بعدما تخلص المغرب من السلطان الوهمي ابن عرفة في اكتوبر 1955 تم تنصيب ما سمي بمجلس حفظة العرش (المقري، البكاي، الصبيحي والطاهر أوعسو) كهيئة رفض الشهيد المهدي بن بركة الاعتراف بها باسم حزب الاستقلال حسب تصريح أدلى به الشهيد لمحطة»راديو ماروك» بالرباط, بينما كان احمد بن سودة باسم حزب الشورى والاستقلال قد اعترف بمجلس حفظة العرش في تصريح أدلى به لإذاعة الدارالبيضاء. لكن ذلك لم يمنع حفظة العرش من تعيين الفاطمي بن سليمان كمكلف بتشكيل حكومة رفض الاستقلاليون المشاركة فيها, ولمدة شهر تقريبا ظل المغاربة يستمعون على أمواج الأثير الراحل الفاطمي بن سليمان يقول «والله نسأل» معبراً عن أمله في أن يحل محل الحاج محمد المقري في الصدارة العظمى، ولكن الرياح ستأتي بما لم تشتهيه سفينة الحاج الفاطمي بن سليمان الذي سيضطر إلى الانسحاب تاركا للمرحوم امبارك البكاي تشكيل حكومة سيقدمها»إلى» جلالة الملك يوم الأربعاء 24 دجنبر1955 بعد يومين من عودة الملك الى عرشه. وعلى امتداد عدة أسابيع ظل المرحوم الفاطمي بن سليمان مجرد»رئيس معين» لتشكيل الحكومة واختفى «الرئيس المعين» من المشهد الإعلامي وكاد يطويه النسيان لولا أن محمد الخامس عينه عاملا على فاس يوم الأربعاء 14 دجنبر 1955 ضمن الدفعة الأولى ممن تسلموا منه رحمه الله ظهائر تعيينهم كعمال المملكة. لهذا يحق لنا نحن عامة الناس أن نتساءل: هل بن كيران الآن أصبح رئيسا للحكومة, أم يجب علينا أن نحترمه ونضعه في مكانه الحقيقي أي رئيس معين، لأن الانتقال من رئيس معين إلى رئيس فعلي للحكومة يتطلب المرور من عدة مراحل يقوم سيادته بانجازها هو ومن معه في «البيجيدي». زعيم «الباجدة» ما زال لحد الآن يجري مشاورات مع أحزاب وطنية وأخرى إدارية, أي أحزاب خرجت إلى الواجهة بإرادة أصحاب الحل والعقد والعدالة والتنمية لا تختلف كثيرا عن الأحزاب الادارية الأخرى ومن يشك في هذا عليه أن يعود إلى مذكرات الخطيب «مسار رجل». بعدما يتفق بن كيران مع غيره ممن سيكونون حلفاءه، ستأتي مرحلة صياغة التصريح الحكومي بعد ما يكون بن كيران ومن معه قد ذهبوا الى القصر الملكي لأخذ صورة مع الملك يوم يتم رسميا تنصيب حكومة بن كيران. بعد مراسيم تنصيب الحكومة والاستماع إلى موسيقى ال 55 في رحاب القصر يكون على السي بن كيران ومن معه أن يتجهوا إلى مجلس النواب الجديد بعد ما يكون قد اجتمع وعين رئيسه، حتى يتمكن الرئيس المعين من إلقاء تصريح باسم الحكومة الجديدة وبعد ذلك يجب أن يجلس بن كيران ومن معه للاستماع إلى خطابات أحزاب المساندة وأحزاب المعارضة. ثم يحل الموعد... موعد ثقة البرلمان الجديد في الحكومة الجديدة في إطار الدستور الجديد. وبعد ذلك فقط يحق الحديث عن بن كيران رئيس الحكومة والتوقف عن كل كلام عن «الرئيس المعين» لهذا وربما أننا تسرعنا وظلمنا بن كيران يوم شرعنا في اعتباره رئيسا للحكومة وهو ما زال رئيسا معينا ولهذا على ابن حي العكاري بالرباط أن يتحلى بالصبر والتبصر, ويترك الأيام تتوالى وإن كانت أياما قصيرة يراها هو طويلة وفي هذا الصدد يقول المغاربة» لا زربة على صلاح». أنا أعرف من هو عبد الإله بن كيران وربما أنني أكثر الناس معرفة بابن للّا مفتاحة أبقاها الله. فإن كان عبد الإله من مواليد حي العكاري بالرباط عام 1954 فأنا عرفته ربما منذ أن كان في بطن للّا مفتاحة. يعرف