؛ وبينما تتسامى الميتافزيقيا إلى الأفكار الكليّة، تتمسّك المَلَكة الشعرية بالظواهر الخاصّة«. يؤكد كتاب »الأدب في خطر«، على أن الإبداع محوٌ للتلقائية والإلهام من نظام الكتابة، المرتبط عضوياً بالوعي. يُناقش تودوروف آراء كثيرة ويسوق حججَ برهنةٍ وثوقيّة أو ضدّية، تنمّ عن طريقة كتابة متميّزة تُعنى بالاقتباسات، مشاركة المتن الدلالة. تبوح الاقتباسات بذاكرة مؤلف واعية يقظة، تنسِّقُ إرثَ قراءة نهماً ودقيقاً للغاية، يأتي هذا كلّه من طريق الممارسة والتربية والعيش بين الكتب، إذ يبدأ الكتاب بعبارة: »مهما أوغلت في الصعود بذكرياتي، أراني تحيط بي الكتب. كان والداي يمارسان مهنة قيّم مكتبة، وفي البيت كثرة مفرطة من الكتب. كانا يضعان باستمرار تصاميم رفوف جديدة لاستيعابها؛ وأثناء ذلك تتراكم الكتب في الغرف والممرات، مشكّلة أكداساً هشَّة عليَّ أن أحبو وسطها. تعلَّمتُ سريعاً الكتابة، وأخذتُ بالتهام القصص الكلاسيكية المعدّة للأطفال، ألف ليلة وليلة«. ولادة بين الكتب، ما حدا بالكاتب عبد الفتاح كيليطو أن يتمنّى قولَ هذه العبارة. ولادة ونشأة تشبهان تماماً حياة بورخيس: »ولدتُ في مكتبة كبيرة« متقاسماً مع تودوروف تربية الكتابة والولادة بين الكتب. عملَ بورخيس أمين مكتبة، وقرأ بفضل مكتبة والده الكتب المحرّمة. نكتشف في عبارة: »تعلّمت سريعاً القراءة... اليوم، قرأتُ على ركبتَي جدّي كتاباً من 223 صفحة، في ساعة ونصف«، أنّ النشأة والممارسة، لا الإلهام، هما قاعدتا التأليف، الذي سوف يصبح مهنة، لا مفرّ من حضور القدر والعزم في وجودها. عندئذ، يذهب المبدع إلى مصيره كما يقول كازانتزاكي: »حاملُ قلم لا شفاء منه«. فلا غرو أن يربط تودوروف حياته بالكتب: »لو ساءلتُ نفسي اليوم لماذا أحبّ الأدب، فالجواب الذي يتبادر إلى ذهني هو: لأنه يُعينني على أن أحيا«. قريباً من منزلة الكتب، بمعنى القراءة في حياة بورخيس: »فليفتخر الكتّاب بما كتبوا، ولأفتخر أنا بما قرأت«. تواضع تأليف متعالٍ، كشموخ القراءة والعيش بين الكتب. هل تأخذ القراءة شكلاً؟ شكل القراءة في زمن الطفولة يختلف عن شكلها في زمن الشباب والكهولة. وهل يختلف شكل قراءة الشعر عن الرواية والمسرح؟ قرأ تودوروف في طفولته كتاب »ألف ليلة وليلة« مشاركاً بورخيس ولع الاهتمام بهذا الكتاب المدوّر، غير أن اهتمام بورخيس به وربما تودوررف، كان اشتغالاً في توليد مخيّلة سرديّة تجلّت في الكثير من قصصه. أليست الحكاية شكلاً؟ يقول تودوروف: »الفنّ يقوم بتأويل العالم، ويمنح الشكل لما لا شكل له... لم يخترع الرسّام تيرنر ضباب لندن لكنه كان أول من أدركه حسّياً في ذاته وأظهره في لوحاته«. يخسر الأدب الجمال، عندما يقتصر التأويل على المضمون حصرياً. يحضر كلّ من الشكل والمضمون في النصوص، لكن بدرجة متفاوتة. اختلاف مستوى حضورهما في النصّ، يجعل التأويل ذا طاقه هائلة تُنتج الفارق بين ما يُسمَّى أدب النخبة والأدب الجماهيري. الحياة »فاقدة للشكل بصورة رهيبة«، يعتدُّ بهذا القول، حينما يُشار إلى فداحة إهدار الشكل في الحياة، وبالتالي الحاجة إلى تعويضه. يُعوِّض الأدب ويساهم في الخسارة في الآن ذاته. تعويض خسارة الأشكال، ثم المساهمة مع الحياة في إهدارها، لأن في الأدب يكمن الحنين الذي هو تعويض خسارة. لا يشتدّ الحنين إلاّ بظهوره كفقدان. ترتبط الأشياء مع بعضها البعض شكلياً، ولاحقاً من طريق المضمون، بسبب الوعي التراكمي. كما يرتبط الإنسان بالأشياء من طريق الشكل أيضاً. منذ البدء كان الشكل ينوب عن المعنى: كانت الخطيئة الأولى شكلاً؛ يدٌ تمتدّ إلى شجرة المعرفة، وعُرفت كجناية من طريق الشكل، وكانت عقوبتها شكلاً أولاً تجلّى في طرد الإنسان من الجنّة، أليس النفي شكلاً؟ ولاحقاً صارت العقوبة مضموناً عندما خضعت للتأويل. محاججة الشكل قطعيّة. لذا اقتضت عقوبة قطعيّة وهي الإقصاء. بينما محاججة المعرفة التي مثَّلها إبليس مرنة، قابلة للتأويل، تحتمل الرفض والقبول، المكأفاة والعقوبة. يعلن الأدب امتيازه عند المواءمة بين الشكل والمضمون، طرداً أم إيواء: »صحيح أنّ لوحات كاندينسكي التجريدية تحافظ على صلة بالعالم، لأن الأشكال في اللوحة تشير إلى مقولات الذهن؛ كذلك تهدف مربّعات، ودوائر، وصلبان ماليفتش، بعد إزاحة المظاهر الخادعة المعروضة للبصر، إلى كشف النظام الكوني الحقيقي. غير أنه مع ذلك فإن العالم الظاهراتي، المتبدّي لأعين الجميع، لم يعد في الاعتبار«. في الشعر يطمح المستقبليون إلى تخليص اللغة من صلتها بالواقع... ويكتب ليفتتس »شعرنا، لا يجعل نفسه إطلاقاً على أي صلة بالعالم«. إلا أن تودوروف يتجه محورياً نحو المواءمة: »ثمة بعد معرفيّ لكل عمل فنّي«، بمعنى حضور المعرفة في الجمال وفي المضمون. وهكذا، تنال نظرية »الفنّ للفنّ« حصّتها من الفهم والاعتبار. يقول ديفيد إنغليز: »إن فهم الفن طريقة ممتازة لفهم المجتمع«. يُحيل كتاب »الأدب في خطر« على الشكل والمضمون سواسية.العنوان يتضمَّن الشكل. والمقصود منه أنّ شكل الأدب في خطر، كذلك مضمونه، إحالة على شكل العقوبة الأولى المتقدّم على مضمونها. الخطر شكل من أشكال الخوف. أنا هنا أربط كل شيء في الحياة بوثاق الأدب، متصوّراً العالم كتاباً، والتاريخ يجري بين دفتَيه. لا عالم لي خارج الكتب، مخالفاً ثلاثة أرباع البشرية ومتمنيّاً رأي تودوروف في الآن ذاته: »إنّ الاعتراف بمزايا الأدب، لا يُجبرنا على الاعتقاد بأنّ »الحياة الحقيقية، هي الأدب«، أو أنّ »كلّ شيء يوجد في العالم ليفضي إلى كتاب« عقيدة تنبذ من »الحياة الحقيقية« ثلاثة أرباع البشرية«.