قد يكون هناك إجماع على أن السنة التي نودعها قد تميزت بشكل واضح بالانتفاضة التي عمت أغلب الأقطار العربية من أجل الكرامة و محاربة الفساد و الاستبداد ، و التي ما زالت تداعياتها متواصلة ، طارحة أسئلة حول مآليتها ، خاصة في ظل إفرازاتها الانتخابية التي اتسمت عموما بفوز الحركات الدينية . لكن السنة التي نودعها شهدت أحداثا أخرى قد تؤثر على مستقبل العالم سلبا أو إيجابا . فقد شهدت اليابان كارثة انفجار مفاعل فوكيشما . و تمكنت الولاياتالمتحدة من اغتيال زعيم القاعدة أسامة بن لادن . و ما زالت أوربا و معها العالم يواجه شبح الأزمة الاقتصادية التي عصفت ببعض الدول . وهي الأحداث التي سنعالجها قبل الرجوع إلى ما سمي بالربيع العربي. 1 -كارثة فوكيشما وهي التي وقعت في 11 مارس في اليابان. و قد جاءت كمحصلة لزلزال مدمر و تسونامي ، أصابا تجهيزات المفاعل النووي بأضرار بالغة . و قد كشفت التحقيقات أن حائط الوقاية لم يكن كافيا لمقاومة علو الماء الذي تجاوز 17 مترا . في نفس الوقت ، عدم كفاية وسائل منع انفجار الهيدروجين في مكونات المفاعل . من المؤكد أنه من الصعب في مثل هذه الكوارث إحصاء كل الخسائر المادية و الصحية و البيئية . لكن من الواضح أن هذه الكارثة قد خلفت قلقا كبيرا وسط الرأي العام . و أعادت النقاش من جديد حول الطاقة النووية و نجاعة الإجراءات الواقية من مخاطرها . فقد انتقدت الأجهزة اليابانية المكلفة بالأمن النووي, سواء تعلق الأمر بالشركة المدبرة للمفاعل أو السلطات الحكومية المكلفة بضبط الطاقة النووية . وعلى امتداد العالم عم شعور بالخوف و لم تفض الإجراءات الرامية إلى مراقبة التجهيزات النووية إلى درإ هذا الشعور . لكن مع ذلك ، فإن ردود فعل الدول كان متباينا . فقد قاد ت هذه الكارثة ألمانيا إلى الإعلان عن التخلي عن الطاقة النووية في أفق 2022 , و اتخذ هذا القرار بفعل الصدمة الناجمة عن كالكارثة اليابانية وكذلك قوة التيار الايكولوجي في البلاد. و السؤال المطروح يكمن في معرفة مدى قدرة ألمانيا على إنتاج مصادر بديلة لسد العجز, خاصة في مجال إنتاج الكهرباء, حيث توفر الطاقة النووية 25% من الكهرباء بأثمان مناسبة . ومن المؤكد أن هذا القرار سيدفع ألمانيا إلى مضاعفة استثماراتها في مجال الطاقات المتجددة . في فرنسا استمر النقاش ، و رفضت الحكومة الحالية فكرة التخلي عن الطاقة النووية لأن ذلك سيؤدي إلى إضعاف الصناعة الفرنسية من جهة ، و إلى رفع نسبة البطالة في حالة تفكيك المفاعلات النووية ، و إلى رفع أسعار الكهرباء. و في مواجهة اللوبي النووي ، يرفض الخضر مثل هذه الإدعاءات, معتبرين أن الاستثمار في الاقتصاد الأخضر من شأنه أن يعوض خسائر التخلي عن الصناعة النووية. و يبقى المرشح الاشتراكي موزعا بين هذين الاتجاهين. و من المؤكد أن هذا الملف سيكون ضمن الملفات البارزة خلال الحملة الانتخابية لرئاسة الجمهورية التي ستجري في نهاية أبريل و بداية ماي من السنة المقبلة . 2 -اغتيال أسامة بن لادن: هل هي نهاية القاعدة ؟ بعد سنوات من التعقب ، تمكنت فرقة أمريكية خاصة من اغتيال زعيم القاعدة أسامة بن لادن فوق التراب الباكستاني و إلقاء جثته في البحر . وقد اعتبر ذلك بمثابة انتصار بين للمخابرات الأمريكية في مواجهة عدوها الأول ، و ما تصفه بالإرهاب ، و في نفس الوقت ضربة قاسية للقاعدة . لكن بصرف النظر عن كونها تمثل انتصارا للرئيس الأمريكي ، فإن السؤال الأساس يكمن في تحديد انعكاسات ذلك على حركة القاعدة ، و الحركة الإرهابية العالمية التي تمثلتها ؟ من الواضح أنه منذ وصول الرئيس الامريكي أوباما لوحظ خفوت واضح في العمليات الإرهابية . و قد يعزى ذلك إلى سلسلة من العوامل نذكر من بينها : الضربات الموجعة التي تعرض لها الإرهاب العالمي بفعل الإجراءات الجماعية التي اتخذت, خاصة في ظل الأممالمتحدة كرد فعل على تفجيرات 11 شتنبر 2001. و قد انصبت على مجموعة من التدابير الأمنية في المجال المخابراتي و كذا العمل على تجفيف مصادر تمويل الإرهاب . كما أن السياسات الزجرية المختلفة التي تبنتها بعض الدول قد ساهمت في تطويقه و إضعافه . وعلى خلاف سياسة المواجهة و التصعيد التي نهجها الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن, فقد سعى الرئيس باراك أوباما في تعامله مع قضايا العالم و قضايا العالم العربي و الإسلامي ، إلى التهدئة و تجنب ما أمكن سياسة التهديد التي نهجها سلفه . بل عمل ، كما وعد بذلك ، على سحب القوات الامريكية من العراق . و لو أنه لم يتوفق في حل القضية الفلسطينية, حيث اضطر إلى الخضوع الى ضغط الوزير الأول الإسرائيلي و اللوبي اليهودي ، فإن شعبية الولاياتالمتحدة تحسنت ، خاصة مع مواقف الإدارة الأمريكية إزاء تطورات الربيع العربي . لقد مثل الربيع العربي تفنيدا لتلك النظرة التي كانت تنظر إلى العرب و كأنهم غير معنيين بالديموقراطية . فقد أكدت مختلف الانتفاضات أن العالم العربي هو جزء من هذا العالم يعيش نفس مشاكله . و له نفس المطالب المتعلقة بمناهضة الفساد و الاستبداد و إقرار الكرامة و الديموقراطية . و بالتالي لا يمكن الاستمرار في تكريس التماهي بينه و بين الإرهاب . هذه العوامل ساهمت بقدر أو آخر في دفع تنظيم القاعدة إلى تغيير استراتيجيته . فقد انكفأ في دول ضعيفة غير قادرة على الاضطلاع بوظائفها الأمنية كما هو الأمر بالنسبة للصومال و اليمن و دول الساحل الصحراوي . فهذه وحدات تتسم بضعف الدولة . يبدو اليوم التحدي الكبير مطروحا حول قدرة الولاياتالمتحدة و حلفائها على مناهضة القاعدة في أفغانستان و باكستان و اليمن حيث تتمركز ما يسمى بالقاعدة في الجزيرة العربية ،و التي تعتبر الجناح الأكثر دينامية في عالم الإرهاب . فقد تمكن من تجنيد نضال حسن الذي قاد عملية اغتيال ضد جنود أمريكيين في قاعدة فورت هود في التكساس ، و كذلك النيجيري فاروق عبد المطلب الذي حاول تدمير طائرة أمريكية . فهما من مجندي الزعيم اليمني أنور العلقي الذي تم اغتياله خلال هذه السنة . تدرك الولاياتالمتحدة أنه لا مفر من إيجاد تسوية لمشكلتين لهما ارتباط بمحرار الإرهاب . و يتعلق الأمر بأفغانستان حيث يدور النقاش حول إمكانيات الانسحاب من هذا البلد دون أن يترك فريسة لطالبان و القاعدة مما يشكل انتصارا لهما . و في الشرق الأوسط ، فإن حظوظ الإدارة الأمريكية في إيجاد تسوية أصبحت ضئيلة في ظل سنة انتخابية لا يمكن لأي سياسي أن يتجرأ خلالها على الضغط على إسرائيل . من ثم يمكن القول ان القاعدة تعرضت لضربات موجعة دون أن يعني ذلك نهايتها بعدما تم تعيين الظواهري على رأسها خلفا للزعيم الراحل أسامة بلادن . فمصادر التهديد تظل قائمة طالما أن الأزمات المغذية ما زالت لم تجد الحلول الملائمة . 