أصيب الشارع والرأي العام البلجيكي، بهزة كبيرة لسقوط عدد من القتلى والجرحى ظهر يوم الثلاثاء في مدينة لييج الواقعة جنوبي شرق البلاد، تحت وابل رصاص عشوائي وشظايا قنابل يدوية، أطلقت في مكان عمومي يعرف رواجاً كبيراً ، خاصة في الأجواء الاحتفالية التي تعرفها هذه الفترة من السنة، وذلك في سيناريو يذكر بحادث القتل الجنوني الذي عرفته مدينة أوسلو بالنرويج في 22 يوليوز الماضي. السلطات الأمنية والسياسية سرعان ما تداركت الموقف وطوقت الحادث، نجدة وإسعافات وتوضيحات إعلامية، مؤكدة أن لا خلفية إيديولوجية وراء هذا الاعتداء الشنيع، لتعود المدينة إلى نشاطها اليومي، تدريجياً، في جو ماطر. والواقع أن حالة هلع وذعر سادت أهالي المدينة وساحة سان لامبير ومحطة الحافلات المستهدفة، ولم تخفّ نسبياً إلا بعد إعلان السلطات الأمنية أن الجاني شخص واحد، وأنه لا علاقة له بالإرهاب، على عكس الإشاعات التي واكبت الانفجارات وإطلاق الرصاص. كما أكدت أن عدد القتلى لم يتجاوز الخمسة (بصرف النظر عن الحالات التي لا يزال الأطباء ينكبون عليها). هول الحادث وعنفه وفجائيته، عناصر خلقت ردود فعل مباشرة وقوية متعددة من مختلف المصادر، كما سجل عدم تخلف أي مسؤول عن المشهد، رغم سوء أحوال الطقس ومباشرة الحكومة الجديدة لأشغالها بعد عطالة حكومية مطولة، وفي أجواء الظرف السياسي البلجيكي الحرج، وتداعيات الأزمة المالية. فقد عبر مختلف المسؤولين السياسين البلجيكيين والأوروبيين، عن اندهاشهم وتأثرهم للحادث، ولم يتخلف أحد عن ركب المتأثرين والمصدومين والمواسين بمن في ذلك جوزي باروسو رئيس المفوضية الأوربية، وهيرمان فان رومباي رئيس الحكومة البلجيكية السابق والذي يشغل حالياً منصب رئيس مجلس الاتحاد الأوربي، وجيرزي بوزيك رئيس البرلمان الأوربي. .. أما بلجيكياً فقد أعلن الناطق باسم البلاط، انتقال الملك ألبير والملكة باولا إلى قصر مدينة لييج، قريباً من مكان الحادث، ولوحظ تواجد إيليو دي روبو رئيس الحكومة إلى جانب وزيرة الداخلية جويل ميلكي، في عين المكان، مباشرة بعد وقوع الحادث، وقيامهما بتدارس الموقف مع رجال الأمن الذين طوقوا الساحة تحسباً لأي طارئ. وفي هذا إشارة إلى خطورة الحادث والاهتمام الرسمي بالتعرف على ظروفه قبل المزايدات الاعلامية المحتملة. وفعلاً فلم تمر على الحادث إلا بضع ساعات حتى نظمت ندوة صحافية أمنية توضيحية في مدينة لييج. كما قام المركز الفدرالي لمواجهة الأزمات بإصدار بيان كذب فيه مختلف الإشاعات، سواء منها المروجة لوجود مسلحين متعددين أو لوقوع هجمات بأماكن أخرى، مما تنشط مخيلة الأهالي المرعوبين في تصوره وتصديقه. فقد أعلنت دانييل ريندرس وكيلة الملك، في مؤتمرها الصحفي، أن حصاد هذا الحادث المروع بلغ (لغاية ليلة الأربعاء) 75 جريحاً بدرجات متفاوتة الخطورة، وخمسة قتلى من بينهم الشخص الذي قام بالعملية، والذي أطلق النار على نفسه قبل وصول رجال الأمن إلى الساحة. كما صرح رئيس بلدية لييج ويلي ديميير أن ضحايا الحادث الجرحى نقلوا بسيارت الإسعاف إلى مستشفى المدينة وأن القتلى الضحايا هم شاب في العشرين وتلميذان كانا عائدين من قاعة امتحان (بيير ويبلغه عمره 16 سنة، ومهدي وعمره 15 سنة) وعجوز كانت تنتظر الأتوبيس، وطفل لا يتجاوز عمره 23 شهراً...