المغاربة أن الجمعة 11 شتنبر1953، كان موعدا للضربة الأولى، ضربة علال بن عبد الله الذي حاول أن يخلص المغاربة من السلطان المزيف ابن عرفة. والد عبد الإله بن كيران كان من الذين حضروا مراسيم ما كنا نسميه «صلاة بزز» أي صلاة الجمعة تحت الإكراه. كان والد بن كيران من الناس الطيبين في حي العكاري ممن يعتبرون أن صلاة الجمعة لا تجوز بعد إبعاد الملك الشرعي محمد الخامس. ولهذا كان قراره أن لا يذهب لصلاة تقام باسم بن عرفة لكن «مقدم الحومة» لا يعرف الملاغة: «المخزن اختارك أن تذهب الى صلاة «بزز» فلا حق لك أن ترفض استدعاءات المخزن وإلا فعليك أن تنتظر ما لا يحمد عقباه». في ذلك الحين كان واحد من رجالات حي العكاري، وإسمه علال بن عبد الله، ينتظر خروج السلطان الوهمي إلى المشور ليوجه له «الضربة الأولى». كنت ذلك اليوم أتناول الغذاء عند ابنة عمتي «الحبيبة» وهي ليست فقط جارة للّا مفتاحة، بل كانت لها معها علاقة صداقة وحسن الجوار. كنا ما زلنا حول مائدة الغداء لما جاءت سيدة من عند الجيران تخبرنا بأن زوج للّا مفتاحة عاد من تواركة حيث كان مضطرا إلى الذهاب إلى «صلاة بزز» وجاء بخبر سار: لقد قتلوا ابن عرفة. فرحت لسماعي خبر التخلص من ابن عرفة لأن عامة الناس من المغاربة بدأت معنوياتهم تنهار اعتقادا منهم أن الملك لن يعود وخاصة بعدما «صعد إلى القمر» ولهذا حمد الناس الله عندما علموا بخبر «الضربة الأولى». لكي أعرف ما حصل بالضبط في تواركة كان علي أن استمع كباقي المغاربة إلى نشرة أخبار إذاعة لندن. وفي تمام الساعة الثانية تحدثت هيئة الإذاعة البريطانية عن «اعتداء تعرض له السلطان الجديد في المملكة المغربية». وسأعرف فيما بعد، كباقي عباد الله، تفاصيل ما حدث بالضبط في المشور يوم الجمعة 11 شتنبر1953 وكان بن كيران مازال في بطن والدته أطال الله عمرهما. ما أثار انتباهي بعد ما أصبح عبد الإله بن كيران «رئيسا معينا» هو كونه ذهب هو ومن معه إلى منزل الراحل الدكتور الخطيب, وتساءلت مع نفسي: «لماذا لم يزر هؤلاء الناس منزلا مجاورا في نفس الحي كان بالذات إقامة الراحل إدريس البصري؟». أنا أتصور أنهم في العدالة والتنمية قاموا بواجب الإمتنان للدكتور الخطيب والإعتراف بفضله عليهم وهذا من حقهم. فيما يخص علاقات هؤلاء الناس بالخطيب طرح علي ذات يوم مصطفى الرميد في بهو مجلس النواب هذا السؤال: «اشعندك مع العدالة والتنمية؟». كان جوابي بسيط: «علاقات حزبك بالخطيب كواحد من الذين ظلوا حاضرين في كل العمليات التخريبية ضد الديمقراطية». هنا صاح الرميد : «أسيدي الخطيب ما عندنا معاه غير الخير والإحسان». كان من حقي أن اعتبر كلام الرميد مادة «سبق إعلامي» يحق لي أن أعلق عليه في كلام الصباح بجريدة الأحداث المغربية ولما قرأ مصطفى الرميد المقال قال لي: «أنت كتكذب». اعتقد الرميد أو توهم أن من حقه أن يقول لي كلاما لا حق لي في التعامل معه كصحفي وأدركت فيما بعد سبب غضبة الرميد: «إن جبرو لم يكتب ما كتبه إلا لأنك قلت له ذلك». هذا ما قاله زعماء آخرون في العدالة والتنمية في اجتماع فريقهم ذلك الصباح وهذا ما أخبرني به الحاج محمد الشعبي وكان أنذاك نائبا عن القنيطرة في البرلمان باسم العدالة والتنمية. لنعد إلى تاريخ علاقات العدالة والتنمية بالخطيب، الطبيب الجراح الذي يعتبر من «رواد» فكرة خلق الأحزاب الإدارية, إذ كان مع أحرضان في عملية «التكتل الشعبي» التي تحولت إلى الحركة الشعبية, وهو أول حزب إداري أَعلن من كان عاملا على ناحية الرباط المحجوبي أحرضان عن ميلاده هو والخطيب في أكتوبر 1957. هذه هي الظروف التي نفذ فيها الاثنان تعليمات بخصوص تأسيس أول حزب إداري. في 29 ماي 1960 جربت الحركة الشعبية حظها في الانتخابات الوحيدة النزيهة التي عرفتها بلادنا، وهي الانتخابات البلدية والقروية, فكانت النتيجة هزيلة بالنسبة لأصحاب الخطيب وأحرضان لأن الاتحاديين والاستقلاليين تقاسموا المجالس البلدية والقروية. وبعد ثلاث سنوات كان أحرضان والخطيب إلى جانب اكديرة وأوفقير في 20 مارس بالدارالبيضاء، يوم الإعلان عن تأسيس حزب إداري آخر، حزب الفديك أو حزب اكديرة. كل الوزراء سقطوا في انتخابات 17 ماي بعد مرور شهرين على تأسيس الفديك ولم يحصل على مقعد بالبرلمان إلا وزيران هما اكديرة في البيضاء والخطيب في اكنول. كانت هذه النتيجة هدية من اكديرة للخطيب الذي كان يتطلع إلى هدية أهم سيحصل عليها في نوفمبر1963 يوم أصبح على رأس مجلس النواب في إطار وزيعة «ديمقراطية» ما بين عناصر الفديك. غضب الخطيب في صيف 1965 لأن الحسن الثاني حل البرلمان وضاع للخطيب منصبه كرئيس لمجلس النواب. كيف انتهت غضبة الخطيب؟ هذا بالذات ما يحكيه الطبيب الجراح في الصفحة 138 من «مسار حياة» كتاب يعتبره مذكراته : «في سنة 1973 استقبلني صاحب الجلالة الحسن الثاني في قصر دار السلام، فطلبت منه الإذن لي بإنشاء حزب إسلامي . وفي تجمعات الحركة الشعبية الدستورية فكرنا خلال سنوات 1973- 1974 في تغيير اسم الحزب الذي انشق عن حزب احرضان في صيف 1965، بأن سميناه النهضة الإسلامية... بهدف «تكوين الشباب» وتربيتهم تربية إسلامية حقيقية...». ويضيف الخطيب في الصفحة 139 : «لا خوف من احتواء الحركة الشعبية الدستورية من أي جهة من الجهات, لأن الإسلاميين انخرطوا معنا كأفراد». الخطيب لا يقول الحقيقة أي أنه كان كفيلا لدى المخزن عند تأسيس هيئة سياسية تريد أن تجعل من المغاربة مسلمين وكأنهم كانوا كفارا. يعترف عبد الكريم الخطيب باتصالات ربطته بعبد الكريم مطيع المتهم في جريمة اغتيال الشهيد عمر بن جلون في مثل هذا الشهر سنة 1975، جريمة عهدت الأجهزة القمعية بتنفيذها إلى مجموعة من الشباب قيل بأنهم من الشبيبة الإسلامية، منظمة كان عبد الإله بن كيران ينتمي إليها وعمره واحد وعشرين سنة. يقول عبد الكريم الخطيب في الصفحة 97 من مذكراته (الخطيب ومسار حياة) عن عبد الكريم مطيع: «عرفته في أوائل السبعينات عندما عقدنا المؤتمر الأول للشبيبة الشعبية الدستورية بقاعة علال الفاسي، فقد زارنا صدفة ولما أخبرني باغتيال عمر بن جلون سألته: «هل لك دور في ذلك؟» أنكر فقلت له: «ولماذا الخوف؟». ولما علمت بعد ذلك أنه غادر المغرب سرا لم أفهم موقفه». الخطيب الذي كان «سمنا على عسل» مع الأجهزة من الصعب أن نصدقه وهو يقول عن مطيع بأنه غادر المغرب سرا و»لم أفهم موقفه». هل يعتقد الخطيب أنه يفهم أكثر من غيره، العادي والبادي يعرف أن الطبيب الجراح تدخل لدى الأجهزة لفائدة مطيع حتى تكون السلطات الحدودية على استعداد لترك عبد الكريم مطيع يغادر المغرب «سراً». وعبد الكريم الخطيب الذي زار منزله عبد الإله بن كيران وأصحابه ليقدموا له الشكر أو بالاحرى لتقديم تشكراتهم لعائلة الخطيب, لكن