3 -استمرار الأزمة المالية و الاقتصادية منذ سنة 2008 دخلت الولاياتالمتحدة في أزمة لم تتعاف منها لحد الساعة . كما تشهد على ذلك نسبة البطالة التي قاربت 10 % . و لم تبق الأزمة محلية ، فقد انتقلت إلى مجموعة من الدول الأوربية التي أصيبت لأسباب مختلفة بعدوى هذه الأزمة . وباتت دول كإسبانيا و اليونان و البرتغال وإيطاليا مهددة بالإفلاس بعد أن سبقتها إيرلندا . لم تمكن التدخلات المختلفة من إعادة الطمأنينة و النمو إلى الاقتصاديات المهددة . فمجموعة من دول منطقة الأورو باتت تعاني من مديونية مرتفعة لم تعد قادرة على خدمتها بوسائلها الخاصة . و من ثم التجأت إلى المساعدة الخارجية التي فرضت عليها إجراءات تقشفية قاسية لمواجهة البطالة و تخفيض المديونية التي ارتفعت في أكثر من نصف دول منطقة اليورو بشكل جعل الموارد الداخلية غير قادرة على مواجهتها ، و إعادة إنعاش الاقتصاد . هذه الأزمة الحادة التي ستتفاقم خلال السنة المقبلة طرحت جملة من القضايا . فقد تم النقاش حول دور العملة الموحدة التي تهم 17 دولة في مضاعفة انعكاسات الأزمة . و أمام ضعف الحلول و اشتداد حدة الركود الاقتصادي و الاجتماعي بدأ الحديث عن إمكانية التخلي عن هذه العملة و الرجوع إلى العملات الوطنية . و هو أمر يثير اليوم نقاشا حول جدواه و قابلية تحقيقه . و في نفس السياق برزت مقاربات متباينة بين الأقطاب الأوربيين في كيفية التعامل مع تداعيات هذه الأزمة . و هو أمر يضعف من قوة الإجراءات المتفق عليها . كما يبدو ذلك واضحا من خلال اتفاق 9 دجنبر الذي أكد على مبدأ التضامن مع الدول المتضررة ، و هو المبدأ الذي تدافع عنه فرنسا ، لكن في نفس الوقت كرس المنظور الألماني القائم على ضرورة إرغام تلك الدول بالالتزام بالصرامة في تدبير ميزانيتها ، أي ضرورة احترامها لمستوى مقبول من العجز . وعلى صعيد آخر ، فإن هذه الأزمة أعادت إلى الواجهة التساؤل حول قدرة منطقة اليورو على تجاوز مصاعبها الراهنة . مما يقوي شوكة المشككين في هذا البناء الداعي إلى العودة إلى السيادة الوطنية . و يتدعم هذا النقد بالاتجاه الذي أصبح يتخوف من دور الأسواق في تحديد الاختيارات السياسية للدولة . فقد لاحظنا كيف فتحت هذه الأزمة الباب أمام تدخلات أجنبية مما يطرح السؤال حول سيادة الدول في عالم اليوم . فقد أصبح السوق هو المحدد للسياسات . و في كل هذه الدول فقد أدت الحكومات القائمة ثمن عجزها عن تدبير الأزمة كما هو الأمر في اليونان و إيطاليا و إسبانيا و البرتغال و إيرلندا . وهناك سؤال مطروح حول قوة الديموقراطية و الاقتراع العام في مواجهة هذه الآفة . فأغلب الحكومات لم يعد لها هامش واضح للتصرف و بلورة برامج خاصة به. 4 - العالم العربي أمام إعصار الاحتجاج إذا كانت أوربا قد تعرضت لإعصار الأزمة الاقتصادية التي عصفت بعدد من الحكومات ، وغيرت النخب السياسية الحاكمة ، فإن العالم العربي قد خضع بدرجات مختلفة لمطالب سياسية تروم في مجملها وضع حد للفساد و الاستبداد . و قد انطلقت الشرارة الأولى بإحراق المواطن التونسي محمد البوعزيزي لنفسه . و كان ذلك بمثابة الشرارة التي أحرقت سهلا ، ففي أقل من شهر عصفت بنظام بنعلي و بعد ذلك بشهر امتدت إلى حسني مبارك في مصر . و كانت دموية في ليبيا أنهت ديكتاتورية امعمر القدافي . و ستنهي نظام صالح في اليمن , و ما زالت تراجيدية في سوريا . و تم إجهاضها في البحرين بفعل التوازنات الجيواستراتيجية و تدخل دول مجلس التعاون الخليجي .