مضيفاً أن هذا الحادث عمل منفرد معزول، لكنه كارثة زرعت الأسى في قلب المدينة». وقد كشفت المصادر الأمنية أن الجاني الذي قام بإطلاق الرصاص ورمي المفرقعات، بلجيكي يسكن مدينة لييج يدعى نور الدين العمراني المولود في15 نونبر 1978، وأنه شخص معروف لدى الشرطة وفي أوساط القضاء، فهو ذو سوابق، اعتقل وحكم عليه سنة 2008 بعقوبة سجن 58 شهراً سجنا نافذاً وغرامة 11000 أورو، بتهمة المتاجرة في المخدرات وحيازة أسلحة نارية وقطع حربية، وبالقيام بأعمال إجرامية ومنافية للأخلاق. وقد تمكن رجال الامن فعلاً، بفضل وشاية مجهولة المصدر، من أن تضبط لديه عشرات الأسلحة البالغة الخطورة وكمية من الذخيرة المختلفة العيارات، إضافة إلى مئات من نبتات القنب الهندي (الكيف) الذي كان يزرعه تحت سقف مستودعه. كما تمكن المحققون من التعرف في شخصه على هاو لجمع الأسلحة، مكنته مهنته كميكانيكي لحّام من اكتساب خبرة في تفكيكها وتركيبها وتصنيع كواتم الصوت لها..لكنهم لم يتوصلوا إلى معرفة مصدر هذه الترسانة أو وجهتها ، كما لم يصادفوا أي عنصر يشير إلى وجود علاقة ما لهذا الشخص، بأي نشاط إرهابي.. وجاء في تصريح وكيلة الملك، أنه لم تبد على المدعو نور الدين العمراني أي بوادر تشير إلى اختلال عقلي أو نفسي ما، سواء خلال التحقيق أو المحاكمة أو طيلة فترة السجن، وأن دوافع قيامه بالاعتداء المسلح بهذا الشكل مازالت مجهولة. وأفادت تصريحات مختلف المسؤولين الأمنيين، بأن آخر عنصر في ملف هذا الشخص، هو أنه كان قد توصل بدعوة للحضور إلى مخفر الشرطة هذا الثلاثاء للاستماع إليه، لكنه تخلف عن الموعد ليتوجه بدل ذلك إلى ساحة سان لامبير القريبة من مسكنه، مدججاً برشاش ومسدس وقنبلتين يدويتين، ليستعملها في الهجوم المجاني على المارة المسالمين والمنتظرين في محطة الحافلات ، قبل أن يديرالمسدس نحوه وينتحر. ورغم أن كل المؤشرات تفيد باحتواء الأمن للحادث، وعودة الحياة الطبيعية لساحة سان لامبيرن واستئناف النشاط التجاري والتسوق الذي تعرفه التحضيرات لأعياد الميلاد والسنة الجديدة، فإن خلفيات الحادث لا بد وأنها ستفرز تداعيات إنسانية وسياسية ستعتبر من التحديات التي ستواجهها الحكومة الناشئة. فمن المعروف أن بلجيكا عرفت هجومات جنونية واعتداءات مجانية في الشارع العام قبل اليوم، ولعل أشهرها ما يعرف بقتلة البرابان والون الذين نشروا الذعر في مختلف المدن البلجيكية في الثمانينات، بإطلاق الرصاص العشوائي في أماكن عمومية، لكن حادث لييج هذا، بعيداً عن مسح دموع الثكالى ومواساة المصابين وتضميد جراح المصابين، وإعادة النظر في التعامل مع ذوي السوابق، مرشح لفتح أبواب التكهنات والتخوفات والمزايدات، أمام أكثر من طرف. فهذا العمل الإجرامي يتميز بكونه من إنجاز بلجيكي من أصل مغربي.