الباجدة وصلوا الآن الى النتيجة بفضل دور الكفيل (Le parrain) الذي اضطلع به عبد الكريم الخطيب لدى المخزن لفائدة العدالة والتنمية نظراً لما للخطيب من علاقات عائلية مع المخزن، علاقات متجدرة عرف هو كيف يوظفها لتزكية كل سياسة تتجه الى معاكسة قيام نظام ديمقراطي بالمغرب. ونعد إلى ما قاله أول رئيس لحزب العدالة والتنمية في الصفحة 109 من مذكراته: «صليت الجمعة بمسجد باريس، وعند انتهاء الصلاة وجدت شبانا يوزعون مناشير يتهمني فيها عبد الكريم مطيع بأنني كنت أسعى إلى استعماله جاسوسا للديوان الملكي، اندهشت لهذه التهمة الباطلة، كل أعماله (مطيع) غامضة ومشبوه فيها، ماذا يريد؟ ماهي أهدافه؟ الله أعلم». نحن كبشر نضطر للكذب ونحن صغار، فيقال بأنها براءة الأطفال، ولكن حينما نكذب على الله -أي نقول جزءا من الحقيقة بدلا من أن نقول الحقيقة، كل الحقيقة- فهذه معصية وإثم وهذا ما ينطبق على الراحل عبد الكريم الخطيب. في تسجيل لبرنامج «الشاهد» تم بثه في نهاية 2007 أنكر الخطيب أن يكون له أي دور في جريمة اغتيال الشهيد عمر بن جلون، بطريقة أثارت انتباه نظارة «الأولى» بمن فيهم من لم يكن له علم بظروف وملابسات اغتيال مدير جريدة المحرر. لكن هذا لم يمنع الخطيب من الاعتراف بكونه استقدم محاميا مصريا من الإخوان المسلمين للدفاع عن «الشباب المسلمين» الذين اغتالوا عمر بن جلون, ويضيف الخطيب بأن وزارة العدل رفضت السماح لمحامين غير مغاربة بأن يرافعوا في قضية كان أصحاب المخزن يصرون على محاصرة أسرارها وخباياها، كما هي العادة. هنا يعترف الخطيب بأنه قام بتكليف محامين مغاربة بالدفاع عن شباب قاموا بما يسميه مؤسس حزب العدالة والتنمية ب «الكفاح المسلح» أي اغتيال عمر بن جلون وكل هذا دليل على أن الحقد على المناضلين الشرفاء شعور يتوارثه من كبروا وترعرعوا في أحضان عائلات مخزنية, لأن جد الخطيب من أمه ما هو إلا الكباص الذي نصبه الاستعماريون الفرنسيون، في الصدارة العظمى في «فجر» حمايتهم علينا وحقد المخزن هو أن كل من خالفهم في الرأي كما كان الحال بالنسبة لعمر بن جلون، تضطر الأجهزة إلى التخلص منه بشتى الطرق وفي النهاية كان اللجوء إلى أناس يدعون أنهم قتلوا عمر بن جلون لأنه كافر بالله. ولو صدقنا هذه الخرافة فلماذا يكون عمر هو الوحيد من المغاربة الذي تخلصت منه الأجهزة باعتباره كافر بالله؟ هذا هو الخطيب الذي ذهب بن كيران وجماعته لزيارة منزله كما لو تعلق الأمر بزيارة ضريح. وما دامت العدالة والتنمية تقوم بزيارة المنازل أو الأضرحة, فلماذا لم يزوروا منزل إدريس البصري المجاور لمنزل الخطيب بالرباط ؟ من باب الامتنان لوزير الداخلية الراحل الذي اعتمد على صديقه علي لمرابط في يوليوز 1999 قبل رحيل الحسن الثاني، ليربط له اتصالا بالجريدة الاسبانية «البايس» من أجل استجواب صحفي نشره علي المرابط وبوبكر الجامعي في «لوجورنال». كان المغاربة يوم الأحد 25 يوليوز1999 يسيرون في جنازة الحسن الثاني ويقرأون في أسبوعية «لوجورنال» ما صرح به ادريس البصري قبيل رحيل الملك بأن حكومة التناوب عملية تمت مع الاتحاديين وفيما بعد سيأتي دور العدالة والتنمية. لهذا من واجب جماعة العدالة والتنمية أن تزور كذلك منزل عائلة إدريس البصري من باب الاعتراف بكونهم اليوم يدخلون إلى دار المخزن بناء على «تكهنات» وزير الداخلية السابق.