و نفس الأمر في الجزائر التي عانت من صدمة الحرب الأهلية . عبر تداعيات هذه الانتفاضة تمكنت الملكيات العربية من تدبيرها بنوع من السيولة الواضحة, إما لكونها تتوفر على إمكانيات مالية مهمة كما هو الشأن بالنسبة للملكيات البترولية أو لأنها تتوفر على تراكم إصلاحي ساعدها على الإنصات إلى نبض الشارع و بالتالي القيام بالإصلاحات الضرورية . و هي حالة المغرب ، حيث إن الملك محمد السادس استجاب من خلال خطابه التاريخي في 9 مارس إلى حركة 20 فبراير من خلال الدعوة إلى إصلاح دستوري عميق تكرس بالاستفتاء الذي أجري في فاتح يوليوز 2011 . لكن بصفة عامة ، فإن هذا المد الذي ما زال مستمرا ، قد حرك مجموعة من الأشياء . فمن جهة ، دفع مجلس الأمن الى التدخل في ليبيا بواسطة الحلف الأطلسي الذي كان له الدور الكبير في وقف مجازر القذافي . وقد أثار ذلك التدخل من جديد للنقاش حول دور الأممالمتحدة في مثل هذه القضايا التي ما زالت بعض الدول تعتبرها من الاختصاص الداخلي للدولة . و هو المنطق الذي يبدو معزولا و مسنودا بدول تعاني من ضعف الممارسة الديموقراطية كما هو الأمر بالنسبة للصين و لروسيا التي واجه فيها النظام معارضة بدعوى تزويره للانتخابات التشريعية التي جرت في شهر دجنبر . و يوجد هذا النقاش اليوم في الحالة السورية, حيث يواصل نظام الأسد قمع معارضيه . في نفس الوقت ، فقد خرجت جامعة الدول العربية من جمودها . و ربما كان ذلك من نتائج الانتفاضة المصرية . فقد باتت هذه المنظمة و بإيعاز من بعض الدول الخليجية أكثر استماعا لمطالب الشارع العربي .و بدا ذلك واضحا في الملف السوري . فقد تم توقيف العضوية السورية بعدما رفضت القبول بالخطة العربية لحل الأزمة ، و التي تتضمن من بين محاوريها إرسال مراقبين ووقف أعمال العنف و فتح حوار مع المعارضة . و هو أمر إيجابي لكنه لا يخلو من تساؤلات حول بواعثه و نجاعته . لكن من الواضح أن جامعة الدول العربية لا يمكن أن تستمر في العمل بنفس الأدوات و المرجعية القانونية . فإصلاحها أصبح ضرورة إذا أرادت فعلا أن تساير التطورات التي تعرفها المنطقة . في نفس السياق ، فإن هذه الدينامية العربية لا تخلو من تداعيات جيو سياسية . فلم يعد الشرق الأوسط فقط مرهونا بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني ، بل بات مسرحا لصراعات بين قوى مختلفة تريد أن تلعب دورا متميزا ، كما هو الأمر بالنسبة لتركيا و السعودية و قطر في مواجهة إيران القوة المعروفة بمساندتها لسوريا و حزب الله في لبنان ، و الشيعة بصفة عامة . لكن نتائج هذا الربيع العربي كانت أكثر وضوحا على المستوى الداخلي . ففي كل المسلسلات الانتخابية التي جرت ،لم يعد الحديث قائما حول التزوير و صنع الخرائط ، بل تمكنت اغلب هذه الأقطار من إجراء انتخابات اتسمت بقدر مقبول من النزاهة و الشفافية . و هو أمر مكن من إفراز قوى جديدة ، و هي القوى الإسلامية ، كما هو الشأن بالنسبة لتونس و مصر و المغرب . بالمقابل ، فإن القوى الحداثية تعثرت بشكل واضح .وهي مطالبة بمراجعة أوضاعها سواء منها الفكرية أو التنظيمية أو السلوكية . و بصرف النظر عن التفسيرات التي ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار حالة كل دولة على حدة ، فمن الواضح أن القوى الإسلامية قد دخلت في محك الممارسة ، ويقع عليها عبء الانتقال من خطاب المعارضة إلى الإتيان بإجابات للمشكلات التي تعيشها الشعوب العربية . و يطرح السؤال حول قدرتها على تحقيق الانتقال الناجع لممارسة السلطة . و من المؤكد أن السنة المقبلة ستشكل محكا لتحديد مدى التطور الذي ستعرفه هذه التجربة مع وصول الإسلاميين إلى دواليب السلطة . من الواضح أن هذه الزلازل التي عرفتها السنة التي نودعها ستستمر في إفراز ارتداداتها . فسنة 2012 ستمثل لحظة لمعرفة إلى أي حد و إلى أي مدى ستصل هذه الديناميات المختلفة . خاصة ، و أن مجموعة من الدول ستشهد انتخابات رئاسية ستبين درجة تأثير هذه الأحداث في إدراك الناخب و توجهاته, خاصة في ظل توقع بتوسع مظاهر الأزمة الاقتصادية التي سترخي بظلالها على العالم .